الكاتب العربي.. أين يقف..؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ربما ثمة مبالغة إذا ما قلنا إن الكاتب العربي عموماً يتمتع بوضع اعتباري يمكّنه من الامساك بناصية المشهد الثقافي العام، هذا إذا ما اعترفنا مسبقاً بأن المشهد الثقافي في صورته المجملة يصنعه الكاتب العربي ويغذيه بالتدفقات الفكرية والفلسفية والمعرفية، ولكننا نجد أن الكاتب العربي بصورة عامة، لا يرقى لمستوى أن يكون مساهماً فعالاً في بلورة المشهد الثقافي الكوني، وذلك لأسباب عدة، منها على وجه التحديد انشغاله إلى هذه اللحظة بالبحث طويلاً ومتشظياً عن فضاءات هويته الفكرية والثقافية في خضم التموجات الثقافية التي تعصف بالعالم من كل مكان، ففي حين أن المشهد الثقافي الإنساني لم يعد معنياً كثيراً بالتوجهات الهوياتية الفكرية التي تقوم على تأسيس فضاء ثقافي منعزل لا يملك القدرة على المساهمة في اشباع الفضاء الثقافي الكوني بالآفاق الجديدة والمنفتحة والرحبة، نجد أن الكاتب العربي ينصرف إلى البحث عن مكان له وسط هذه التموجات الثقافية، ولكن انطلاقاً من كونه يشتغل على هويته الفكرية القومية أو الدينية ويحاول من خلالهما زحزحة وتحريك واقعه الثقافي الذي ربما أصبح يعاني من الجمود والتكلس فنجده مترجرجاً وسط محيطه وواقعه وبيئته وهويته، ولذلك لم يعد قادراً على خلق صياغات فكرية ووقائع معرفية على سبيل التجديد والإبداع، وتنقصه مهارة استثمار الوقائع الثقافية والفكرية الموجودة بعقلية تداولية على حد قول المفكر علي حرب ومن ثمَّ محاولة التعاطي معها بروح خلاقة ومنفتحة، وأيضاً لا يجيد استثمار المعطيات الثقافية التي تنتجها الحداثة ليكون تبعاً لذلك واحداً من أهم الروافد التي تغذي الحراك الثقافي الكوني بالجديد والعميق والمنفتح والمغاير، ولذلك أجد أن الكاتب العربي أصبح مسكوناً بهواجس تثبيت هويته الثقافية أكثر من المساهمة في تحريك المشهد الثقافي الكوني، وأصبح مشغولاً بهويته أكثر من اشتغاله بأن يكون محركاً فعالاً في صناعة التعددية الثقافية والفكرية ومنحها زخماً معرفياً وفكرياً، تواقاً وميالاً للتجاذب والتداخل والتداول والتمازج في أعماق تلك التعددية الثقافية وبالتالي ترك بصماته المميزة عليها، وعليهِ فإن الكاتب الذي يبحث عن وضع اعتباري حالي من دون أن يكون صانعاً للثقافة والمعرفة بفضاءاتها الإنسانية العامة يبقى يدور في حلقة مفرغة من الاشتغال على برمجياته الثقافية الماضوية أو الهوياتية، في الوقت الذي أصبح فيه العالم اليوم ينخرط تدريجياً وتكاملياً وتصاعدياً وتداولياً في واقع عصري كوني معولم، وإلى هذا المعنى يشير الشاعر أدونيس بقوله: الإنسان لا يكون ذاته إلا بقدر ما يكون الآخر..
وفي مقابل ذلك علينا ألا نغفل عن حقيقة مؤلمة تتمثل في أن المؤسسات الثقافية الحكومية في العالم العربي لا تعمل وليست مهتمة بتوفير وضع اعتباري للكاتب، أو بتوفير مناخ ثقافي حقيقي وحي ونابض بتطلعات الثقافة الحرة المنسجمة مع تطورات الحالات الثقافية في كل مكان من العالم، بل تعمل المؤسسات الرسمية على أن يكون الكاتب عاكساً في أكثر من اتجاه للثقافة التي تنتهجها السلطة الحاكمة أو عاكساً للثقافة السائدة أو مجتراً للثقافات الجامدة المعتادة، وفي الوقت الذي نجد فيه الكاتب الحر يشتغل من خلال فردانيته الثقافية على خلق وإيجاد مساحات فكرية حرة في التفكير الجمعي للمجتمعات العربية، أو يشتغل على خلق مناخ ثقافي يتماهى استثمارياً وتداولياً وايجابياً مع حالة المشهد الثقافي الكوني، نجد أن المؤسسات الرسمية تريد منه أن يكون بطريقة أو بأخرى عاكساً لتوجهاتها الثقافية والمعرفية، وفي هذه الحالة إما أن يكون المثقف والكاتب صوتاً مستقلاً حراً يواجه التخلف والاستبداد السياسي ويكسر حالة الجمود الثقافي، أو المطلوب منه أن يكون صوتاً يُضاف إلى الأصوات الكثيرة الأخرى التي لا شأن لها سوى تلميع انجازات السلطة الرسمية، وفي هذه الحالة يقع الصدام بين الكاتب المسكون باجتراح الوقائع والمساحات الثقافية الحرة التي تساهم في رفع مستويات الثقافة والفكر في المجتمع، وبين المؤسسات الرسمية التي تريد منه ألا يكون حراً فيما يكتب أو فيما يفكر أو فيما يجترح، ولذلك فأن العلاقة عادةً بين الكاتب والمؤسسة الرسمية يشوبها الكثير من عدم التوافق وعدم الانسجام وعدم التعاون، ومن جملة الأسباب الأخرى التي من شأنها عدم اهتمام المؤسسات الرسمية بالكاتب وبوضعه الاعتباري هي أن المؤسسات الرسمية الثقافية لا تملك رؤية واضحة بخصوص مهمة الكاتب وتنعدم فيها آليات الاستثمار الحقيقي للثقافة التي يجترحها الكاتب، علاوةً على افتقار المؤسسات الرسمية الثقافية للفكر المؤسساتي المدني الذي يعني أولاً بخلق مساحات ثقافية حرة بعيداً عن الفكر السلطوي أو المؤسساتي الجامد والمألوف والروتيني والمعتاد، وأتذكر في هذا المجال أن دولة مثل السويد عادةً ما تتبنى اهتمامات الكتّاب وتلاحق اصداراتهم وتهتم بعقد المؤتمرات الثقافية بخصوصها والتي تصبح بالتالي معنية بمتابعة آخر أفكار الكاتب وميوله الفكرية ومناقشته بروح انفتاحية وحرة، والعمل على ترويج كتابه على مجال أوسع، فضلاً عن تبني تلك المؤسسات لتوجهاته الكتابية وتوفير مناخ كتابي مريح له ودعمه بكافة الوسائل والطرق، لأنها تعرف جيداً أن الثقافة أحد أهم الأساسات لبناء مجتمع ناهض وحيوي وفعال ومثري..
ولكن في ناحيةٍ أخرى علينا أن نعرف مقدار المساحة التي تصبح ضرورية للكاتب أن يتحرك من خلالها وهي التي بالتالي تمنحه وضعاً اعتبارياً يليق بمجهوداته الإبداعية في حقول المعرفة والصياغات الثقافية، وإلا أصبح الأمر أشبه بمطالبات ملتبسة أو مشوشة أو غارقة في الخيالية من قِبل الكاتب نفسه، وليس خافياً على أحد أن الإبداع الكتابي يزدهر في مناخات من الحرية الفكرية وفي أجواء طبيعية خالية من قهر الاستبداد والاستلاب الفكري الذي تمارسه السلطة أو المجتمع أو التيارات الدينية الأصولية، وأعتقد أنه متى ما توفر للكاتب الحد الطبيعي من مناخ الحرية فأن ذلك يعتبر كافياً في اتجاهٍ ما لإتاحة المجال أمامه للإبداع والتألق والعطاء الثقافي والمعرفي، وهناك ثمة اعتقاد لدى المجتمع أن المطلوب من الكاتب لوحده دون غيره أن يكون دائماً في وجه المدفع كما يقول الدكتور أحمد البغدادي، وربما يطالبه المجتمع بقسوة أن يكون مدافعاً عن قضاياه من غير أن يتحمل المجتمع أدنى مسؤولية في الدفاع عن الكاتب حينما يقع في مواجهة مريرة مع الاستبداد السياسي أو الديني، وعليهِ فإن الكاتب ليس مطلوباً منه أن يؤمن بثقافة الاستشهاد على حد قول الروائي رؤوف مسعد، بل بالدفاع عن حقه الطبيعي في التعبير والرأي والممارسة الثقافية من دون أن تلحق به أضرار نفسية أو جسدية أو شعورية أو أن تستباح كرامته، ولن يستقيم الوضع بالكاتب من غير أن يستوعب المجتمع أولاً أهمية الثقافة في حياته العامة، تلك الثقافة التي يحاول الكاتب المثقف الجاد والحر أن يجترحها انطلاقاً من إيمانه بضرورة رفع المستويات المعرفية والتفكيرية والنقدية في المجتمع، وأن يؤمن المجتمع في المقابل بضرورة الوقوف خلف الكاتب ومساندته والدفاع عنه، وفي هذه الحالة تصبح الثقافة شأناً مجتمعياً عاماً وليس مسؤولية الكاتب فقط، وهناك أمر آخر متى ما توفر الوعي الفكري والنقدي لدى المؤسسات الثقافية الرسمية بأهمية الكاتب والمثقف في تدعيم النهضة الثقافية في المجتمع وتوفير المناخات الثقافية الحرة له البعيدة عن هيمنة الوصاية الدينية أو السلطوية، تصبح تلك المؤسسات معنية تالياً بتوفير مناخات صحية حقيقية تدفع بالكاتب نحو الإبداع والممارسة والانطلاق..
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com