حتى لا يتحول الاستحقاق الرئاسي إلى معركة تكسير عظام جديدة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جرى الأحد الماضي الانتخاب النيابي الفرعي بدائرة المتن أحد أقضية محافظة جبل لبنان على المقعد الذي شغر باغتيال الوزير بيار الجميل في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2006، وبالمثل جرى في اليوم ذاته الانتخاب الفرعي بالدائرة الثانية في بيروت على المقعد الذي خلا باغتيال النائب وليد عيدو في 13 حزيران/يونيو من اعلام الجاري. واجهت عمليتا الانتخاب صعوبات كبيرة كان على رأسها الصعوبات الدستورية التي تمثلت في رفض رئيس الجمهورية إميل لحود التوقيع على مرسوم إجراء الانتخابين الفرعيين في دائرة المتن والدائرة الثانية في بيروت الذي أصدرته رئاسة الوزراء، وهو الرفض الذي قوبل بإصرار من الحكومة على إجراء الانتخابين. جاءت نتيجة الانتخاب في دائرة المتن التي دارت بين الرئيس أمين الجميل ممثلاً لتيار المستقبل الذي يشكل الأغلبية وتتشكل منه الحكومة وكميل خوري ممثلاً للتيار الحر المعارض الذي يتزعمه العماد ميشيل عون في مصلحة الطرف المعارض خلافاً لتوقعات كثيرة توقعت فوز مرشح التيار الحاكم. بينما جاءت نتيجة الانتخاب في الدائرة الثانية من بيروت لمصلحة مرشح تيار المستقبل محمد الأمين عيتاني بفارق بلغ 19432 صوتاً عن مرشح المعارضة إبراهيم الحلبي. إذا كانت نتيجة الانتخاب في دائرة المتن قد جاءت محبطة لطرفي النزال على السواء، حيث لم تحمل ما يعتبر بحق نصراً كبيراً لطرف على الأخر، بعدما تمثل الفارق بين المرشحين في 418 صوتاً لا غير من أصل 78650 صوتاً صحيحاً أدلى بها الناخبون، فإن عملية الانتخاب على المقعد السني في دائرة بيروت الثانية جاءت بنتيجة ساحقة لتيار المستقبل على حساب المعارضة. لا شك في أن نتيجتي الانتخابين الفرعيين لم تأتيا بجديد يساعد في حلحلة الموقف المحتقن على الساحة اللبنانية، بل أنهما عكستا الانقسام الطائفي المتأزم الذي يجيء قبيل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية.
لعل أهم مساويء النظام الانتخابي اللبناني تتمثل في الاعتماد على التقسيم النسبي للطوائف الدينية. ولا شك في أن التقسم الطائفي للدوائر لا يعكس بحق مظاهر ومزايا الديمقراطية الحقة التي تتمتع بها العديد من دول العالم المتقدمة، ومن أهمها المساواة بين الأفراد في الحق في الترشيح، فضلاً عن الاعتماد في المقام الأول على الكفاءة السياسية للمرشحين بدلاً من الانتماء الطائفي، ولكن التمثيل النسبي يعد بكل المقايسس الأسلوب الأفضل بين الخيارات السيئة الأخرى التي تهضم حقوق الأقليات الدينية والإثنية والعرقية، فهو يضمن على الأقل حق الطوائف في اختيار ممثليها بحرية. وبما أن التقسيم الطائفي للدوائر الانتخابية يعكس احتقاناً وانعدام الثقة المتبادلة بين الطوائف المختلفة، فقد عبرت عمليتي الانتخاب اللتين جريتا الأحد الماضي بعمق عن حالة الاحتقان الطائفي التي تشهدها الساحة اللبنانية والتي نجحت قوى إقليمية ودولية في استثمارها لتحقيق مصالحها على حساب قوى منافسة عبر تفتيت اللبنانيين. وإذا كانت معركة دائرة بيروت المخصصة للسنة قد مرت وانتهت دون متاعب تذكر لتيار المستقبل الحاكم في ما يعد تأكيداً على عدم قدرة المعارضة الشيعية-العونية على اختراق الجبهة السنية، فإن معركة تكسير العظام التي خاضها طرفا الصراع على الفوز بدائرة المتن الواقعة في محافظة جبل لبنان، المعقل المسيحي الأشهر في لبنان قد انتهت بخسارة مشتركة لكتلة المستقبل الحاكمة والتيار العوني المعارض على السواء. كما أنها كانت دليلاً قاطعاً على انقسام المسيحيين بشكل يكاد يكون متوازناً ما بين تيار المستقبل الحاكم والحلف الشيعي- العوني المعارض.
جاء الانتخاب في منطقة المتن مليئ بالعديد من السلبيات في الوقت الذي تمثلت فيه الإيجابية الأوضح في مرور عملية الاقتراع دون وقوع حوادث كبيرة أو إراقة دماء. وهو الأمر الذي يحسب بشكل كبير لوعي الناخبين وعدم انزلاقهم إلى المهاترات التي انزلق فيها مرشحاهم. تمثلت أبرز السلبيات في تحويل الصراع على مقعد الدائرة إلى صراع على قيادة الجانب المسيحي في لبنان خاضه الرئيس الأسبق امين الجميل ضد العماد ميشيل عون الذي نصب نفسه زعيماً للمسيحيني ومدافعاً عن حقوقهم بغية الوصول إلى بعبدا حيث رئاسة الجمهورية التي سيحين موعد استحقاقها قريباً. لقد كان ترشيح شخصية بحجم الرئيس أمين الجميل للانتخاب في دائرة المتن بغرض ضمان الفوز بالدائرة لمصلحة كتلة المستقبل على حساب المعارضة. ولكن خوض الجميل للنزال كان سلاحاً ذا حدين. فمن ناحية كان ترشيح رئيس الجمهورية الأسبق والرئيس الأعلى لحزب الكتائب للانتخابات يعني تسخير كافة امكانات الحزب لدعم المرشح. وإذا ما أضفنا إلى هذا أن الجميل كان مرشحاً عن كتلة المستقبل الحاكمة، فإن ذلك كان يعني حصوله على تأييد وعم إضافيين من الكتلة ذات النفوذ الأقوى في لبنان في المرحلة الحالية. ومن ناحية أخرى فإن ترشيح الجميل كان يعني أن خسارة الرجل أمام مرشح المعارضة سيعني انتهاء صلاحيته السياسية وخسارة حزب الكتائب لدوره الشرفي الذي تمتع به عبر سنين طويلة كمتحدث باسم المسيحيين في لبنان. وقد حدث وخسر الرئيس الأعلى لحزب الكتائب أمين الجميل أمام مرشح كتلة العماد عون، وهو الأمر الذي توقف عنده العماد عون بغرور عندما قال أن أحداً لا يستطيع هزيمته.
لم يكن الانتخاب الفرعي، برأيي، بالأمر المهم أو الحيوي الذي كان يتطلب نزول الرئيس الجميل بنفسه أمام مرشح يمثل العماد عون، ففوز الجميل بالمقعد أو خسارته ما كان ليؤثر بدرجة كبيرة على توازن القوى داخل مجلس النواب لمصلحة كتلة المستقبل. ولكن كان هناك مغزى وراء ترشيح الجميل شخصياً لا ممثل عنه. فلقد أدرك الجميع منذ الانتخابات العامة البرلمانية الماضية التي أجريت في العام 2005 قوة ونفوذ العماد ميشيل عون في محافظة جبل لبنان حتى أن مرشحيه تمكنوا من الفوز بجميع مقاعد المحافظة باستثناء مقعد عن المتن تركه عون لمرشح الكتاب عندئذ الراحل بيار الجميل. ومن ثم فقد كان ترشيح الجميل في دائرة المتن يعني الإلقاء بثقل كبير بحجم رئيس الجمهورية الأسبق والرئيس الأعلى لجزب الكتائب في مواجهة مرشح التيار العوني. ولكن ترشيح الجميل كان مغامرة غير مضمونة النتائج ومخاطرة غير محمودة العواقب. وقد تتكشف في المستقبل بعض الأوراق ربما تشير إلى أن الرئيس الجميل قد سقط في فخ أعده له البعض بغرض (أولاً) القضاء على فرصه في الترشيح لرئاسة الجمهورية حين يحين موعدها و(ثانياً) إضعاف موقف التمثيل المسيحي في كتلة المستقبل وربما تحويل اتجاه أنظار المسيحيين إلى التيار العوني. ولكن نتيجة الانتخاب لم تكن سيئة تماماً للرئيس الجميل الذي اختلفت التوقعات بشأنه. فقد نجح الرجل في زعزعة استقرار العماد عون وسحب البساط بدرجة كبيرة من تحت أقدامه، حتى ان المحللين أشاروا إلى أنه لو لم يحظ مرشح العماد عون بالدعم الكامل من حزب الطاشناق الأرمني لمني بهزيمة كبيرة.
لقد أكدت نتيجة الانتخاب الفرعي بالمتن بما لا يدع مجالاً للشك أن مرحلة الانهيار التدريجي لأحلام العماد عون بتنصيب نفسه زعيماً أوحداً للمسيحيين اللبنانيين قد بدأت. كما أثبتت أن التحالف الذي أقامه عون مع حزب الله والتفاهم الذي أسسه مع النظام السوري لا يحظيان بدعم شعبي بين المسيحيين. ومن ناحية أخرى أوضحت نتيجة الانتخاب أيضاً غياب الزعيم الكاريزما الذي يتوحد المسيحيين خلفه في معركة الاستحقاق الرئاسي القادمة. فهزيمة الرئيس الجميل وتدهور شعبية العماد عون يشيران إلى صعوبات جمة ربما تواجه المسيحيين في الاتفاق على تسميته رئيساً للجمهورية في سبتمبر المقبلً. ولا يغفل على أحد أن الانقسام الذي تشهده الساحة المسيحية ينبيء بمزيد من التدهور في أوضاعهم وحقوقهم في وطنهم، وخاصة بعدما أظهر الانتخاب الفرعي عدم رغبة بعض الزعماء السياسيين المارونيين في الانصياع لوساطات للمرجعية الدينية في بكركي. ودعونا نعترف بأن الأوضاع غير المستقرة في لبنان قد أدت بشكل كبير إلى تغييب شبه كامل للجانب المسيحي عن السلطة، وبخاصة بعدما تم استبعاد رئيس الجمهورية عن مركز صناعة القرار وتم الاعتماد كلياً على الحكومة في إدارة شئون البلاد، حتى أن احداً لم يعد يشعر بغياب رئيس الجمهورية عن السلطة بعدما أصبحت شئون لبنان تدار بشكل فعلي بدون الحاجة إلى رجل بعبدا المعزول.
من غير المعروف كيف ستسير الأمور في الأسابيع المقبلة التي ستشهد حديثاً متزايداً عن الاستحقاق الرئاسي، ولكن الأوضاع الحالية لا تنبيء بالخير في ظل الاحتقان الشديد الذي تشهده الساحة اللبنانية بسبب الصراع بين الترويكا اللبنانية الحاكمة. لا شك في أن تمسك الأطراف بمواقفه سيدفع لبنان إلى حافة السقوط في مستنقع الحرب الأهلية، وهو ما صرح به وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنار خلال زيارته الأخيرة للبنان. لقد أكد الانتخاب الفرعي بالمتن أن طريقاً طويلاً ينبغي على اللبنانيين قطعه قبل الوصول إلى نقطة تلاقي ترضي جميع الأطراف. لذا فقد بات على الأطراف المختلفة وضع مصلحة لبنان أولاً حتى لا ينزلق في مستنقع لا احد يريده للبنان إلا الكارهين له والمتربصين به. كما بات على المسيحيين أن يغلقوا الملفات القديمة المشحونة بالاختلافات للاتفاق على مرشح الرئاسة حتى لا يفقدوا ما تبقى لهم من نفوذ على الساحة اللبنانية. ولكم كان الرئيس أمين الجميل حكيماً حين أعلن قبوله بنتائج الانتخاب الفرعي في المتن مُقِراً بهزيمته على الرغم من تصريحاته التي اعلن فيها اعتزامه اللجوء للقضاء بدعوى وجود عمليات تزوير في مناطق الأرمن. فلقد كان من المهم إغلاق صفحة الانتخاب الفرعي على وجه السرعة حتى يعود الهدوء إلى النفوس المشحونة قبيل الشروع في اتخاذ خطوات عملية تجاه الاستحقاق الرئاسي. فالحكمة هي الطريق الذي ينبغي على اللبنانيين سلوكه حتى لا يتحول الاستحقاق الرئاسي إلى معركة تكسير عظام جديدة.