جدلية الفكر والعمل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أقدر للسيد هاشم الخالدي تعقيبه على ثنائية الفكر والعمل كما يراها الماركسيون بغض النظر عن مسألة التقديس، حيث أن الحقائق هي التي تفرض درجة تقديسها بمقدار ما ترقى لأن تكون حقائق فعلية لها مردود نفعي كبير. فتقديس الماركسيين لدور البروليتاريا في تحرير البشرية ليس منة من قبل الماركسيين بل إن البروليتاريا نفسها هي من وضع مهماتها التاريخية في مقام رفيع مختلف لم تعهد البشرية له مثيلاً في الرقي طالما أن البروليتاريا تحديداً هي الطبقة الوحيدة التي ستلغي النظام الطبقي من كل المجتمعات البشرية وستلغي الطبقات بما في ذلك طبقة البروليتاريا نفسها. وهذا بحد ذاته مأثرة تستحق التقديس. بدأ الإنسان رحلة الأنسنة مقيداً في الإنتاج وما كانت إنسانيته لتتقدم إلا في إسار الإنتاج، البروليتاريا ستكون الرائد الذي يحرر الإنسانية من قيد الإنتاج لتتكامل أنسنة الإنسان إلى حدود تتجاوز خيال البشرية. المسيحيون يقدسون المسيح لأنه افتداهم كما يعتقدون من الخطيئة الأصلية [ بالتعرف على شجرة المعرفة التي لو لم يتعرف عليها لما كان المسيح ولما كانوا هم أنفسهم كما تقول روايتهم ] أما البروليتاريا فستفتدي البشرية فعلاً من قيد الإنتاج فلماذا لا تكون موضع تقديس أبناء البشرية عامة وليس الماركسيين وحدهم هذا إذا كان للتقديس أي معنى خارج معاني الإنتفاع. مثل هذا اللون من التقديس هو من صلب العلم، علم التاريخ. لكن هذا المقدس الذي سخر منه الخالدي لا يلغي الدور المحوري للعقل خلافاً لدعواه.
لا أعتقد أن الإفلاس بلغ بالسيد هاشم الخالدي أن يهاجم الماركسية بالماركسية نفسها. المادية الديالكتيكية هي قانون الحركة في الطبيعة المادية غير الإنسانية أما المادية التاريخية والتي هي قانون تطور المجتمعات الإنسانية[الأنسنة] وعملت على صناعة تاريخ الإنسان فقد نشأ هذا القانون بنشوء العقل وقدرة الإدراك في الإنسان. لو لم يتناقض عقل الإنسان مع واقعه المادي المحيط به لما خرج الإنسان من ذاته وتغرب؛ فلولا العقل ما كان العمل، فالإنسان العاقل هو الوحيد بين سائر الحيوانات الذي يعمل، أي ينتج حياته بوساطة أدوات خارج جسمه. والحق أنني أستغرب كيف للخالدي وهو يدخل مداخل الفلسفة يتهم الماركسيين بالقول.. " إن تقديس محور العمل وإلغاء دور محور العقل ونكران تأثيره وتأثير كل منهما على الآخر في تطور صراع الإنسان مع الطبيعة.. " وأتساءل.. هل الخالدي على علم ولو بصورة أولية بالفلسفة الماركسية، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية؟ المادية التاريخية قامت أساساً على جدلية الفكر والعمل، تلك الجدلية التي هي جوهر فعل الأنسنة التي هي أشبه ما تكون بالتيار الكهربائي المتبادل، القطب الموجب، الذي هو العمل، ينعكس بذات اللحظة بقطب سالب، الذي هو الفكر أو التعقل، ولا يسري التيار الكهربائي في الدائرة الكهربائية دون تواجد القطبين سوياً وبذات اللحظة، وهو ما يعني أنه لولا العقل ما كان الإنسان ليكون. إصرار الخالدي على أسبقية الإدراك على العمل يفتقد كل دلالة وليس له أي معنى سوى الإنتصار للفلسفة المثالية التي قامت أساساً لتبرير أسطورة الخلق من قبل قوى عاقلة. وهنا نتحدى الخالدي وغير الخالدي أن يصنع كهرباء سالبة بغير كهرباء موجبة !! لئن عجز عن ذلك، وهو سوف يعجز بغير شك فلنا أن نطالبه إذّاك ألا يدعي مرة ثانية أن الإدراك سبق العمل. وبالتالي يعود الخالدي ليقول ما يقوله ماركس والماركسيون عندما قال.. " إن ما للعمل من دور أساسي في المعرفة مثلما للمعرفة من دور أساسي في العمل فهما وجهان لحقيقة واحدة اسمها الإنسان ". إنني وبالنيابة عن ماركس والماركسيين أؤكد موافقتي على هذا القول لكنني أطالب الخالدي ألا يشتّ عنه فيغرق عميقاً في صراع الحضارات المزعوم.
ما لا يمكن أن يكون موضوع جدل هو أن الحيوان الشبيه بالإنسان كان لديه الاستعداد البيولوجي للتعقل وذلك لأنه بالتالي تعقل وبدأ بصناعة التاريخ كما نعلم. هذه الحقيقة لا تعني على الإطلاق أن الإدراك في الإنسان سبق العمل وحتى لو كان الإدراك قد نتج عن طفرة جينية حيث أن الطفرة الجينية لا تعني بحال من الأحوال أكثر من زراعة الاستعداد للإدراك في جسم الإنسان. ولماذا تستثنى شروط العمل من تحفيز الطفرة الجينية طالما أنها المحصلة الكلية لمواجهة الكائن الحي ضد الطبيعة ! يقول الخالدي أن الإكتشافات العلمية في عملية النشوء والإرتقاء لم تجد دوراً للعمل في تطور سلالة الإنسان. ويضيف أن تطور القرد إلى إنسان لم يكن للعمل أي دور فيه. لا أدري عن أية اكتشافات علمية يتحدث الخالدي ! ومن هو ذلك العالم البيولوجي الذي تجرأ أن يقرر ذلك؟ لا يمكن، بل لا يجوز لأي أحد أن يدّعي مثل هذا الإدعاء الذي يفتقد حكماً لأي دليل مادي. الحياة بتعريف شامل إنما هي مقاومة الطبيعة، وعليه لا يمكن الإفتراض أن التخلّق البيولوجي يفتقد غريزة رد الفعل على أخطار الطبيعة. عالم البكتيريا يعطي مثالاً جيداً على ذلك حيث استوجب الأمر تطوير المضادات الحيوية لأنها لم تعد تقوى على قتل البكتيريا. والحشرات التي تسبب أمراض النباتات استقوت أيضاً على المبيدات الحشرية ولم تعد تقتلها. ذلك يعني دون شك أن غريزة البقاء (Survival) المتجسدة بمقاومة الطبيعة لها شأن هام في تغيّرات الحبل الجيني في كل الكائنات الحية ومنها الإنسان.
علم الأنثروبولوجي يقول لنا أن الحيوانات الشبيهة بالإنسان أستخدمت الأدوات ولم يكن حجم دماغها يزيد عن نصف لتر. نحن لا نقول أن استخدام الأداة سبق الوعي، نحن نقول أن استخدام الأداة هو ظاهرة الوعي. لكن الخلاف مع المثاليين لا ينحصر في مسألة الأسبقية، أسبقية العقل على العمل، بل يمتد أساساً في مرافقة الوعي لتطور الأدوات. يقول الخالدي أن القرد لم يرتقي ليكون إنساناً إلا بالعقل أو بالإدراك. وهنا نسأله..كيف استطاع أن يميز ذكاء القرد الذي لا يعمل؟ الأنثروبولوجيون يقيسون الذكاء أو الوعي بمدى استخدام الآلة فهل لدى الخالدي موازين أخرى مختلفة؟ عندما يقرر الخالدي معارضة ماركس وإنجلز يبدأ للأسف بكتابة جمل وعبارات ليست ذات معنى وما كان للخالدي أن يقبل بذلك على نفسه. ومن العبارات القليلة التي احتفظت ببعض المعنى يقول.. " للوعي سيرورة جدل... إذ يتلقى الإنسان من مؤثرات البيئة ومحيطه الخارجي ". من خلال عبارات غير مترابطة وليست ذات دلالات يريد الخالدي أن يقنع قراءه بأن الوعي له سيرورة منفصلة تماماً عن العمل. كل تلك الأفكار المبتسرة والتي لم تتكون مكتملة في رؤى السيد الخالدي تم نحتها من أجل أن يبرر لنفسه إيمانه بالله الذي خلق العالم في ستة أيام، والقول ب " إدراك القوى المطلقة المهيمنة ما وراء الأشياء والظواهر كلها". وما هو أسوأ هو الزعم بأن الوعي قد تطور مستقلاً ليدرك وجود الله. للخالدي أن يؤمن بوجود الله لكن لا يقبل منه على الإطلاق الإدعاء بإدراك وجود الله. فأن يدرك أحدهم وجود الله فذلك يعني أنه يستطيع أن يحدد طبيعة الله وشكل الله وعمله وفيما إذا كان فعلاً سيقيم نار جهنم يشوي فيها الذين يتحررون من عبوديته !! هل يستطيع الخالدي أن يفصّل ذلك؟ لقد كان نبي الإسلام أذكى من ذلك فأيقن أن قول " لا إله إلا الله " لا معنى له ولن يكون من عقيدة المسلمين ما لم يتم تحديد شخص الله حيث أن إسم " الله " كان قد أطلق سابقاً على أوثان كثيرة وآلهة كثر. لأجل ذلك انطلق محمد على صهوة براقه في رحلة سماوية إلى أن واجه الله ورآه جالساً على العرش يستظل شجرة سدرة المنتهى التي أوراقها بحجم آذان الفيل وثمارها تتدلى بحجم الجرار يقتطفها الله ليتفكّه بها. بعد رحلة المعراج فقط أصبح لإعلان " لا إله إلا ألله " معنى محدد هو أن ليس من إله آخر سوى الإله الذي قابله نبي المسلمين فوق السماء السابعة جالساً على العرش تحت ظلال شجرة سدرة المنتهى. حتى الأنبياء لم يدركوا طبيعة الله قبل أن يكلموه أو يواجهوه، فكيف لأحد عبيد الله، هاشم الخالدي، أن يدرك الله؟!
في الحقيقة نحن نشعر إزّاء مثل هذه الأقوال أن تقرير الحقائق الكبيرة لدى الأخ الخالدي يتم بسهولة فائقة وإستثنائية. كيف لعالم في البيولوجيا يقرر أن عمليات التطور البيولوجي تجري منعزلة تماماً عن الأعمال التي يؤديها الكائن الحي، أي عن العلاقة بين الكائن الحي من جهة والطبيعة من جهة؟ وجود الكائن الحي مبني أساساً على مقاومة الطبيعة ومصمم تفصيلياً لأداء هذه المقاومة بصورتها الفضلى. فالطبيعة هي التي تعين وسائل الكائن الحي في مقاومتها وتتحقق هذه الوسائل حصراً بعمل الكائن الحي. عقل الإنسان، الذي يدير عمل الإنسان ويوجهه لمقاومة الطبيعة حصراً، يجتهد ويجد دائماً وأبداً ودون إنقطاع في البحث عن أمضى الأسلحة يزود بها الإنسان لقهر الطبيعة، ولذلك قلنا أن الوعي الإنساني مرتبط إرتباطاً وثيقاً لا ينفصل بتطور وتطوير أدوات الإنتاج. عملية النشوء والارتقاء التي اكتشفها دارون تقول عكس ما يقول السيد هاشم الخالدي. لقد وجد دارون أن قانون الإنتخاب الطبيعي يتم فقط بناء على الأعمال التي يقوم بها الكائن الحي. فالنسور ما كانت لتبقى ولا تنقرض لو لم تكن ذات مناقير معقوفة ومخالب حادة وقوية. السيد الخالدي ربما يعتبر هذا برهاناً له لأن النسور التي لم تملك المناقير المعقوفة والمخالب الحادة القوية بادت وانقرضت قبل أن نتعرف عليها. وهو ما يعني أن الخالدي يؤمن (وخطين تحت يؤمن) أن التطور البيولوجي للنسر جرى دون أية مؤثرات من خارج جسمه!! الحقائق على الأرض لا تذهب مذهب الخالدي. عشرات آلاف الكائنات الحية تراها تمتلك أعضاءها المناسبة لتحصيل غذائها الخاص وحماية الذات. فهل الطفرات الجينية جرت بصورة تعسفية دون أية علاقة بنمط حياة الكائن الحي؟ هل تخلقت النسور بمنقار معقوف ومخالب قوية لأسباب أخرى لا علاقة لها بتمكين النسر من تحصيل غذائه كما يعتقد هاشم الخالدي؟ لا أعتقد أن أي عالم بيولوجي يتفق مع الخالدي في مثل هذا الإعتقاد.
وأخيراً ثمة مقولة متهافتة أكثر من التهافت نفسه تقول أن المعرفة هي العامل الحدي في قيمة العمل. ومن يقولون بهذه المقولة المتهافتة لا يقولون أية قيمة يقصدون بهذا القول، هل هي القيمة التبادلية أم القيمة الإستعمالية أم أي شكل آخر من أشكال القيمة المختلفة. لئن كانت القيمة المقصودة هي القيمة التبادلة، وهي ذاتها على ما يبدو، فإن الأمر عكس ما يقولون فالمصنع الذي أدخل تقنيات عالية على إنتاجه لم يعد يربح كما كان يربح قبل التحديث. زاد إنتاجه وزادت القيمة الإستعمالية لمجمل إنتاجه إلا أن القيمة التبادلية لمجمل إنتاجه لم تزد بل مالت إلى الإنخفاض بموجب قانون ماركس الذي يقول بميل معدل الربح للإنخفاض بسبب التحديث وزيادة رأس المال الثابت. المعرفة والعمل عنصران في مركب واحد غير قابلين للإنفصال يتحدان في جسد واحد هو الإنتاج. المعرفة لا تقبل المقارنة بالعمل حيث أية مقارنة تقتضي أولا التجريد، تجريد المعرفة من العمل وتجريد العمل من المعرفة وهذا غير قابل للتحقق. ما تتم المقارنة بينهما هو مقارنة العمل متدني المعرفة بالعمل رفيع المعرفة. أي العمل بالعمل. لقد بحث ماركس في هذا الشأن وقال إذا كانت قيمة العمل متدني المعرفة هو (س) فإن قيمة العمل عالي المعرفة هو (ص س) وتتناسب قيمة (ص) مع درجة علو المعرفة.
وأخيراً أرجو أن أؤكد مرة أخرى على أن نقد ماركس يجب ألا يكون قبل دراسة ماركس دراسة عميقة ومتخصصة وهو ما أوصي به أخانا المحترم هاشم الخالدي مؤملاً ألا يكون قد استقر نهائياً على الإيمان ـ وليس الإدراك كما وصف ـ بالقوى المطلقة المهيمنة ما وراء الأشياء والظواهر كلها كما اعترف.
www.geocities.com/fuadnimri01