عابرو الطرق وأساليبهم المبتكرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يبدو ان مخططي المرور في شوارع القاهرة ومعظم المدن الكبرى في مصر يعتقدون أن الشوارع مخصصة لاستعمال السيارات فقط، غير واضعين المشاة وعابرو الطرق على الأقدام - وهم أكثرية - في الاعتبار. وحتي قائد السيارة التي يرتجل منها لأي سبب محاولا عبور الطريق يدرك جيدا انحياز المسئول للسيارات على حساب المشاة، فيتمنى من قلبه أن يوجد ما ينظم علاقة الحقوق والواجبات بين المشاة وقائدي السيارات.
وعندما فكر المسئولون في جعل المرور أكثر انسيابية بالغاء الاشارات وتحويل المرور لاتجاه واحد في معظم الطرق، مع الاكثار من فتحات الرجوع للخلف بدون ايقاف السيارات القادمة من الاتجاه الآخر، فان المشاة في هذه التطورات فقدوا أية فرصة لتوقف السيارات في أية نقطة وتحت أي ظرف، وبالتالي فقدوا فرص عبورهم الطرق والشوارع الى الجانب الآخر.
ولأن الحياة يجب أن تستمر، فان المواطن البسيط الذي يستعمل قدميه في قضاء مشاويره، والذي يتحتم عليه في أحيان كثيرة قطع الطريق من جانب لآخر، وبعد أن فقد الأمل في وجود قنوات سليمة أو اشارات أو حتي مساعدة من رجال المرور للعبور في الشوارع، فقد تفق ذهنه عنى طرق يستطيع بها عبور الشارع رغم أنف السيارات ومخططي المرور، والحاجة أم الاختراع. وكانت هذه بداية الحرب المعلنة بين السيارات وقادتها والمشاة وأفكارهم العبقرية، فظهرت علامات اختلاف المصالح واضحة بين الفريقين، وحدث ما يبدو أنه اشتباك عنيف يتجدد يوميا بينهما، تكون نتائجه حوادث وقتلي ومصابين بأعداد مفزعة تمتليء بها صفحات الحوادث في الجرائد المصرية.
وهكذا ظهرت في الشوارع نماذج لبشر يحاولون عبور الطريق رغم أنف السيارات، وهي نماذج يمكن ملاحظتها بوضوح في أي شارع وأي وقت بالقاهرة. هناك مثلا ذلك الشخص الذي يتصرف على أنه هواء لا يمكن الاصطدام به، فيبدأ في المرور بين السيارات أثناء سيرها في سرعات عالية، وبقليل من الرقص والاكروبات يستطيع أن يتفادي هذه السيارات على آخر نفس.. وهو لا يخشى الاصطدام بالسيارات، حيث أنه يتصرف بالطبع على أنه هواء، كما يتضمن ذلك التظاهر أن السيارات مصنوعة من القطن الطبي الناعم الذي لا يصيب الانسان اذا ما اصطدم به، فكم بالحري اذا اصطدم بالهواء ؟ هذا الانسان "الهواء" لا يمتلك خبرة متراكمة في أحوال الاصطدام، حيث أن المرة الأولى هي المرة الأخيرة في أغلب الأحوال.
كما يمكن ملاحظة ما يسمى "بالعابر الطولي" وهو الانسان الذي يصمم على عبور الطريق بالطول وليس بالعرض، معتقدا أنه هكذا يحمي نفسه من احتمال تقاطع جسده مع السيارات التي تسير في الطريق بالطول أيضا.. ولكنه في أغلب الأحوال يسير أمام السيارات وليس بينهما، وتأبى عليه كرامته أن يتحرك من أمام السيارة أو أن يمنحها فرصة للعبور، حيث ان "الأنا" المنتفخة فيه تأبى عليه التحرك من أجل سيارة، فهو يعتقد في المساواة بين البشر سواء كانوا مشاة أو قادة السيارات.. متناسيا أن نهر الطريق مخصص للسيارات بينما يخصص الرصيف للمشاة.. واذا ضايقه أحد من القادة باستعمال آلة التنبيه فانه ينظر اليه بغيظ شديد وهو يلعن و يسب ويشير بأياديه وأصابعه باشارات يعاقب عليها القانون.
على أن أحدث حيلة لعبور المشاة هي هذه، اذ يرمي الشخص الذي يريد عبور الطريق بجسده أمام السيارة المندفعة في سرعتها وهو يرفع يده الى رأسه شاكرا، كما لو أن القائد قد توقف تأدبا له لكي يعبر، وهكذا يجد قائد السيارة نفسه في وضع صعب بين محاولة الضغط على فرامل السيارة لانقاذ حياة الشخص، وعدم زجه في السجن بتهمة القتل الخطأ اذا صدمه، ومشاعر الغيظ التي تتملكه حتى قد تدفعه الى التفكير في قضم رقبة عابر الطريق الذي كاد أن ينتحر أمامه، لكن الذي يوقفه عن ذلك مشاعر الحرج التي يستشعرها من هذا الذي يشكره على أدبه واتاحة الفرصة له لكي يعبر الطريق..أي أنه اصبح مؤدبا متفهما لاحتياج عابر الطريق بالرغم منه.. بالطبع هناك طريقة أخرى لتقديم الشكر أثناء محاولة "الانتحار" أو العبور الجزافي للطريق تقوم بها السيدات، حيث تضعن اياديهن اليمنى على موضع القلب تعبيرا عن الشكر القلبي مع ابتسامة عريضة في محاولة لامتصاص ضيق قائد السيارة من هذا الهجوم الانتحاري.
ونوع آخر من العابرين هو العابر " الروميو "، وهو الذي يعبر الطريق مصطحبا معه "جولييت" بالطبع، وقد وضع يده حول كتفها في حب ورومانسية، ويكون الاثنان في حالة هيام وغرام، غير شاعرين بالسيارات والهيصة، ثم يبدءان في العبور وهما غارقان في أحلام روعة الحب.. وعليك أيها القائد أن تقدر الظروف وأن هذين المسكينين لا يمتلكان أبيضا أو أسودا لكي يجلسا معا في كازينو على النيل، فهما يعبران عن لواعج حبهما في الشارع وأثناء عبور الطريق من رصيف الى الرصيف المقابل.. ولتذهب أنت وكل سيارات العالم الى الجحيم، ولكن حذار أن تنسى أن قصة "روميو وجولييت" الأصلية انتهت بموت الحبيبين انتحارا، ولكن ليس تحت اطارات سيارة مسرعة أثناء عبورهما الطريق، حيث أن هذه الجزئية البسيطة قد تدفع بك الى السجن والغرامة بتهمة القتل الخطأ.
ويحدث في مرات عديدة أن تجد شابا شهما يحمل مصابا على كتفه، ثم يقف أمام السيارات ويشير بيده الى حمله الثقيل طالبا منهم التوقف لكي يتمكن من العبور بالمصاب الى الناحية الأخرى من الطريق.. فتقف كل السيارات متفهمة الموقف، وبنظرة من جانب عينك الى نهاية المشهد، تجد أن المصاب قد نزل من فوق كتف الشهم وهو يتبادل الضحكات مع حامله، ويضرب الاثنان كفا بكف لأنهما نجحا في ايقاف السيارات المارة بهذه الحيلة الرخيصة لكي يعبرا الطريق، ثم تتعالى ضحكاتهما وهما يسيران جنبا الى جنب في سعادة ومرح متندرين بنجاح خطتهما في خداع قائدي السيارات.. فيما تنظر أنت الى قائدي السيارات الذين توقفوا فتجدهم وقد احمرت وجوههم من الغيظ ومن احساسهم بالخديعة، ومن سوء استغلال مشاعر الرحمة لدى البشر.
وهناك أيضا هذا الانسان - أو الانسانة - الذي يعبر الطريق بغير اهتمام، وهو شديد التركيز في ما يقوله من خلال تليفونه المحمول. يضحك، ويصرخ، ويبتسم، وينصت. ثم يتهادي في مشيته حتي يستطيع الاستماع جيدا الى مايقوله محدثه على الطرف الآخر، دون أن يدرك أن السيارات تسير مسرعة بحكم طبيعتها، وان ايقافها يتطلب وقتا ومسافة معينة قد تضيع معها حياته. ومن المضحك المبكي أن واحدا من هؤلاء صدمته سيارة بينما هو منهمك في حديث مهم من خلال تليفونه المحمول، وأدرك الناس الذين تجمعوا لانقاذه - بعد محاولات اسعافه - أن تليفونه المحمول لم يكن سوى لعبة أطفال بلاستيكية كان ذلك التعس يحاول بها أن يكتسب صفة المهم الذي يجري الصفقات من خلال تليفونه المحمول حتى وهو يعبر الطريق..
وهناك من يشعرك أنه فعلا يحاول الانتحار بكل قوته وهو عابر الطريق الذي يلقي بنفسه فجأة أمام السيارات كما لو كان الانتحار هو مقصده الأساسي، حتي لو جلب هذا التصرف المصائب فوق رأس من يشاء له القدر قيادة سيارة أمامه في تلك اللحظة التعسة. وهذا المنتحر يلقي بمسئولية الحفاظ على حياته بالكامل على أكتاف قائدي السيارات، وهو في العادة لاينوي الانتحار ولكنه يفعل ذلك بمنطق "ان كنت جدع اخبطني"، وهو يعلم بالقطع أنه ليس هناك جدعا واحدا يرغب في قتل أو اصابة أي انسان الا اذا كان هو الآخر مجنونا.
وعابرو الطريق في جماعات لهم أيضا حكايات مثيرة، أخطرها عندما يبدأون بالفعل في رحلة عبور الطريق وقد تماسكت أياديهم في محاولة لاستشعار الشجاعة في هذا الظرف الصعب، ثم فجأة وأمام سيارة مسرعة تتوقع أن يكون هذا الجمع قد تحرك من أمامها وقت وصولها اليه، تجد واحدا من الجماعة قد نكص عهده وقرر التراجع من حيث أتى.. وهنا تكون الطامة الكبري، اذ يتراجع واحد متشبثا بأيدي زميله، فيما يتقدم آخر وهو متشبث في اليد الأخرى، وتكون النتيجة هي وقوف المجموعة مباشرة أمام السيارة.. ولك بعد ذلك أن تتصور السيناريو الذي ترغبه.. وربنا يستر..
يقابل ذلك من ناحية قائدي السيارات ذلك السائق الذي ما أن يلمح انسانا يحاول عبور الطريق حتي يسرع في قيادته، ثم يندفع في تحد اليه كما لو كان مصمما على الاطاحة به، فيتراجع المسكين مذعورا وهو يلهث من الخوف، فيما يستمر القائد في طريقة وهو بضحك مستمتعا بمنظر المذعور المسكين.
وعلى عكس ذلك هناك قائد السيارة الذي يبدو أنه قد عاد لتوه من فترة غياب طويلة خارج البلاد تعلم خلالها آدابا للطريق غير مألوفة في طرقنا، حيث اعتاد أن يقف اذا ما رأى أحدهم يحاول عبور الطريق حتي يكمل عبوره بسلام، ولكن هذا النوع لا يستمر في أدبه هذا طويلا، اذ أنه سرعان ما يتعلم، من خلال اللعنات التي تصب عليه من قادة السيارات خلفه، أن هذا الاسلوب في احترام حقوق المشاة خطأ لا يغتفر، كما أن ممارسات المشاة غير المنتظمة تضايقه كثيرا، ومن ثم يتحول بالتدريج الى النوع السابق من السائقين.
ولعل أكثر المستمتعين بتعذيب المشاة، والذين لا تنجح معهم "اختراعات" عبور الطريق المبتكرة، هم فئة سائقي الميكروباص أو سيارات الأجرة العامة، فهم "عفاريت الأسفلت " بحق الذين لا يهمهم مشاة أو حتى سيارات، يقودون الميكروباص في خط متعرج لكي يسابقوا السيارات الأخري بأية وسيلة، ولكن عندما يشير اليهم راكب فانهم ينسون فكرة التعرج هذه بالكامل، فيقفون في منتصف الطريق كما لو أنك السيارة أصيبت بشلل مفاجئ، أو كما لو أن عجلة القيادة لا تستطيع التحرك يمينا أو يسارا لكي يقف بالميكروباص الى جانب الرصيف، معرضا السيارات الأخرى لخطر الاصطدام به، أو على الأقل اضطرارهم للوقوف ورائه في صفوف طويلة في انتظار تكرمه بالتحرك بعد ركوب الزبون.
وبعد، فان مسئولي المرور في شوارع القاهرة والمدن الكبيرة في مصر مطالبون بأن يراعوا حقوق المشاة وعابري الطريق، سواء بايجاد مناطق محددة لعبورهم تخدمها اشارات ورجال مرور، أو عن طريق أنفاق للمشاة أو كباري علوية، ووقتها فقط سيشعر عابر الطريق أن له حقوقا تراعيها الدولة، ومن ثم يحترم واجباته المطلوبة منه عند عبور الطريق من النقاط الآمنة، مما يقلل من الحوادث ويزيد من السيولة المرورية، ويمنع هذا الاشتباك العنيف بين عابري الطريق وقائدي السيارات.
يرجى إرسال جميع المقالات الخاصة بآراء إلى البريد الجديد: pointsofview@elaph.com