حرية التعبير وهيئة الحجب.
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كلما قرأت أو سمعت اسم هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات شعرت بتناقض صارخ و مفارقة عجيبة. هذا التناقض والمفارقة ناتجة عن اقتران : اسم " الاتصالات - تقنية المعلومات " و فعل " حجب المواقع ". فمن المعلوم أن تطور الاتصالات والعلوم والتقنية ونجاحها ووصولها على ما هي عليه اليوم لم يأتي إلا نتيجة لحرية التفكير والإبداع و فك القيود عن العقل البشري ليحلق في سماء الخيال ويعود للواقع ليحقق إنجازاته. لهذا الأمر تاريخ طويل وقصة شاهدة على ما واجهه العلماء والمخترعين والمبدعين من قمع واستبداد حاول أن يقتل طموحاتهم وآمالهم. كانت القضية باختصار قضية الحرية، دون تحقيق حرية التفكير والرأي والإبداع للإنسان فإنه لا يمكن أن يبدع أو يخترع أو يرجى منه ذلك. تطور العلوم كما هو تطور أي مجال آخر يقوم على فكرة تجاوز الواقع وتخطيه إلى آفاق متجاوزة، هذه الفكرة لا يمكن أن يمتلكها إلا من يستطيع نقد الواقع والنظر إليه بعين متفحّصة و مراجعة وشرط هذا كله يكمن في امتلاك حرية التفكير والتعبير.
حرية التفكير قضية ذاتية في الأساس ويستطيع الإنسان أن يمتلكها في داخله مهما كانت الظروف. ولكن الجو العام يستطيع أن يخلق هذه الصفة ويدعمها ويدعو لها أو أن يحذر منها ويقمعها و يئدها في مهدها. أما حرية التعبير فهي قضية عامة بشكل كامل فهي تقوم أساسا على أن يعلن الفرد أفكاره بشكل عام ويعبر عن آراءه ومواقفه. حرية التعبير اليوم حق معترف به في كل العالم، حق لا منّة لأحد في السماح به. حرية التعبير إحدى حقوق الإنسان الأساسية، الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها بصفته إنسانا لا أكثر. الإنسان أيا كانت ظروفه يتمتع بمجموعة من الحقوق منها حقه في التعبير عن آراءه وأفكاره مادامت هذه الآراء والأفكار لا تحد من حريّة آخرين أو تمسّ حقوقهم. هذه النقطة بالذات حسّاسة جدا وتعد مدخلا لكل أعمال قمع الحريات، فبدعوى أن آراء ما تؤذي مشاعر آخرين فإنها يجب أن تمنع. هذا إبطال لكل حريّة فمشاعر الناس لا ضابط لها ولو ترك الأمر لمشاعر الآخرين لما ظهرت أي فكرة، فكل فكرة أيا كانت، سينزعج منها أفراد ما. إذن من لا تعجبه الأفكار فليس مجبرا على التواصل والتفاعل معها، هكذا باختصار.
وعودا إلى قضيتنا الأساسية قضية حجب مواقع الإنترنت في السعودية التي تقوم بها هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات. هناك عدة ملاحظات على أعمال الحجب هذه فمن جهة أولى أتساءل عن مدى قانونية هذه السلطة التي تتمتع بها الهيئة، فهي تمارس دور الرقابة ودور تنفيذ العقوبة، أي أنها القاضي والجلاد في ذات الوقت. الهيئة أيضا تمارس هذا الدور دون أن تبرر وتشرح أسباب الحجب. من المهم هنا الإشارة إلى أن الأسباب العمومية كالمساس بالثوابت والقيم لم تعد تقنع أحدا، الأمر يحتاج إلى تفاصيل دقيقة تسبب القرارات التي تتخذها المدينة. من الملاحظات المهمة أيضا هل لدى الهيئة قانونا تفصيليا يحدد ضوابط الحجب من عدمها. وإن كان موجودا فلماذا لا ينشر للمواطنين ليتعرفوا عليه ويناقشوه ويكون العمل في الوضوح والبيان. أيضا من الملاحظات هل توجد جهة معينة مسئولة عن الفصل في قضايا حجب المواقع، بمعنى أنه لو أراد مواطن أن يتظلّم ضد الهيئة فمن هي الجهة المستقلة المخولة للفصل في هذه القضية وما هي المواد القانونية التي سيتم التحاكم إليها وهل هذه القوانين تتفق مع اتفاقيات حقوق الإنسان التي وقّعت عليها السعودية أم لا.
صحيح أن أعمال الحجب هذه يتم تجاوزها تقنيا بسهولة وأنها في كثير من الأحيان تصبح شكلية ولا قيمة لها ولكن القضية هنا أكبر من العمل التقني في الحجب، هي قضية حق أساسي للفرد لا يحق لأي كان اقتحامه وتجاوزه هي قضية وعي رسمي بأهمية حقوق الإنسان. الهيئة اليوم تحجب الكثير من المواقع والمنتديات التي يمارس فيها الأفراد الحوار والنقاش وتبادل الآراء والأفكار. المجال في هذه المنتديات مفتوح ولا تطرح فكرة إلا يطرح أمامها ما يعارضها ويخالفها. لا توجد فكرة في عالم الإنترنت تمارس سلطة كاملة على بقية الأفكار، المجال مفتوح للتداول والتبادل. الإنترنت اليوم هو المجال الأرحب للحوار والتفكير والحديث في السعودية، المجالات الأخرى ضيقة جدا، مؤسسات المجتمع المدني لا تزال تبحث عن شرعيتها تحت قبّة مجلس الشورى والمجالس الخاصة لا تجاري الإنترنت في ظروف الزمان والمكان ولا يمكن أن تكون بديلا عنه. إذن الإنترنت هو المجال الأرحب للتواصل بين الأفراد اليوم وعملية الحجب تمس مباشرة بحقوق جمع كبير من المواطنين في التعبير عن آرائهم وأفكارهم تجاه القضايا والأحداث.
هل كل ما يكتب في الانترنت متوازن ومعتدل ؟ بالتأكيد لا. وهذا هو الوضع الطبيعي، الوضع الذي يعكس طبيعة تفكير الناس منذ القدم وفي المستقبل. لا يمكن تغيير هذه الحقيقة. لا يشترط أن تكون الفكرة متزنة لكي تأخذ حقها في التعبير والإعلان، بل إن تلاقح الأفكار و تضادها وتجادلها الناتج عن اختلافها وتفاوتها هو الوضع الصحي والطبيعي الذي ينتج الأفكار العظيمة والقادرة على التغيير والتطوير. التاريخ يقول أن الأمم التي يتمتع فيها الأفراد بحرية التفكير والتعبير يعم فيها السلام ويستقر الأمن ويعيش الفرد فيها بكرامة أما التي يشتد فيها الخناق على التفكير والتعبير فإن كل الأمراض الاجتماعية والفردية تنتشر وتؤدي في النهاية إلى فقدان الفرد لذاته. حرية التفكير والتعبير أمر في غاية الأهمية ومن هنا فإن كل الممارسات التي لها علاقة بهذا الشأن يجب أن لا تمر مرور الكرام ويجب أن يثار حولها الكثير من النقاش والحوار والجدل. هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات إحدى الجهات التي يجب أن تشعر بمسئوليتها تجاه أحد أهم حقوق الإنسان.
أدوار الحجب تتهاوى يوما تلو الآخر وإلى أن تدخل الهيئة في هذا السياق فهي مطالبة بأن تعي أن انتهاك حق الإنسان في التعبير أمر في غاية الخطورة والضرر وأن الاستجابة للأصوات والمطالبات التي لا تؤمن بالحرية ولا تعترف بها وترغب في تكميم أفواه الناس هو أمر يسير بالإنسان والوطن في الاتجاه الخطأ، اتجاه الانغلاق والعزلة، الأمر الذي هو أكبر الأخطار على الأفراد والمجتمعات. عملية حجب المواقع ومنع الناس من التعبير عملية يجب أن تخضع لعمل قانوني دقيق وواضح ومعلن لا تتولاه جهة واحدة بل عدة جهات يتوافق عملها مع المعاهدات والمواثيق التي التزمت بها الدولة مع المجتمع العالمي. هذه المعاهدات والمواثيق تمثل اليوم إنجازا إنسانيا رائعا يقوم على احترام الإنسان والمساواة بين الجميع في الحقوق ليس من الحكمة عدم استثماره والاستفادة منه. صحيح أن الأمر لن يخلو من معارضة من المتخوفين من الحرية ولكن العقل والتجربة تخبرنا أن الخوف لم يسر بأي مجتمع يوما خطوة للأمام.
كاتب سعودي.
abdullah407@hotmail.com