في المجرم وفقَ ماركس والإرهابي وفقَ لا أحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
شكّك الإرهاب، في تصاعده العالمي، بكل صمامات الأمان التي تطوّرت عبر مئات السنين من النضال ضد منتهكَ حرمة الملكية؛ المجرم. يوضّح كارل ماركس بعبقرية جديرة بعصره، العلاقة الجدلية بين المجرم ودوره في تطوير أدوات الإنتاج، قائلاً:
"ينتج الفيلسوف أفكاراً، الشاعر أشعاراً، الكاهن مواعظ، المعلم مقالات... إلخ. أما المجرم فإنه ينتج جرائم. وإذا تفحّصنا، عن كثب، العلاقة بين هذا النمط الأخير من الإنتاج ومجموع المجتمع، لأقلعنا عن الكثير من مفاهيم سابقة. ذلك أنّ المجرم لا ينتج جرائم فحسب بل ينتج كذلك الجنائيات وبالتالي المعلّم الذي يحاضر عن الجنائيات، إلى حد إنتاج الموجز الحتمي والذي بفضله يلقي البروفيسور ذاته دروسه على سوق الاستهلاك العام كبضاعة.
وإضافة إلى ذلك، فإن المجرم ينتج جهاز البوليس كلّه، الجنائيات، العملاء، القضاة، الجلادين، المحلّفين. كما إنه ينتج كلّ المهن المختلفة التي تشكّل العديد من فروع التقسيم الاجتماعي للعمل، هذه الفروع التي تطوّر الحواس المختلفة للروح الإنسانية، كما تخلق حاجات جديدة وأساليب جديدة ترضي هذه الحاجات. التعذيب، وحده مثلاً، أفسح المجال لأشدّ الاختراعات الآلية دهاءً وقد شغّل كمية من الحرفيين الشرفاء في إنتاج وسائله.
تارةً ينتج المجرمُ انطباعاً أخلاقياً وتارة مأساوياً - تبعاً للحالة - وبناء على ذلك فهو يسدي خدمة إلى مشاعر الجمهور الأخلاقية والجمالية معاً. كما إنه لا ينتج مجلّدات الجنائيات، قانون العقوبات والمشرّعين فحسب بل كذلك الفن، الأدب، الروايات وبالتالي المسرحيات التراجيدية.
المجرم يخلقُ انحرافاً في رتابة الحياة البرجوازية وثقتها الهادئة بالنفس. إنّه يقيها من الخمول ويولّد لديها هذا التوتّر وهذه الانفعالية القلقة، وإلاّ فإنّ مهماز المنافسة سينتهي إلى تآكل نفسه. وهكذا يعطي المجرمُ دفعاً للقوى الإنتاجية. فمن جهة، تخلّص الجريمة سوق العمل من ذلك الجزء الفائض من السكّان ومن جهة ثانية فإنّ النضال ضد الجريمة يمتص جزءاً آخر من السكّان أنفسهم. وها أنّ المجرم يَظهر، إذن، كواحد من العوامل الطبيعية للمعادلة التي تعيد التوازن الشافي إلى نصابه، والتي تفتح أفقاُ كاملاً لانشغالات نافعة. ويمكننا، حتى في التفاصيل الصغيرة، تبيان تأثير المجرم، هذا، على تطوّر القدرة الإنتاجية. أكان، يا ترى، في مقدور الأقفال أن تحوز كمالها الحالي لو لم يكن ثمة لصوص؟ وبدون مزيّفي النقود، أكان لأوراق المصرف النقدية أن تكون بهذا المستوى الحالي من الإتقان؟ وهل كان للمجهر أنْ ينفذ إلى التجارة الراهنة لو لم يكن هنالك غشٌّ تجاري؟ وألا تدين الكيمياء العملية للنشاط النزيه والمحكم لإنتاج بضاعات بالقدر ذاته الذي يدين به لتزييف المنتوجات والجهود الرامية لاكتشافه؟
إن الجريمة بوسائلها المتجددة دوماً، في الهجوم على الملكية، إنما تتسبّب، باطراد، في اكتشاف وسائل جديدة للدفاع ضدها، كما أنّ نتائجها هي إنتاجية بنسبة ما هي إنتاجية الإضرابات التي يذهب تأثيرها في اتجاه اختراعات الآلات" (المقطع هذا قمت بترجمته عن الفرنسية، انظر: كارل ماركس: "مؤلفات"، منشورات بلياد، الجزء الثاني، صفحة 399- 400).
كلام ماركس يشخّص بدقة المجرم كعامل مساعد على خلق وسائل أكثر تطوّراً في الحفاظ على الملكية، وبالتالي على تقدّم بشري في خلق مجتمع متماسك. وتكفي المقارنة بين ما كانت تعيشه مجتمعات القرون الوسطى وبين ما تعيشه في القرن العشرين مثلا. لكن الإرهابي لا يمكن اعتباره مجرماً بالمعنى الماركسي للكلمة، فهو:
-أولاً، رمز الملكية الأحادي التفكير بامتياز ، بصفته أداة عملية لتحقيق رسالة وحي ما تعتبر هذه الملكية التي يُعتدى عليها شراً يجب إبادته، وبالتالي لا قيمة للمال إلا كوسيلة تدمير بلا مردود.
- وثانياً، في هجومه على رمز الملكية الاجتماعي؛ أي على مبدأ التسامح بين الشر والخير، يقضي الإرهابي على كلّ إمكانية تطور لأدوات الإنتاج، لفضاء الأضداد وتعدد الثقافات، وبالتالي على كلّ شكل اجتماعي متقدّم يسمح بالثواب أكثر من العقاب.
كان مجرم القرون الماضية (لصاً، قاتلاً، عصابياً فالتاً؛ راسكلينكوف أو مجرد جان فالجان) يعرّي بجريمته بدائية قوى الإنتاج الرأسمالية وكلّ ما يترتب عليها من إساءة للنمط الحياتي المثالي التي تدعيه. كان وخزة ضمير. أما مجرم القرن الواحد العشرين (الإرهابي في لغة الأعلام)، فإنه يلغي هذا الإدعاء الممكن تحقيقه بتطور آخر (الشيوعي، الفوضوي أو المجالسي) للإنتاج، وبالتالي يلغي أية رغبة في تجديد قوى المجتمع الإنتاجية. فالملكية، حلمَ مجرم القرون الماضية، ترابٌ في عين مجرم اليوم: الإرهابي.
لن يمنحنا الإرهابي علاقات إنتاجية جديدة تجعلنا نستفيد من تطور وسائل الصيانة والأمن الاجتماعي، وإنما سيضعنا تحت شروط الإنتاج القاسية عينها حيث العيش في انكفاء ورعب؛ شروط كان مجرم الروايات يحاول كسرها علّها تفيض حرية ومتعة. فالمجرم، بتشخيص ماركس، كان، بكل تجلّياته التدميرية والرومانسية، يطوّر القوى الإنتاجية من أجل الجميع وكأنَّ الدفاعَ عن الملكية تعبيرٌ عن مصلحتهم، محرضاًً إيّاهم على الانتفاض ضد أوضاعهم. أما الإرهابي، ملاكُ السماء الأسود المجبول من طمي التأويل الظلامي للنصوص وهواء التنوير التقني، فإنّه يطوّر الأداة ضد الجميع، خالقاً مُلكية شبحيّة بلا روح ولا ضمير، فرحها أنْ تفرض تحتَ ستار الحرب ضد مجرم جديد بلا وجه ولا هوية، وسائلَ أمن جديدة غايتها حدّ البشر من كلّ متعة وهفوة عفوية، جعلُ الكائنات قابعين متحركين في مدنيات شبكيّة مرعوبين وكأنّ الموت، هدف الإرهابيين الأول والأخير، يترصّدهم أنّى يذهبون: في الشارع، المترو، السوق، بل حتّى عندما يستلقون في السرير حيث الرعشة التيكانتترتسم بعيداً عن أعين الناس، ابتسامةَ فرحٍ على وجوههم، ستجعلهم يقذفون دماً!
ما من قضية عادلة تحلم بفردوسها الأرضي، يمكن لها أنْ تتبنى شكل الموت هذا. الإرهاب حتفها.