الاتجاه المعاكس والأمن الإعلامي العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في محاولة مستميتة للإبقاء على الأوضاع القائمة على ما هي عليه، يدأب العروبيون والقومويون، بين الفينة والأخرى، على إطلاق "فزاعات" مختلفة علـّها تقف في وجه عوامل المد العولمي والتحديثي وضرورات التغيير الضاغطة، والقادمة لا محالة. ولعل مفهوم الأمن الإعلامي العربي واحد من أبرز تلك الفزاعات وبالونات الاختبار، التي بتنا نسمعها على الطالعة والنازلة، والتي سقطت حكماً، بفعل التقادم الزمني، وثورة المعلومات والاتصالات، وعدم القدرة بعد اليوم على التحكم بمصادر الخبر وفيضان المعلومات. ويقتضي أولاً التعريف بمفهوم الأمن الإعلامي العربي ألا وهو، وبشكل عام، التحصين ضد موجات "الغزو" الثقافي الأجنبي والفكر "الدخيل" للحفاظ، والدفاع على ما يسمى بالهوية القومية من عوامل الضياع والاضمحلال.
وبادئ ذي بدء لا يمكن لك الادعاء بأن لديك ذرية وأبناء دون أن تكون متزوجاً أصلاً، كذلك لا يمكن القول بوجود أمن إعلامي عربي واحد دون وجود كيان سياسي عربي موحد ينبثق عنه ذاك الأمن العتيد، إلا إذا كان الحمل غير شرعي وتم بعد اغتصاب وعملية سفاح. وإنه لمن العبث المطلق، الكلام عن أي كيان عربي جامع، في ظل هذا الواقع المتردي من الفرقة والتشتت والتنابذ والتناحر وتباين المصالح والأهداف والميول والتوجهات والحروب العربية العربية الجارية على قدم وساق، وعمليات التطهير المذهبي والدعوات العنصرية والطائفية والتكفير الذي يجتاح هذه المنطقة المنكوبة منذ فجر التاريخ.
والنقطة الأهم، والأبرز، أنه لم تكن هناك، يوماً ما، وعلى مر تاريخ "العرب" الحديث والقديم، أية منظومة سياسية متكاملة اقتصادياً، وسياسياً، وبالمعنى الحديث للدولة المدنية، يمكن التعويل عليها واعتبارها أنموذجاً يـُحتذى، وتجمع هذه الشعوب المكتظة والناطقة بالعربية، والتي تستوطن المنطقة، وتعرضت سابقاً لغزو جحافل القبائل العربية القادمة من جزيرة العرب، وتم بموجبه فرض العقيدة، واللغة، والتقاليد، البدوية والقبلية، التي ما تزال تحكم منظومة العلاقات العامة في هذه الأصقاع المتناثرة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام خلت. ويبرز هنا سؤال محير ما هو السر الكامن في وجود هذا الكم الكبير من اللهجات واللغات وتداخل اللكنات الأخرى في المنطقة؟ كما لا يمكن الاقتداء بأنموذج دولة الخلافة الدينية الشمولية التي لا تلامس البتة، لا من قريب، ولا من بعيد، أي مفهوم لعوامل تشكل الدول الحديثة القائم على اعتبارات أخرى مختلفة كلياً عما تطرحه وتقوم عليه الدول الدينية، غير العادلة والهلامية والفوضوية التركيب عموماً والقائمة على أسس غيبية غير واقعية غالباً أو التعويل عليها مطلقاً. كما أسقطت التجارب، والمصالح، والتحالفات، وبالمناسبة، جميع هياكل الالتقاء العربي الطوباوية والصورية الأخرى كجامعة الدول العربية، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، والتضامن العربي، والعمل العربي المشترك، والسوق العربية المشتركة...إلخ، ولا سبيل لإعادة إحيائها في المستقبل المنظور، ولا يعتقد أنه من الممكن أن يتبقى أية فسحة، بعد الآن، للحديث عن أمن إعلامي عربي في ظل موجة السقوط المريع والتداعيات المتتالية الكبرى والدراماتيكية المذهلة هذه على الجسد "العربي"، ولأدبيات وتقاليد وخطاب القومية العقيم.
وقبل الدعوة لأي أمن إعلامي عربي، نجن بحاجة لهدنة إعلامية عربية عربية، ومعاهدات عدم تقريع وتشنيع على الهواء توقف هذا السيرك المخجل من المهاترات والتطاولات وحفلات الردح العربية العربية بحيث أصبح العرب هم مصدر التآمر الوحيد على العرب وهم الوحيدون الذي يهددون "الأمن العربي" الشامل، بما فيه الأمن الإعلامي العربي، إذا كان قد تبقى ثمة حديث أو أمل عن أي شيء عربي جامع مانع على الإطلاق.
فإن الحديث عن أي مفهوم لأمن إعلامي عربي ما هو إلا محاولة مشبوهة، وغير موفقة وتقف وراءها، على الأرجح، نفس منظومة الاستبداد إياها، المتضررة من مستجدات التغيير والعولمة، مدفوعة برغبة عارمة لإعادة إحياء تقاليد التكتم، والتعتيم، والمداراة، والإظلام التي أتى عليها الزمان والمد العولمي المبارك، ودأبت على ممارستها آحاداً، ومجتمعة، في حلف غير مقدس فيما بينها، لمنع فضح كل ما كانت تقوم به من موبقات وسفالات ورذالات وتجاوزات مخجلة يندى لها الجبين ضد شعوبها، وهذا ما عرف لاحقاً، بميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي كان يعني وبكل بساطة: " تكتم عليّ لأتكتم عليك" و"داري عليّ لأداري عليك"، وهو مستمر إلى الآن بشكل أو بآخر، رغم أن البعض قد شق مؤخراً عصا الطاعة على هذا المبدأ لاعتبارات جيوبولوتيكية إقليمية واستحقاقات قد يعتقد، ويتوهم بأنها قادمة. وأفضى تطبيق ذلك المبدأ المريب عبر عقود إلى "تمرير" قضايا كبرى، والتعتيم عليها بتواطؤ جماعي إعلامي غريب، وتمت عبره وتطبيقاً لمبدأ الأمن الإعلامي الشهير تغطية ممارسات استبدادية فظيعة دون أن يسمع بها أحد، وكل ذلك كان طبعاً في عصر ما قبل ثورة الإنترنت والفضائيات والسموات المفتوحة التي لم يعد هناك من مجال لإعادة إغلاقها، وعودة عقارب الساعة ولو قيد أنملة إلى الوراء،. ففي الوقت الذي كان يصفق فيه الخليجيون، مثلاً، لبطل القادسية الجديد، ويتغنون بوسامته وفتوته وأمجاده الدموية الفارغة، كان يرتكب أبشع الجرائم والمجازر ضد مواطنيه، والتي طالت أقرب المقربين إليه. ولولا تطبيق ميثاق الشرف الإعلامي العربي ( الأمن الإعلامي العربي)، لما جرى كل ما جرى لهذه الأمة مآس وكوارث بالجملة عبر "الخدمات" الإعلامية المشتركة المتبادلة في ما بين أنظمة الاستبداد والموجهة أصلاً لقهر المواطن العربي واسترقاقه وتجويعه وإفقاره ليس إلا، وهذه هي غاية الغايات ومصب جميع السياسات العربية الرسمية والتقليدية المعهودة، حيث لم تنل الشعوب في هذه المنطقة المنكوبة أية حصة أو جزء من خطط التنمية الوطنية الموعودة والتي كانت بمجملها مجرد وعود خلبية كاذبة لم تحصد الشعوب منها سوى الوهم وقبض الريح.
إن التمايزات والاختلافات الديموغرافية بين سكان وشعوب المنطقة يفند حقيقة انتمائهم إلى عرق وقومية واحدة، ومن يتتبع تلك التمايزات يلاحظ الفروقات الديموغرافية والسلوكية والوراثية الهائلة بين سكان الجزيرة العربية وبلاد الشام والمغرب العربي ومصر والسودان، ويستطيع بكل سهولة، ويسر نقض تلك الدعاوي التي تنسب هذه الشعوب إلى أصل واحد وجد واحد. فعامل الدين واللغة وحتى الدين لا يصنع قومية ولا أمة واحدة، لأنه في هذه الحالة، وبناء على هذه الفرضية الهشة يمكن القول أن شعوب بريطانيا، والهند، ونيوزيلاندة، واستراليا، وجنوب إفريقيا مثلاً، وهي تشترك بلغة واحدة ودين واحد في العموم، وتجمعها قواسم تاريخية مشتركة، تشكل أمة واحدة، وقومية واحدة، وهذا أمر غير واقعي، وأغرب من الخيال. ثم أن سقوط وهزيمة عصر القوميات الفاشي العنصري في أوروبا أكد بما لا يدع مجالاً للشك هشاشة وخواء تلك الفكرة وعدم صوابيتها المطلقة في تشكيل الكيانات السياسية العصرية، إذ ما يوحد الشعوب والدول والكيانات السياسية في هذه الأيام هو الأهداف والمصالح الاقتصادية المشتركة ورفاه الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه فلا يجوز البتة القول يجب أن نكرم الصربي أو الألماني أو العربي لأنه كذا ونضطهد الفرنسي أو الأوكراني لأنه كذا فهذا من فقه الأدغال والوحوش. فعامل العرق والانتماء والقومية لا يغني ولا يسمن من جوع، ولا يعول عليه ناهيك عن مضامينه العنصرية والإجرامية الفاقعة. ورأينا كيف توحد البولندي، والفرنسي، والروماني، والألماني، والهولندي، والإسباني...إلخ، وربما لاحقاً المسلم التركي، تحت راية ناجحة للاتحاد الأوربي التي ذابت فيه كل اللغات، والأعراق، والأديان، خدمة لإنسانية الإنسان التي هي غاية الغايات وأرقى الدعوات، لا النحو باتجاه نزعة فاشية عنصرية فئوية قوموية ساقطة.
وأما ثوابتهم وبالعودة لمفهوم الأمن الإعلامي العربي، ومن وجهة النظر القومية والعروبية، فهي تعني، وتحديداً، عدم التطرق للثالوث المحظور، والتابو المقدس المعروف، ألا وهو الدين، والسياسة، والجنس، أو إحداث أي تغيير على البنيوية الفكرية التقليدية لهذه الأيقونات والأبقار القومية المقدسة التي تشكل ديدن وهاجس القوميين الوحيد. فعدم التطرق لقضايا الدين، مثلاً، وبالمختصر المفيد، يعني استمرار خزعبلات ودجل وزعبرات الخطاب الديني التي شغلت بشكل عبثي وممجوج هذا الإنسان لقرون مضت عن قضايا التنمية والتطوير والإبداع. ويكتسح ذاك الخطاب الفارغ الشارع العربي من أقصاه لأقصاه، ويعني بالمآل استمرار سطوة الكهنوت الديني المدعوم من أنظمة الاستبداد، والذي يسهـّل لها القوادة السياسية والموبقات والتفريط بحقوق الناس من منظور سماوي، ويبرر لها كل فجورها وانحلالها الخلقي تحت يافطة الولاية والإيمان، ومن هنا تجب المحافظة على هذا النمط وعدم المساس به لأنه سيقوض أسس ووجود تلك الديكتاتوريات التي تتلبس بلبوس الدين والإيمان، وإن طرح أية أسئلة فكرية وفلسفية لمفهوم الدين سيعني سقوطه وإلى غير رجعة وهو الذي استعمل عبر التاريخ "القومي" العريق للسيطرة على الناس وسوقهم بالوجهة التي كان يريدها تحالف القوة والمال.
كما أن عدم الاقتراب من السياسة يضمن عدم التعرض للسلالات القدرية الجاثمة على رقاب العباد تفعيلاً لمقولة وأطيعوا أولي الأمر منكم، وتكريساً للاستبداد، ولكي لا يتم الحديث عن أية محاولات للإصلاح وإطلاق الحريات العامة وتفعيل مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار الذي ظل وعلى مر التاريخ القومي إياه حكراً على الطبقات السياسية التي تتحكم بالجاه، والثروات، فالاقتراب من السياسة سيبطل وينهي سيطرة تلك المنظومات ويبعدها عن التحكم برقاب العباد، ولذا، ومن هنا يظل الأمن الإعلامي ضامنا لكل تلك الممارسات. وأما الاقتراب من الجنس فهو أيضاً تكريس وإدامة لتلك النظرة الدونية للمرأة وطرائق التعامل البدائية معها، واحتكار الجنس والملذات لأبناء الذوات، كما في المجتمعات البدائية، كأية سلعة أخرى، لمن استطاع إليه سبيلاً، وتفسيره والنظر إليه فقط عبر تلك الرؤية المتخلفة التي قدمتها نصوص لم تعد قابلة للحياة، والرمي بكل تلك النظريات والدراسات العصرية الحديثة التي تقدم الجنس على أسس علمية وموضوعية، كان من نتائجه تحرر المرأة، وتكريمها، وتحرير الإنسان عموماً من الخرافات، ودخول المرأة لاحقاً في معترك الحياة مما أفضى إلى ثورات اجتماعية وفكرية استطاعت من خلاله تلك المجتمعات أن تحق قفزات حضارية مميزة. أما النظرة التقليدية باعتبار المرأة حاضنة للجنس وتفريغ الشهوات، ووأدها ودفنها حية في الحياة، فلم تثبت جدواها في بناء مجتمعات عصرية ومنفتحة، وهي نظرة تقليدية تجاوزها الزمان.
ويظل أمر الهوية القومية العربية وثوابتها المشينة، والتشبث الغبي بها، لغزاً عصياً عن الحل والفهم، طالما أن تلك الثوابت والهوية لم تجلب، وعبر تاريخها الطويل سوى البؤس، والفقر، والعار، والديكتاتورية، والاستبداد والطغيان والخذلان لشعوب هذه المنطقة التي فرضت عليها هذه الخرافة المزمنة. نعم قد يوجد ما يوحد هذه الشعوب التي تستوطن المنطقة من هموم، ومصالح، وتطلعات مشتركة لتشكيل كيان يساهم في رفد البشرية بما هو سام وعظيم وخلاق، لكن ليس على عامل العرق الوهمي فقط، وليس المشاكسة والوقوف في وجه المد العولمي والحركات العصرية والتجديدية لبني الإنسان والتفاعل مع الحضارات الأخرى والأخذ منها وإعطائها أي شيء إذا كان هناك ثمة شيء يمكن إعطاؤه على الإطلاق. ويتلخص جل الفكر والفقه القومي التقليدي على تميز الهوية والشخصية العربية وتفردها عن الآخرين بخصائص استثنائية و"الوقوف" و"التصدي" لمحاولات "النيل" من هذه الهوية القومية، ولنا أن نتصور فحوى هذه الدعوات التصادمية العدوانية والتعبوية العنصرية ضد الآخر والتي تعني في النهاية العزوف كلية عن المساهمة في مسيرة الحضارة العالمية، وتأجيج مشاعر العداء ضد المختلف قومياً، ودينياً، وعرقياً وهذا ما سيؤدي بالتالي إلى حروب ومشاحنات لا أول ولا آخر لها وهذا ما فعلته القومية الفاشية في أوروبا في النصف الأول من القرن الفارط. وإن ثقافتنا التي تخاف من أية مقارنة أو سباق مع الثقافات الأخرى يجعلها تضرب حول نفسها ذاك الطوق الفولاذي من المحرمات والممنوعات والأغلال لأنها ستسقط في أول امتحان مع ما راكمته البشرية من تحولات مذهلة في كافة المجالات، وهذا ما يجعل الدعوة لأمن إعلامي عربي، أمراً ملحاً عبر فقه العروبيين والقوميين إياه لحماية ذاك الفكر الفاقد الصلاحية من الزوال والاضمحلال. ثم ما هي أهم ميزات وسمات تلك الهوية التي لم تعن عبر التاريخ، وكما لاحظناه، وألفناه، سوى التخلف، والفقر، والجهل، والديكتاتورية، والحروب، والعشائرية، والقبلية، والاستبداد....إلخ؟
والسؤال الأهم، هل هذه الأمة هي أمة من الورق والبلاستيك بحيث تقوض أسسها أية نسائم تهب عليها من هنا وهناك، وتحتاج لتلك الحالة الدائمة المتوترة من الأمن والتضييق والحصار والحروب والاستنفار؟ إن تحصين الشعوب والأمم والمجتمعات، إذا كان هناك أية إمكانية للحديث عن غزو واستهداف ثقافي وغيره، وإبقاؤها في حالة من الأمن والأمان والبعد عن التأثيرات وعوامل الفناء، لا يتم عبر الخيارات الأمنية والمرحلية الارتجالية بل يتم فقط عبر بناء الإنسان الواعي المتسلح بأسباب العلم والعقلانية وبالثقافة العصرية المتحضرة، لا بالدجل والنفاق والزعبرات. والعمل على تأسيس الكيانات السياسية على أسس واقعية وعلمانية وعصرية وحداثية، والتخفيف ما أمكن من وطأة الظلم ومبررات النقد والتجاوزات التي تقوم بها الأنظمة، وتبنـّي تلك السلوكيات السامية التي لا تعطي لا "الأعداء" ولا الأصدقاء، أية مبررات للنفاذ إلى قلب هذه المجتمعات واللعب على متناقضاتها والمتاجرة بانحرافاتها لأسباب سياسية، وإحداث ذاك الشرخ الذي يكون غالباً سهلاً وقابلاً للتحقيق في حال كانت الممارسات سلبية. ولأن ثورة الاتصالات والمعلومات والفضائيات والإنترنت وسرعة تدفق المعلومة والخبر قد جعلت، في النهاية، من أي رطانة وحديث عن أي أمن إعلامي، مجرد ثرثرة، وكلام فارغ، وهراء بعض مما طرحته، وبسرعة واختصار شديدين، في حلقة الاتجاه المعاكس الأخيرة، والتي تناولت مفهوم الأمن الإعلامي العربي، وما لم يتسن لي طرحه، أيضاً، بسبب ضيق وقت البرنامج، وكثرة المحاور، وثراء الفكرة، وتشعب النقاش.