تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 2 )
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 1 ) في بدايات فترة تمردي الأولى على الأيديولوجيات الدينية كنتُ أستجيب بشكل متدرج وعميق لطاقة التغيير التي كانت تتدفق في روحي وعقلي، وكنتُ أؤكد لنفسي دائماً بأن هذه الطاقة المتوهجة لكي تنفذ بعمق ووعي وتوقد إلى عقلي يجب أن يكون كما لو أنه قد وُلِد جديداً متعافياً تماماً من دمامات الفكر الديني المؤدلج، فأية طاقة تغييرية حينما تمور بالحركة التفاعلية مع العقل والروح، إن بقيتْ حبيسةً وسجينة داخل الذات لا يتفاعل معها الإنسان واقعياً وعملياً ووجودياً، فإنها قد تصبح في وقت ما سبباً في تعاسته وبؤسه وكآبته النفسية والشعورية، بينما أولئك الذين يسمحون لتلك الطاقة أن تجد طريقها تفاعلاً مع واقعياتهم العملية ويجعلونها تالياً على قيد التواصل اليومي معهم، فإنهم في حقيقة الأمر يريدون لها أن تبقى دائماً مشتعلة بتجلياتها الفكرية تاركينَ لها في الوقت نفسه طريقتها في اختيار ما يناسبها، لتصبح فيما بعد مسكونة بالتواصل المثمر مع العقل والروح والواقع حسب درجة الصفاء الداخلي الذي تكون عليه وتومض به، وربما في مرحلةٍ لاحقة يجدون متعة حقيقية في الاسترشاد بها واستقراء ومضاتها المشعة، ولا أبالغ إن قلتُ أني تفاعلت مع طاقة التغيير في عقلي وروحي على هذا النحو..
وأعتقد أيضاً أن أية تجربة ربما قد ندخلها في البداية مدفوعين بعفوية الرغبات وربما ندخلها أيضاً بسذاجة مطلقة، وفي أحيان أخرى قد ندخلها بغباء توفره على نحوٍ ما البيئة الصانعة لها والمحيطة بنا، فقط لأننا وجدنا إنها قد أطفئت فينا تساؤلات عدة لا طاقة لنا بمحاولة استيضاحها ذاتياً أو محاولة تفكيكها منطقياً وعقلياً أو محاولة تشريحها نقدياً، بل وجدنا الإجابات على تلك التساؤلات أو بعضها من قبِل الأيديولوجيات الدينية جاهزة وربما معلبة بمعنى أدق، تريحنا من جهد التفكير وعناء البحث وتعب التقصّي وفضول المتابعة، ولذلك قد لا نخرج من تلك التجربة إلا ونحن نحمل على أكتافنا أثقالها الكئيبة واكراهاتها الكثيرة، وقد تبقى تلاحقنا فترة من الوقت بعذاباتها ودماماتها وترسباتها العالقة، وتبعاً لذلك أجد أنه ليس كل مَن يدخل تجربة ما سواء بوعي منه وبتصميم عقلي وبقرار اقتناعي أم مَن يدخلها بعفوية أو سذاجة في البداية، يستطيع الخروج منها بسهولة ويستطيع تالياً التعافي منها سريعاً، فالأمر في النهاية يتوقف على مدى درجة استعداده للتعايش والتفاعل مع الطاقة التغييرية التي تبدأ تدب في عقله وروحه، وعلى مدى قدرته الذاتية أيضاً بالاسترشاد بها وعياً وانسجاماً وراحةً نفسية وعقلية، ووجود هذه الطاقة عبر تفاعلاتها الدائمة والمثمرة والمتغيرة تدفع الإنسان نحو تلمس جدوائية تحولاته الفكرية بعمق، وبالتأكيد ستكون تلك التحولات بمثابة دهشات تحريضية وربما استفزازية وقد تتشكّل في محركات ثقافية تحفيزية تأخذ بالفرد إلى سبر أغوار ذاته المفكرة مستمتعاً بمعرفتها أكثر، ومُدركاً في الوقت نفسه طبيعة اتجاهاتها التجديدية، وتضعه تلك التحولات دائماً أمام استنطاقات ذاته المعرفية لمدلولات الأشياء من حوله..
وبمقدوري التأكيد على أن الإنسان كلما كان محلقاً في مستويات ثقافية رفيعة ورحبة الآفاق وفسيحة المعاني متحرراً من المستويات الحابسة والمحدودة والضيقة والجامدة لأيديولوجيات الفكر الديني، كان في مقابل ذلك متمتعاً بقدرة خلاقة على نقد ذاته، لأنه ينشد من خلاله التغيير والتطور والبناء، ولذلك كنتُ أتحسس دائماً الفرق بين مرحلتين في حياتي، حيث وجدتُ نفسي مع الأيديولوجيات الدينية راضياً ومقتنعاً بالنمط المقولب الذي كنتُ فيه، لأننا لم نكن نملك ثقافة النقد التغييري للذات، مستسلمينَ تالياً للمستوى الذي كنا فيه ومُبقين عليه قابلينَ به نفسياً وثقافياً، بينما في مرحلة الانعتاق كاملاً من أغلال تلك الأيديولوجيات وجدتُ نفسي أخوض غمار التغيير تُلهبني حماساً نشوة الخطو الشهي لِتجاوز المستويات وطي المراحل تباعاً، وعليهِ فاني أجد أن الفرق بين مَن يملك ثقافة النقد للذات، وبين مَن لا يملك تلك الثقافة، كالفرق بين مَن يريد تغيير ذاته كإنسان يستحق الأفضل والأعلى دوماً، وبين مَن يريد أن يُبقيها كما هي عليه من دون تغيير أو تطور، خاضعاً لثقافةٍ يظلّ يتوارثها قرناً بعد قرن..
ومن الطبيعي أن يرغب الإنسان دائماً نحو تحقيق نوع من التكامل الذاتي والوجداني عندما يخوض أية تجربة في حياته، لأنه في هذه الحالة يبقى مسكوناً بهاجس التماهي معها على نحو ايجابي واستثماري، وإذا ما فشلَ في ذلك، فإن المشكلة إما أن تكون فيه أو في المكونات الخاصة بالتجربة والخاصة بأنماطها الثقافية، ومن هنا أستطيع القول أنني في تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية لم أستطع أن أحقق نوعاً من التكامل الذاتي والوجداني يُلهم جانباً ما في كياني، لأني كنتُ أجد في الأنماط الثقافية التي تحتويها الأيديولوجيات الدينية افتراساً بشعاً لرغبة الإبداع الحر في داخلي، ذلك الإبداع الذي توجده برغبة إرادية حرة وتعمل على استثماره واقعياً وتتماثل معه ذاتياً، وذلك الإبداع الذي لا يتنفس وجوده الطبيعي إلا بالخروج تمرداً على الأطر الأيديولوجية الهادمة لحركته الحرة، لأن أية عملية تغيير نحو الفضاء البعيد والفسيح والحر تتطلب بالضرورة وجود رغبة الإبداع الحر، ولذلك تعمل الأيديولوجيات الدينية في بيئتها الحاضنة لتجمعاتها التابعة لها على مصادرة تلك الرغبة في أفرادها وافتراسها وردمها وقتلها عبر إيجاد منظومة عقائدية صارمة وخلق برمجيات ذهنية ثقافية محددة ورسم خطوط حُمر تُرهب من يحاول الاقتراب منها أو التفكير في تجاوزها، ولذلك أتساءل ما قيمة الإنسان حينما يتحول إلى مجرد رقم كمّي في المجموع، إلى مجرد رقم عددي يُضاف إلى الأرقام الأخرى، فحينما تقمع الأيديولوجيات الدينية في أفرادها طموح الإبداع الحر وتصادره بحجة عدم المساس بثوابتها الفكرية والمفاهيمية والماضوية، يتحول الفرد فيها إلى مجرد رقم تراكمي، وعادةً ما تعمل مؤسسات الفكر الديني المؤدلج على أن تجعل من الفرد رقماً تراكمياً يفتقد خاصية الكيفية والنوعية والتفرد والتميز، تحولهم إلى أفراد يتناسلون تباعاً في تراكمات الأرقام العددية، ويتشابهون في عقولهم وأفكارهم وآرائهم وتاريخهم وحاضرهم وأيضاً في تفكيرهم..
وما لا تستطيع الأيديولوجيات الدينية أن تهضمه حقاً وتحاول أن تحاربه ما استطاعت من قوة وتصميم وشراسة، هو أن التغيير وبناء الإنسان المبدع الحر في أساسه وأصله إنما يقوم على عمليات التمرد الجميل، أو بمعنى أدق التمرد الواعي المتوهج باشتعالاته التجديدية والتغييرية والمتوثب بعشق المغامرة في البعيد من خلق الأفكار والتصورات والمفاهيم، وكان محقاً المفكر القصيمي حينما قال مشدداً على هذا المنحى : الحضارات العظيمة لم تنهض كلها إلا على أطلال الروايات التي كانت دائماً قيوداً على العقول، وعلى احتمالات الابداع، لقد كان الإنسان يتمرد على فترات فيقذف بتلك القيود ويمضي في الطريق، وكان هذا معنى الحضارة، إن الحضارة هي مجموع عمليات التمرد على النقل، وليس الجمود التاريخي إلا جموداً على النصوص..
ولستُ أشك أبداً في أن الإنسان عموماً سيجد في يوم ما حقيقة ذاته حينما يقوم بهدم كل ما لم يكن راضياً عنه، وبهدم كل ما كان يسلبه حق التمرد والإبداع الحر، وبهدم كل ما كان يشتت كيانه في متاهات الوهم والضياع والكم، ويسعى ليعيد من جديد بناء نفسه وفقاً لشروطه واشتراطاته في وجوده وحريته وكيانه، وقد يكون محقاً أحد الفلاسفة، لا يحضرني اسمه حينما يقول : إن حقيقة كل إنسان، ليست إلا نتاج ما تهدّم، وما أعيد بناؤه..
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com