عن القراءة العربية لقصة التنوير الأوربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تمثل رحلة انبناء "المشروع الغربي" للهروب من عصور الظلام إلى عتبات التنوير نموذجاً بحق للخروج البشري الكبير من حقبة مليئة بالكهوف الظلامية المؤلمة باستبدادها إلى مرحلة تعتبر من أكثر مراحل الإزهار في التاريخ البشري تمثل تلك الرحلة النموذج المركز الذي يوزّع تنسيق الأفكار وترتيبها بالنسبة للباحث العربي، وربما كان ذلك الاقتناع بالنموذج هو "المشترك الوحيد" بين دعاة التنوير المتضمن تنويرهم "قطيعةً ما". ذلك الاشتراك في نموذجية تلك الرحلة صيّر التدوين الذي كتب عربياً في سبيل توصيف طريقة الخروج الغربي إلى ساحة لتشكيل نمط الخروج وفق زوايا الرؤية التي ينطلق منها كل طرف حيث تشكّل الخطة الأولى للخروج من كهوف الظلام مثاراً لمعارك طاحنة لا تنتهي. وذلك-ربما-لاختلاف مستويات "القطيعة" المراد فعلها وفق مرجعيات كل طرف، والممانعة لا تأتي إلا بعد تعديلٍ ما على نموذج الخروج الغربي وتصويره تصويراً جديداً يتفق مع إرادة الفعل التي يطمح إليها كل طرف. وتتعارك أولويات كثيرة، وفق بيانات مؤلفة/ فئة تضع التغيير "السياسي" درجة السلم الأولى، وأخرى ترى في "التغيير الثقافي" الأولوية القصوى لتصديع كل البنى العائقة عن ولوج قصر النور البعيد واللحاق بركب التاريخ الذي ركلَنا خارج ركْبه منذ قرون.
حينما تدوّن تجربة "المشروع الغربي" للخروج، تدوّن بنصوص لها أطيافها المحلية، حيث نجد من يحصر المشروع الغربي بانتقاءات تبرهن على رؤية مفادها أن المشروع الغربي كله، قام على أنقاض "كنيسة" كما يشرح بوضوح -هاشم صالح في مدخل إلى التنوير الأوربي- وبين من يشرح-أعني مطاع صفدي- أن "تاريخ التنوير الغربي هو تاريخ تحوّلات أصلاً وأن التنوير ليس حادثاً ولا عصراً ولا تاريخاً وإنما rsquo;ندرة التناهيrsquo; مبيناً أن اللحظات النادرة التي تؤرخ تمظهرات كينونة للحداثة والتي يسميها فوكو الابستميات هي لحظات ندرة التناهي، آخذا على السؤال العربي للفسلفة أنه لم يحقق لحظة أبستمية واحدة على طول تاريخه" وثالث و-وهو علي حرب-يرى أن المشروع الغربي انبنى على ولادات متتالية للحظات تنتج مفاهيم جديدة، حيث يتعامل المختبر الفلسفي الغربي الحديث مع الفلسفة لا بوصفها نظريات شاملة محصّنة ضد النقد والمساءلة وإنما بوصف كل الإنتاج الفلسفي يبقى ثرياً بـ"المفاهيم" التي تخصّب فعل التأويل، ليطغى المفهوم على النظرية.
وإذا كان التدوين الفكري العربي عجز عن صياغة سؤال يتمكّن من خلال طرحه من القبض على طبقة واحدة من طبقات التكلّس التي ترين على قلب الحياة النابض، فإن الإشكالية الأساس في تصوّر العربي لحالته هو! حيث تتصدّر لائحة المطالبات التنويرية الحالية مطالبات سطحية، تدل على ضعف في استيلاد الأسئلة وسخاء باذخ في كتابة الأجوبة وتزويقها. تُطرح أولويات كثيرة على أنها هي "الشروط" التي يمتنع تحقيق أمر ما مالم تتحقق تلك الشروط، ويغيب الواقع بوصفه شرط الشروط، هذا ما تدل عليه الكتب المرصوفة رزماً وكلها تدعي أنها وجدت حلّ التنوير السحري، بين ثنائيات قديمة، بين شرط إسقاط "الحكومات" وشرط إسقاط "الجامع"، لم تجرؤ إلا البحوث الحديثة الحداثية جداً على تجاوز تلك الثنائيات العتيقة والتي تدور في فلكها قوات التنوير الفكرية، لم تعد كل تلك الصفائح سوى عملة قديمة، لأنها تفكّر بعقلية ما قبل تأثير التنوير الأوربي على الحلم العربي.
لم يتكوّن بعد سؤال التنوير الفعلي الذي يشخّص موقفاً عملياً من الإرث بتنوّع طبقاته، وأصبحت أغلب الإنتاجات المتصلة بالتنوير ليست إنتاجات فلسفية، فهي تشبه "تقارير التنمية" أو "تحليلات الخبراء" وتلك الخطابات لا تكوّن سؤالاً، بقدر ما تُبروز "الحلُم" بالخروج من ذلك النفق، يصبح التنوير "دغدغة" تُلازم الصحافي والخبير والتنموي، ويعجز السؤال الفلسفي عن صياغة سؤال يصبح لازباً ثقافياً شعبياً يجتثّ مرض التخدر الطويل.
عدا عن كون تشكيل السؤال فالفلسفة-حسب هيدغر- تبدأ مع السؤال، وجلّ الإخفاق الذي يجثو على ركب التدوين المتصل بالفلسفة من جهة العرب مصدره عدم التفريق بين "الفلسفة" و "الفلسفات" فأكثر اللقطاء في حقل الفلسفة هم من "ضحايا النظريات" وعبّاد الفلاسفة وأتباع المقولات، بينما تظل الفلسفة "البناء الذي يحتفظ بكينونته، ببراءة السؤال الأول، بعدها ومع المراس تتكون الفلسفة وفق النظر في الكون والرؤية للعالم والعيش بوجود حقيقي داخل العالم. فالفلسفة -وفق كيركجارد-يفترض أن لا تكون (فلسفة أساتذة وإنما نتاج بشر موجودين حقاً) لم تزل بعد حركة التنوير العربية حركة متذبذبة تضع كل عوائقها المعرفية والفكرية على الآخرين، وتشجب كل شيء إلا أن تشجب نفسها، وتظلّ الحرائق الملحمية بين كتّاب الفلسفة مجرد جعجعة طويلة بلا طحين.
فوضى تصوّر طريقة خروج الغربي من مأزقه القديم المشابه لمأزقنا الحديث لم يسر بالبحوث إلى قراءات تأويلية لذلك الحدث عبر كتابات دقيقة، وإنما أثّر على قاعدة التدوين الفكري العربي وهي ما تسمى بـ"المشروعات الثقافية" التي تضع قاعدة الخروج المتصوّرة ثم تشيّد مشروعها النقدي عليها. ندرك كل تلك الفوضى حينما نعلم أن العالم العربي لم تمرّ عليه نهضة معاصرة، حتى تلك التي عقبت استيراد المطابع، ثم عصر الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، لم تكن سوى لحظة هدوء سُمع بسببها حوارات عامة عن (سرّ تقدم الغرب وسرّ تخلفنا)، ذلك السؤال لم يكن جوهرياً بقدر ما كان طفولياً برغم ترسانة الكتب التي حملت العنوان ذاته أو قريباً منه. الفقر الأيديولوجي في تلك الفترة ساهم في تسهيل سماع الناس لذلك الحوار، وإلا لو كان التنوير يقاس بعدد الكتب والمشاريع التي تسأل عن التنوير ولغزه وتنتج المؤلفات والأجوبة حوله، فهي هذه الفترة الأكثر ضرواة من حيث "التأليف" و"الترجمة" والإنصات للغرب. في نظري لم يكن "عصر النهضة العربي" المدوّن عصراً نهضوياً بل كان مجرد عصر "فقر أصوات".
يبقى القلق مفتوحاً بانتظار تكوّن السؤال الفعليّ. خاصةً وأن رزم الأوراق المدونة عربياً لم تكن سوى مغازلات فكرية لرحلة الغرب النموذجية الرحلة التي أصبحت طيفاً يطبع كل إنتاج التنوير المؤمن بقطيعةٍ ما، هل كان الركض كله باسم الفلسفة مجرّد أحلام وردية ودغدغات شاعرية، هذا ما تبرزه الحالة العربية المليئة بالنتائج المربكة، كما يبرزه ويشرحه الكهف الذي يزداد ظلمةً وسواداً يوماً بعد آخر.
كاتب سعودي.
shoqiran@gmail.com