أصداء

بين ماركس و الجريمة و عبد القادر الجنابي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في مقالي الموسوم " كيف تمكن البعض من تطوير ماركس خلال سبعة أيام بدون معلم " حوّرتُ عنوانا شائعا لكتيبات مخصصة لتعليم مفردات و تعابير محدودة تخص لغة من اللغات و خلال فترة قصيرة لغرض تمشية أمور المسافرين الراغبين بقضاء حاجاتهم في البلد المضيف. لعل أبناء جيلي أو من هم أكبر مني سنا بقليل يتذكرون كيف أن موظفي السبعينات كانوا أحيانا يقتنون هذه الكتيبات بائسة الطباعة و الإخراج، و لكنها ربما عظيمة الفائدة لمن يريد ان يقضي بعض حاجاته إثناء السفر. و بها قصدت عكس ما يوحي به العنوان، أي أن هذا الأمر ـ أن تتعلم ماركس خلال سبعة أيام حتى بوجود معلم ـ مستحيل مادام الأمر يتعلق بفكر فلسفي سواء كان كانتيا، هيغليا او حتى في هذا الحالة ماركسيا.
أما التعليقات التي كتبت فقد كانت في أغلبها بعيدة كل البعد عن محتوى المقال، حتى جاء التعليق الأخير من أحد الأصدقاء تحت عنوان يشير الى صدر البيت الشهير الذي قاله المعري الضرير الذي أبصر أكثر من المبصرين:
لقد أسمعت لو ناديت حيا و لكن لا حياة لمن تنادي
لم يكن جميع المعلقين لا يفهمون ما ذهبت إليه في مقالي، ولكن بعضهم على الأقل لم يرغب أن يفهم، فالفهم مكلفٌ و متعبٌ و له متطلبات.
و الفكر، بالنسبة للبعض عدا ذلك، مسألة انتقائية تشبه قيام المرء بشراء ما يرغب من بعض أنواع الخضار و العزوف عن شراء بعضها الآخر. أليس الأمر مرتبطا بذوقه و رغبته في هذا الطعام دون ذاك؟
على أن الفكر ليس طبخة! و به لا تستطيع أن تشتري ما تشاء و تترك ما تشاء. انه، و يا لسوء حظ البعض، ارتباطاتٌ و علاقاتٌ و بناءٌ محكم لا يُعطي المرء الفرصة أن يختار ما يشاء دون الأشياء التي لا يرغبها. و بموجبه ليس بمستطاع المرء ( كما رغبت أن أقول في مقالي السابق) أن يكون ماركسيا و طائفيا في آن واحد.
حين تحدثت عن نقد ماركس للفكر القومي، لم يكن ذلك لأنني ماركسي فهذه في كل الأحوال مسألة أخرى ، بل كنت سأفعل ذلك حتى لو أكن ماركسيا. فمن أجل مناقشة أناس تدعي الماركسية و تقوم بتأويل ماركس كما تشاء، بات لازما مناقشتهم بمنطق ماركس نفسه و ليس بمنطق آخر. فلو أنك مثلا ناقشت كاتبَ مقالٍ عن ابن رشد، ألا يكون لزاما عليك أن تتعرف على ابن رشدٍ و أفكارِه و ما كتب هو و ما كُتب عنه لكي يكون بمستطاعك مناقشة من أدعى انه يدرك و يحلل أفكاره سواء آمنت بفلسفته أم لم تؤمن؟
الانطلاق من نفس منطق الشخص المحاجّ هو الطريقة الأسلم و الأكثر فاعلية في النقاش. وجريا على ذلك تم الاعتماد على ما قاله ماركس من أجل إيضاح كيف أن البعض في حقيقة الأمر لا يعرف ماركس. و هذا لا يفترض بالضرورة ان المحاجّ يتبنى الفكر جزئيا أو كليا.
فلو أن أحدا من إخواننا المسيحيين حاجج مسلما معتمدا في المحاجّة على أحكام الدين الإسلامي نفسه و معتمدا على النصوص القرآنية و مفندا بهذه الطريقة رأي أخينا في الدين، لن يجعل هذا منه، أي من أخينا المسيحي المجادِل، مسلما، لكنه سيمكنه من أن يدحض خصمه بسلاحه و منطقه.
فلكي أفند من وجهة نظري ما أراه خطأ أو تضليلا ارتكبه ماركسيون يفسرون ماركس على هواهم، اعتمدت في النقاش على تراث ماركس قائلا لهم: لا تضحكوا علينا! اذا كنتم بررتم هذه القضية أو تلك متذرعين بماركس، فليس لهذا الأمر شأنٌ به، فماركس لم ينقد الفكر القومي ليقول أن بمستطاعكم أن تغادروا الفكر القومي لتكونوا طائفيين.
أليس ماركس "اليهودي" هو الذي حاز على سخط الكثير من اليهود لأنه دعاهم الى الاندماج بمجتماعتهم و عدم التعكز على المظلمة الأزلية التي يحلو للبعض التغني بها كابتكار أصيل غير مسبوق يعود لهم؟ أليس هو الذي فند هذه الهوية المفتعلة و أشار الى ان الاندماج هو خلاص اليهودي، و ان على اليهودي أن يكون المانياً او بريطانياً... الخ و يناضل مع ابناء وطنه من مختلف الأديان في سبيل مستقبل أفضل للجميع؟
هذه هي الطريقة التي أراها أكثرَ نفعا و أكثر قدرة على مقارعة الحجة بالحجة، لأنك تحاجج المدعي بمنطقه نفسه و تكشف عن تناقض ادعاءاته.
و مرة أخرى أساء البعض الفهم، و قرأ الموضوع قراءة سطحية و خصوصا من بعض الأصدقاء جريا على المثل القائل " مغنية الحي لا تطرب ".. و مرة أخرى بات لزاما عليّ القيامُ بتوضيحٍ دافعٍ للالتباس أصوغه على شكل سؤال: هل تعني السطور السابقة إنني لست ماركسيا أو إنني بعبارة أخرى قد تخليت عن الماركسية؟
الجواب: نعم و لا!
فإذا كان المقصود بالفكر الماركسي تحويل فكر ماركس الى عقيدة، فإن ماركس، و لست أنا، كان أول من اعترض على ذلك و رأى في فلسفته و في اقتصاده و في كل مؤلفاته أن الحقائق التي توصل إليها هي حقائق نسبية مرهونة بزمان و مكان معين و أن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الحركة. و بذا فإن منهجه قد تبنى الحركة، على أن الحركة التي أشار إليها ماركس ليست أية حركة، إنما شكل من أشكالها رأى إنها أكثر شمولا و ينطوي على الأشكال الأبسط ألا وهي حركة الديالكتيك. فأشكال الحركة الادني و الأقل شمولا: الميكانيكية، الفيزياوية، البيولوجية..الخ لا شك تخدم الفكر، لكنما تخدمه بحدود معينة و ضمن أطر خاصة باعتبارها شكلا مبسطا من الحركة، أما الديالكتيك الماركسي فهو، حتى إشعار فلسفي آخر، اشمل و أدق أنواع الحركة.
و بما أن ماركس قد طور الديالكتيك الذي يرى أن لا حقيقة مطلقة سوى الحركة، فانه ـ أي ماركس ـ قد أجهز بذا على استنتاجاته نفسها إذا ما أخذت كحقائق نهائية، أي إنه وضع حدودا للحقائق التي توصل إليها يحددها الزمان و المكان: ما كان صحيحا الآن قد لا يكون صحيحا غدا، ما كان صحيحا هنا قد لا يكون صحيحا هناك.
و لم يعد جديرا بالاهتمام من فكر ماركس غير المنهج. أما الحقائق الأخرى فإنها لا تقبل إلا قبولا نقديا و مشروطا بالزمان و المكان، و ينظر إليها من زاوية فيما كانت تبرر نفسها الآن في هذه اللحظة أو إنها قد شاخت.
و هنا و بذا كان جوابي على السؤال: هل أنا ماركسي بنعم و لا. ذلك يعني: نعم اذا كان المقصود المنهج فقط كحقيقة و أسلوب للوصول الى الحقائق المعاصرة، أما أن يكون ما عداه حقيقة قائمة اللحظة فإنه لأمرٌ عائد كليا للدراسة و إعادة التقييم.
و إذا كان المقصود بتعبير " ماركسي " تحويل أفكار ماركس الى عقيدة و عبادة جديدة فانا بعيد كل البعد عن ماركس، لأن ماركس نفسه كان بعيدا كل البعد عن الماركسية بمعناها العقائدي.
*****
كتب عبد القادر الجنابي مقاله الفريد المعنون " في المجرم وفق ماركس و الإرهابي وفق لا أحد " المشفوع بترجمة لمقاطع من ماركس و تحليله للجريمة و المجرم و قد وفر الجنابي لنا موضوعا فريدا و غيرَ تقليدي خارج الإطار الذي تعودنا عليه من ماركس بسبب اهتمام بعض الأوساط بتراث ماركس السياسي دون غيره. هذا الموضوع المترجم عن ماركس و التعليقات المرفقة به من الجنابي أثارت بعض الافكار:
ـ أظهرت الترجمة لغة ماركس الشعرية و أظهرت دقته في الصياغة و تمكنه لغويا و هو ما تحدثت عنه في مقالي المشار إليه و كيف إن الاستخفاف باللغة غير ذي شأن بفكر ماركس انما هو نقيضه. اذ لم يرَ ماركس اللغة وسيلة لإيصال الحقائق و تبادل الحديث بين فردين، إنما أشار إلى أنها وسيلة للتفكير. ليس بمستطاع المرء أن يفكر بدون لغة. ترتب على ذلك أن لغة مشوشة تعني لا محالة تفكيرا مشوشا. بمعنى أن كائنا بلغة مشوشة و غير دقيقة لن يعاني من إشكالات في إيصال أفكاره الى الناس فحسب بل سيعاني من انحسار في القدرة على صياغة الافكار مع نفسه. بناء على ذلك فإن العلاقة بين اللغة و الوعي بما في ذلك الابداع، كشكل من أشكال الوعي، هي علاقة جدلية ( ديالكتيكية ) و هي علاقة مترافعة، أي يرفع طرف فيها الطرفَ الآخر: بها ترفع لغة راقية الوعيَ و تعيد صياغته و بها يطالب الوعي الرفيع هو الآخر بلغة رفيعة و غير مسبوقة من أجل الإفصاح عن نفسه أو من أجل تحققه. اللغة و الوعي يترافعان في عملية تطور حلزونية لا نهائية.
ـ أظهرت موضوعة ماركس، موقفه من الجريمة و النتائج المترتبة على وجودها كحقيقة قائمة، فيما فهم البعض حسب تعليقاته أن ماركس يبرر الجريمة على اعتبار أنها تساعد على تطوير و سائل الإنتاج!! ينبغي على ماركس، كما يريد البعض، أن يشتم الجريمة بدلا من أن يحللها ببرود و موضوعية و أن يقتدي بنا و بما نفعل في مقالتنا الشاتمة.
ـ إن المقال و الترجمة قد حصلتا على الإطراء الذي يستحقانه، و اذا ما كان إطراء البعض مفهوما بناء على نمط تفكيرهم و منهجهم، فان إطراء البعض الآخر استنادا الى نمط تفكيرهم و ما نشر من كتاباتهم يثير الاستغراب و الريبة ، و أترك تقدير دوافعه للصديق الجنابي نفسه ليس بإعتباره مبدعا قام بالترجمة و الكتابة بل هذه المرة ناشرا يمتلك سلطة.
و قد أكدت التعليقات التي كتبت ما أشرت إليه في صدر المقال عن الطابع الانتقائي و اذا شئت أن تسميه " الكولاجي " لبعض " مفكرينا ".
الآن لدينا بكثرة أناس يحاولون الجمع بين الماركسية و الطائفية، أو بين الماركسية و القومية أو بين الماركسية كعقيدة من جهة و أسلوب عمل و تفكير من جهة أخرى، وهذا لا يستقيم أي لا ينسجم مع المنطق ، أي انك في آن واحد لا يمكنك أن تكون ماركسيا و طائفيا. و بما أن الطائفي لا يقول انه طائفي فإنه سيتستر على الطائفية بحجج مختلفة و مضللة، كأن يقول: معاداة الإمبريالية،..الخ. و أن يكون المرء ماركسيا و قوميا هما أمران لا يستقيمان أيضا أي انك لا يمكن أن تكون ماركسيا و قوميا. و هذا ما يراه ماركس وليس بالضرورة أنا.
و في الحالة الأولى أي الطائفية المستترة فإن المهمة الملقاة على عاتق المحلل مزدوجة:
أولا: كشف التمويه و ا لجذور المخبأة بعناية للفكر الطائفي (و هذا يحتاج الى مجهود آركيولوجي).
ثانيا: الرد على الفكرة بالفكرة.
فلو أن طائفيا أعلن نفسه طائفيا بصراحة، لما كان صعبا أن تتعامل معه فكريا، سواء كنت خصمه الفكري أو شريكه في الفكر.
أما أن يعلن أمرؤ ما إنه ماركسي ولكنه في الوقت نفسه طائفي، مستترا كان أو معلنا، فهذا أمر يحتاج الى نقاش و نقد، و توضيح و إجلاء.
و لو أن الأمر كان مجرد لعبة فكرية لما كان هناك شيء يستحق العناء، و لكنه أمر بات واسع الانتشار الآن في العراق أن يبقى المرء ماركسيا و طائفيا، أو أن يستبدل لحية ماركس الكثة بلحية أخرى أو يجمع بين لحية ماركس و لحى اخرى دون أن يجد في ذلك أي تناقض.
* * * *
و الآن لنعد الى ما كتب عن مقالي من ملاحظات و تعليقات و نرَ الى أي مدى كانت بعض هذه التعليقات على صواب لنأخذ المثال التالي:
ردا على ما ذكرته بأن ماركس رفض الفكر القومي لصالح فكر أرقى: " إن بديل ماركس لما هو قومي ضيق لم يكن سوى ما هو عالمي متسامح و منفتح "
كتب أحد المعلقين كرد و برهان مضاد: أن الدولة السوفيتية ارتكبت العديد من المظالم و المجازر.
انت على حق تماما و من قال غير ذلك؟ هل كتبت أنا في المقال شيئا مخالفا؟
راجع مقالاتي عن العسف السوفييتي و خصوصا في زمن ستالين ستجد انني قلت ذلك قبلك و بإدانة اشد مما فعلت.
و لكن ما شأن فكر ماركس بذلك؟ أنا ناقشت فكر ماركس و أنت تقول لي إن السلطة السوفيتية ارتكبت الكثير من المظالم فما شأن ما فكر به ماركس بشكل عام و نظرته للفكر القومي بالمآسي التي ارتكبت من قبل السوفييت حتى لو فعلوا ذلك باسمه؟
لقد توفي ماركس عام 1883 و قامت ثورة اكتوبر عام 1917
أي أن الثورة التي مارست أعمال القمع بإسم ماركس قد وقعت و أصبحت سلطة بعد وفاته بأكثر من 34 عاما.
أما ماركس الذي لم يكن أبدا رجل سلطة فلم يكن سوى قارئ نهم يقضي أكثر من اثنتي عشرة ساعة في المكتبة البريطانية و قد مات بعض أطفاله من الجوع و البرد و مات هو من نقص التدفئة ولولا المساعدات التي تلقاها من صديقه أنجلز لما كان بمستطاعه المعيشة ناهيك عن كتابة أي كتاب.. فما شأن ماركس بكل ما قامت به السلطة السوفيتية و خصوصا في الحقبة الستالينية؟
لفت نظري أيضا ضمن التعليقات ما كتبه أحد المعلقين من أن خيرة مفكري و فناني و شعراء النصف الأول من القرن العشرين كانوا من الماركسيين، و قد عدد كاتب التعليق، و هو على صواب، أسماء لامعة في مجال الفن و الأدب من مختلف الأقطار في كوكبنا مثل: بيكاسو، فرناند ليجيه و هما رسامان فرنسيان قادا حركة الحداثة الفنية في أوائل القرن، بل كان بيكاسو الإسباني الأصل الفرنسي الإقامة اشهر ظاهرة في الفن التشكيلي في القرن العشرين و ربما في كل تاريخ الفن، و ذكر المعلق أسم الشاعر الفرنسي أراغون، وناظم حكمت و بابلو نيرودا و لوركا و الجواهري و السياب و العديد غيرهم. و بدون أن نكرر الأسماء أو نظيف إليها ما غفل عنه المعلق، نجد أن لا جدال في أن الفكر الماركسي قد جذب حقا أوساطا واسعة من الفنانين و الكتاب و الفلاسفة، و بالقدر نفسه تسبب نموذج الحكم الستاليني القمعي فيما بعد في نفور هؤلاء جميعا من الأحزاب التي كانت تتبنى الفكر الماركسي بسبب عدم اتفاقهم على السلوك السياسي للسلطة السوفييتية و الأحزاب التي ساندتها، و لذلك كانت علاقة هؤلاء المبدعين بهذه الاحزاب علاقة متذبذبة باستمرار.
أساءت السياسة لماركس كثيرا فقد تعاملت معه انتقائيا أيضا، و ركزت على ما تشاء من أفكاره من أجل بناء إمبراطوريتها. و تم غمط فكر ماركس الإنساني و مسعاه من أجل حرية الإنسان في صياغته الشهيرة " الحرية هي إدراك الضرورة " و رؤيته الفلسفية في كيفية الانتقال من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية، و تحولت مساعيه المناصرة للإنسان الكادح الفقير الى فلسفات مكيفة و معتمدة من قبل أنظمة حكم حولت بلدانها الى سجون كبيرة يقاد الناس فيها مكرهين إلى "سعادتهم " و دخل ماركس في الصراع العالمي بين المعسكرين في الحرب الباردة بالرغم من أن العديد من كتاباته كان ذا طابع إنساني عام و تلقى ماركس " الصفعات " ممن يسمون أنصاره و من خصومهم الفكريين على حد سواء ومع كل هذا فاز ماركس بالموقع الأول في نهاية الألفية الماضية في استطلاع للرأي عن أكثر المفكرين تأثيرا في الألفية الماضية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف