أصداء

الديمقراطية وجوزة هيغل السورية!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نزار نيوف برهان حيّ على جدوى وأهمية توقيع مذكرات الاحتجاج ودعم منظمات حقوق الإنسان والكتابة إلى الحكام الديكتاتوريين الحالمين!

لارار مارلو وبعد فرابة العقد من الاعتقال في الزنازين السورية الإنفرادية، حصل نيوف على حريته خلال زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سوريا في 6 أيار / مايو 2001 واجتماعه بالرئيس السوري بشار الأسد، مسلحا برسائل من منظمة " صحفيون بلا حدود " و " منظمة العفو الدولية " و " الجمعية العالمية للصحف " وغيرهما من المنظمات الدولية الأخرى.

بعد شهرين من ذلك التاريخ، عاد الرئيس السوري لينحني مرة أخرى أمام الضغط الدولي وليسمح لنيوف، الصحفي حاصد الجوائز العالمية العشر، بما فيها جائزة اليونسكو للعام 2000، والكاتب والرسام ورسام الكاريكاتور والمناضل من أجل حقوق الإنسان، بالسفر إلى فرنسا من أجل العلاج من داء هودجكين ( نوع من أنواع لومفوما الدم السرطانية)، حيث تعافى منه الآن دون استبعاد انتكاسه مرة أخرى، ومن الجروح والتشوهات الناجمة عن التعذيب وحروق السجائر.

نيوف (45 عاما)، الذي يقضي الآن معظم وقته في هولندا، يطلق عليه مراسل " الحياة " في دمشق اسم " ابن بطوطة " السجون السورية، وهو يتقبله ضاحكا. إنه خبير في السجون السورية: من فرع المخابرات العسكرية في دمشق إلى فرع فلسطين إلى فرع التحقيق، إلى سجن صيدنايا العسكري، إلى سجن تدمر الصحراوي، إلى مقر قيادة المخابرات العسكرية مرة أخرى.. على مرمى حجر من فندق الشيراتون (!)، ثم إلى سجن المزة العسكري وإلى صيدنايا مرة ثانية قبل أن يذهب إلى الحرية..على متن الضغط الدولي.

ورغم التشوهات والإعاقة اللتين تعرض لهما، يشعر بالخجل ويتردد في الحديث عن التعذيب الذي تعرض له. " تعرضت للتعذيب على مرحلتين فقط. خلال التحقيق الذي امتد لحوالي شهرين، وفي سجن تدمر الصحراوي "، يقول. عندما سمع الجنرال هشام بختيار يأمر عناصره " خذوه وضعوه على الكرسي "، غاب عن الوعي من هول الرعب. باعتباره مؤسسا لمنظمة " لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا "، كان يتابع على مدى سنوات أخبار التعذيب الواردة من السجون والمعتقلات. الكرسي، المعروفة بالـ " الكرسي الألماني" بسبب اختراعها للمرة الأولى من قبل الغستابو النازي، كانت الأداة التي اختاروها له. " أي شخص يفضل الموت على أن يكون مشلولا وفاقدا حصانته الإنسانية من خلال التبول في ملابسه". يقول ويتابع: " كنت أعرف مسبقا أني في الطريق لأن أصاب بالشلل ربما مدى الحياة. وهذا ما أفقدني الوعي كما لو أني في الغوما فور أن سمعت الجنرال بختيار يلفظ اسم الكرسي... حتى قبل أن يقيدوني إليها في الصالون أمام مكتبه ".

في سجن تدمر الصحراوي، حطموا فكه العلوي الأيسر وكسروا أسنانه. ولأنه رفض السجود لصورة الرئيس حافظ الأسد، كنوع من الإذلال الترويضي، كسروا عظمه القذالي ( مؤخرة الجمجمة ) بماسورة حديدية، حيث انتفاخ العظمتين لم يزل ناتئا حتى الآن، لأنه غير قابل للتجبير. دخل بعدها في إضراب مفتوح عن الطعام من أجل هدف واحد: "أن يعيدوني إلى دمشق وحسب، وليس من أجل إطلاق سراحي "!

وكما تنقل خلال اعتقاله من سجن إلى سجن، عاد بعد نيله حريته لينتقل من مشفى أوربي إلى آخر: من مشفى سالبترييه في باريس، إلى مشفى متخصص في مقاطعة لاروشيل في الجنوب ثم إلى بادن بادن في ألمانيا. يمشي بصعوبة، مستندا في أغلب الأوقات إلى عكازه، بعد أن انتكس وضعه مجددا رغم العلاج. ومع ذلك فإنه يصر على القول " ليس لدي أي مشكلة شخصية مع النظام السوري. إنها مشكلة شعب بأكمله ". خلال عقد كامل تقريبا من العزل الانفرادي، لاسيما بعد نقله إلى المزة حيث حظي برعاية خاصة من مدير سجن ( العقيد بركات العش) يعتز بأنه كان تلميذا يوما ما للفيلسوف الماركسي السوري الشهير الياس مرفص، تمكن من الحفاظ على توازنه من خلال الكتابة والرسم والترجمة وتنفيذ الرسوم الكاريكاتورية.. الساخرة بقدر ما هي مأسوية وجارحة. كان من الصعب الحصول على الكتب الضرورية، ولذا كتب معتمدا على ما اختزنته ذاكرته من قراءاته السابقة. كتب دراسات مقارنة عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التاريخية التي أنتجت الديكتاتوريات في حوض المتوسط: ديكتاتورية العقداء في اليونان، وإيطاليا الموسولينية وإسبانيا / فرانكو ومصر الناصرية وسوريا البعثية. وكتب، مستلهما عنوان غرامشي الشهير، " الأمير السوري الحديث ـ من دولة الديكتاتورية البونابرتية إلى الدولة الديمقراطية ". وخلال سجنه في المزة وكتابته ورسمه، كان رفيقه الوحيد.. قطة أطلق عليها اسم (...) تتسلل بين حين وآخر من تحت باب الزنزانة لتأخذ ما خبأه لها من طعام.

يشرف نزار نيوف اليوم على موفع " الحقيقة " syriatruth، و يتابع تحقيقه الذي بدأه قبل حوالي عشرين عاما في ما يسميه بـ " الهولوكوست البيو ـ كيميائي السوري "، حيث لجأ النظام السوري في الماضي ـ كما يؤكد بالأدلة ـ إلى اختبار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية على العشرات من المعتقلين السياسيين السوريين والعرب الآخرين بمعرفة وتواطؤ دول غربية في معتقل سري يدعى " خان أبو الشامات " إلى الشمال الشرقي من دمشق. " إنه إنجاز العمر، بالنسبة لي، إذا ما اكتمل. ولذا لا أحب الحديث عنه الآن بالتفصيل ". يقول، غامزا من دول " منافقة " بعينها، طالبا عدم الإشارة إليها الآن، فهو يخشى غضبتها قبل أن يتم عمله نهاية هذا العام كما يأمل !

بالترافق مع ذلك، يستمر في تواصله مع المنشقين داخل سوريا ويشارك في الحملات من أجل إطلاق سراح حوالي ألفي معتقل سياسي، من بينهم أستاذه في كلية الاقتصاد عارف دليلة، ومحاميه أنور البني الذي طردت زوجته راغدة من عملها مؤخرا كمساعدة مهندس في وزارة الاتصالات ـ كما أخبرني ـ لمجرد كونها زوجة منشق ! " هذا أمر بات مألوفا وتقليديا جدا في سوريا حين يعجزوا عن تحطيم معارضيهم ". يقول وبتابع " طردوا أبي وثلاثة من أخوتي في يوم واحد من عملهم شتاء العام 2002 لمجرد أنهم رفضوا التوقيع على بيان يقول إني عميل للإمبريالية والصهيونية، وامتنعوا عن إعطاء الرابع شهادته الجامعية لفترة طويلة على الخلفية نفسها. وهذا ما دأبوا على فعله مع كثيرين آخرين. إنهم يعتبرون قطاع الدولة شركة عائلية من حقهم طرد أي موظف منها كلما أرادوا " ! ويتابع ساخرا بمرارة وبقلق " لقد منعوا رياض سيف ( نائب وسجين سابق) قبل أيام من السفر للعلاج في أوربا رغم أنه مصاب بحالة متقدمة من سرطان البروستاتا. تصوري وضعا أكثر تراجيكوميدية من أن تكون فيه خصية مواطن سوري أو عضوه التناسلي خطرا على الأمن القومي أو على مستقبل النظام "!

رغم أنه لا يحب جورج بوش، فإنه كان سعيدا جدا ـ كما أخبرني ـ بفوزه لولاية ثانية في العام 2004. " كان لدي وجهة نظر تقول بأن المجرمين في الشرق الأوسط لا يمكن تحطيمهم إلا من قبل مجرمين على غرارهم مثل جورج بوش. ولم أنم ليلة الانتخابات ( الأميركية ) حتى تأكدت من فوزه. تصوري هذه المفارقة: ماركسي يسهر حتى الصباح للإطمئنان على فوز خصمه التاريخي " ! ويشرح: لقد كتب مؤسس "مدرسة فرانكفورت" الفلسفية كارل أوغست فيتفوغل Karl August Wittfogel في العام 1957 عن " الاستبداد الشرقي "، أو " المجتمعات الهيدروليكية " ( المائية ) كما يسميها، مثل مصر الفرعونية وبلاد ما بين النهرين، حيث تلعب الدولة دورا أساسيا لا غنى عنه في تنظيم الري والزراعة، وبالتالي تصليب جهاز الدولة البيروقراطي وتكلسه، وأشار إلى أنها غير قابلة للكسر إلا بفعل خارجي. و قد استند في ذلك إلى فكرة الفيلسوف الألماني هيغل عن " الجوزة "، أو ما يعرف بـ " جوزة هيغل " غير القابلة للكسر إلا من الخارج. لكن " رأينا ما حصل عندما كسر الأميركيون الجوزة العراقية. لقد خلق الأميركيون مقابر جماعية بدلا من الديمقراطية (...) لقد سحقوا حلمنا في الديمقراطية. ولهذا لا أعتقد أن الديمقراطية أمر قابل للتحقق في سوريا على المستوى المنظور إلا إذا كانت على الطريقة العراقية، وأنا أفضل استمرار الوضع الحالي على أن نرى الدم يتدفق في الشوارع ".

خلال نشاطه الطويل في مواجهة " المؤسسة الأمنية "، جمع نيوف أرشيفا ضخما عن المخابرات العسكرية والمكونات الأخرى لهذه المؤسسة، وثمة اعتقاد بأنه الإرشيف الأضخم في هذا المجال الذي يمكن أن يتحصل عليه فرد واحد. وهذا ما جعل أجهزة الاستخبارات الغربية تحوم حوله باستمرار. " إنهم ( في الحكومات الغربية ) قذرون جدا. كلهم يشبهون بعضهم بعضا. إنهم مجرمون ودجالون. معنيون بتشغيلنا كجواسيس والتعامل معنا كمجرد بائعي معلومات، لا كمناضلين من أجل الحرية. هذه هي النتيجة التي توصلت إليها من الاتصال لسنة ونصف مع الأميركيين بعد سفوط بغداد. ولأني رفضت التنازل عن إرثي الذي صنعته في الزنازين، ورفضت أن أكون بائع معلومات، ركلوني ". إنهم " منافقون ودجالون. آخر ما يفكرون به هو أن يسمحوا بدمقرطة بلداننا كما نريد "، يقول، مطلقا زفرة حارة كما لو أنها خارجة من موقد.

وماذا عن الوضع في سوريا في ظل بشار الأسد !؟ " لقد تحسن الوضع نسبيا ". يقول، ويتابع " ليس الأمر لأنه ( بشار) أحسن من أبيه، ولكن بفضل نضالات الناس، وبسبب الضغط الدولي ". " منذ أن أطلق سراحي لم أسمع ـ مثلا ـ عن استخدام الكرسي الألماني أو كيّ المعتقلين بالسجائر. ظهري وأنحاء أخرى كثيرة من جسدي مشوهة تماما بسبب أعقاب السجائر. لم يزالوا يهينون الناس، وأحيانا يعذبونهم. لم يتوقف التعذيب تماما. ولكن أقل من الماضي بكثير ولا يمكن مقارنته به. الآن من النادر أن يعتقلوا شخصا ولا نعرف مصيره خلال بضعة أيام. وهذا تطور مهم جدا إلى الأمام بالقياس إلى الفترة التي كان يختفي فيها الناس دون معرفة مصيرهم إلا بعد سنوات، إذا تمكنا من معرفته أصلا. لدينا الآن أكثر من سبعة عشر ألف مفقود في تلك الحقبة الأكثر سوادا. الآن من المستحيل أن يختفي الناس دون أن يتركوا أثرا كما كان يحصل في الماضي. وهذا بفضل نضالات الناس وتضامن العالم معنا وليس بفضل كرم بشار الأسد ".

وعن نوع التدخل أو الضغط الذي يريده من الخارج يقول " لا نريد تدخلا من الدول المنافقة. ما نريده هو تدخل المؤسسات ذات التمثيل الشعبي مثل البرلمان الأوربي والمنظمات الأهلية من أجل احترام الحريات الأساسية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في بلدنا. ولكن ليس تغيير النظام بالقوة ( على الطريق العراقية ). فأنا لا أريد أن أرى سوريا مدمرة وشوارعها تفيض بالدم ".

لارا مارلو (*)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ لارا مارلو: صحفية أميركية عملت مراسلة لمجلة " تايم " الأميركية في بيروت سنوات طويلة، وغطت ميدانيا حروب كوسوفو وأفغانستان والعراق والحرب الأخيرة في لبنان. تعمل الآن مراسلة لصحيفة " آيرش تايمز " ـ كبرى الصحف الإيرلندية وإحدى أشهر الصحف الأوربية. وكانت لارا مارلو آخر صحفي أجنبي قابل رفيق الحريري قبل اغتياله. وهي ـ لهذا السبب ـ ستكون " شاهدا " في القضية كما جاء مؤخرا في تقارير صحفية.

المقال / المقابلة نشر في آيرش تايمز أول أمس تحت عنوان " الديمقراطية في سورية ستكون دموية على غرار العراق "، ويمكن قراءته بنصه الأصلي على الرابط التالي، علما بأن تصفح الصحيفة يحتاج إلى اشتراك:
http://www.ireland.com/newspaper/world/2007/0831/1188336470437.html

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف