زهْرُ الصَبّار 2: طفلٌ آخر للعائلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1
حشرجات النزع الأخير للأب، الممضّة، ما فتئت تصدى في سمعي، وعلى رغم الأعوام الثلاثة المنقضية على رحيله. هيَ مناجاة، خفيّة، كأنما كانت تستعيدُ مكاناً ما، زمناً ما؟ في خواتيم عمره،، كان رجلنا المسنّ، الثمانينيّ، يفقد سلسلة ذاكرته، مسلماً إياها حلقة إثر حلقة للآخرين، في منقلبه إلى شبيه الطفل. بين مضائق الدنيا والآخرة، ثمة طفولته في ملكوتها الخاص، تعتريه في لجة إستعادتها رعدة العارف، المتيقن، غير العابئ بموازين الحساب والعقاب والثواب، والسراط المفضي لمجاهلهم. العقلُ شجرة ٌ، جذورها الذاكرة وثمرها المعرفة. هوَ ذا الفرع الأقدم من شجرة العائلة، قد هرم بعيداً عن جذوره، وما عتمت الثمار أن لفها التلف. لا غرو إذاً، أن تردد الأمّ بعفوية معلقة على حال والدنا، المستكين في صمت سرير مرضه: " الماء في دماغه بدأ يجف ". ما كان يشكو من شيء، في واقع الحال. وكم دهش الطبيب، السويديّ، حينما علقنا على نصيحته بتغيير طقم أسنان الأب، بالقول أنها أسنان طبيعية. إلا أنّ الخرف الشديد ( " الديمنس " )، مرضٌ عضال لا يرحم. إنه مرضُ عائلتنا، الوراثيّ، علاوة على ذلك!
2
" يادي! " ( أمّاه، بالكردية ): تواصَلَ نداءُ مريضنا في أمسيات غروب أيامه، الأخيرة. قبيل المرحلة المتطورة من مرضه، كانت تنتابه إشراقات متصلة بحياته الأولى، القصيّة، فيعرض علينا نتفا من الطفولة وكأنما حصلت بالأمس ؛ وخصوصاً، ما يتعلق بأمه التي كان متعلقا بها بشدة في حياتها. ومن واردات جدتنا هذه، على الأرجح، وردَ ذلك المرض وأمسى من تصاريف وأحوال حياتنا. ولأقل منذ المستهل، أنّ بيئة جدتي العربية، المحافظة، كانت على ما يبدو تربة ً مجدبة للعقل في غروب العمر: فالعلم، في وقتنا الراهن، توصّل على الأقل لتشخيص أسباب " الديمنس "، وأنّ من أهمها نقص كمية الكحول في الدم. يقيناً، أنه سببٌ مجهول، بعدُ، لعلم السلالة كبيرها وصغيرها ؛ سلالتنا نفسها، التي قدّمت للحيّ الكرديّ، الدمشقيّ، أشهرَ سكيريه وماجنيه في القرن المنصرم. وإذاً، مع كل العمر المديد، الذي بلغتْ عتوته، ما قدّر لـ " سارة " سوى إحتضان شقيقتنا الكبرى، حيث رحلت ولما تبلغ هذه العام الواحد. وتبالغ أمي بالتأكيد، أنّ سنّ جدتي كانت تقترب من الخمسين، حينما أنجبت والدنا ؛ آخر أبنائها. ما كان بالغريب إذاً، أن تحظى الحفيدة بكل ما تبقى لديها من حنوّ وعاطفة وطيبة. بيد أنّ المقدور، شاءَ أن تبتلى " سارة " بالخرف الشديد، فما هيَ سوى أشهر قليلة ولفظت روحها. في الأشهر تلك، الأخيرة، دهمَها وسواس متصل بحالتها المرضية، الموصوفة: فكانت تتوهّم أنّ الحفيدة، الرضيع، لا تحصل على كفايتها من حليب الأمّ، مما حتم عليها مشقة إحتضانها والخروج بها إلى الأقارب والجيران سعياً خلف الأثداء، الثرة. " الله يرحمها، حتى في خرفها كانت طريفة وظريفة! "، تقول أمي عن حماتها.
3
لدينا صورٌ قديمة، أثرية، في ألبوم العائلة ؛ بعضها ضرَبَ بسياط الحنين، حتى مبتدأ القرن الماضي. ما من لقطة واحدة حسب، للجدة العربية. " جدكم، كان متعنتاً وشديد الغيرة، كما يقال "، تجيبنا أمي وهي تشدد على أواخر القول، مذكرة ً بحقيقة نعرفها ؛ أنّ حماها مات قبل أن تولد بأعوام عديدة. ندع جدنا بين أيدي ملائكته، في إلحاحنا، ثانية، على الأمّ، كيما تصف لنا ملامح إمرأته، فتحقق فضولنا في جملة مقتضبة، لا شبهة في ملمحها: " بحسب من عرفها صبيّة، فلا بدّ أنّ أختكم هذه نسخة مطابقة لجدتها ". كانت تشير إلى شقيقتنا، ذات التراتبية الثانية في الأسرة، والحسن الذائع، أهلياً ؛ بشعرها الذهبيّ وعينيها المتلألئتين بلازورد سماويّ. ولكنّ الأخت الجميلة، المتطيّر طبعها من سيرة الأموات، كانت تأبى التشبه بالجدة المفتقدة. ها هيَ تمضي على الفور إلى حجرة البنات، لتؤوب من ثمّ على عجالة من طيورها: " هاكم صورتي، وأنا في السادسة من عمري، قارنوها مع صورة ماما هذه ". بدورها، كانت والدتنا في السن الصغيرة نفسها، تقريباً، حينما حظيت بنعمة الخلود، بفضل هواية خالها، التصويرية. قسمات شقيقتي تلك، للحق، أفاضت بخطوط وألوان مستمدّة من الأمّ، لا مظنة فيها. ومع تصديقنا لكليهما، إلا أننا لم نهدأ البتة في محاولة التزوّد بصورة للجدّة، فوتوغرافية أو شمسية، ما كنا نرتاب في وجودها مخفية بمكان ما، بعيداً عن عين رجلها الوجيه، المهاب.
4
شقيقتنا الكبرى، السمراء، كانت في طفولتها في مشادة شبه دائمة مع الاخرى، صاحبة الشعر الذهبي، والتي تصغرها بعام واحد. هذه الأخيرة، كان يحنقها جداّ آنذاك أن " تعيّر " بأنها الصغيرة، فتثور على أختها بشتيمةٍ أو دفعة، مما يستوجب إلى الأخير تدخل الأمّ: " يا بنتي، إذا قالت لكِ أنها الكبيرة، فأجيبيها بأنّ ماما هي الأكبر سناً! ". ولكن هيهات أن يرعوي خلاف العمر ذاك، الطريّ، الذي فاقمه حقيقة تسجيلهما إعتباطاً ـ كتوأم، في فوضى سجلات نفوس ذلك الزمن، فضلاً عن حقيقة اخرى ؛ وهيَ أنّ الذهبَ معدنٌ نادر، ولا شك. إلا أنّ بكر عائلتنا، السمراء، كانت تحظى بلمعة من الذكاء، لا تقل بريقا عن معدن تاج شقيقتها، اللدودة ؛ كما أثبته تفوقها في المدرسة، وحتى المنتهى السعيد في دار المعلمات. فيما توأمها، المزعوم، خرجت منذ المرحلة الإبتدائية إلى فنّ الإبرة والخيط، الذي منحته بعضاً من فتنتها. هذه الأخيرة، في دفع تهمة الكسل عن مسلكها المدرسيّ، كانت تعيد مراراً سردَ الواقعة، المنتمية لعالم الطفولة، والمفصحة عن دهاء الاخرى: ففي ليلة شتوية، متثاقلة بأعباء " الوظيفة " ـ كما يطلق لدينا على الواجب المدرسيّ، راحت سمراوتنا تتثائب المرة تلو المرة، وما لبثت أن جهرت برغبتها في الذهاب إلى السرير. " والوظيفة!؟ "، هتفت بها شقيقتها برعب ؛ ما دامت بحاجة إلى مساعدتها، الحاسمة، لإتمامها. في اليوم التالي، وبّختها بقسوة المعلمة ( وكانت إحدى بنات عمومتنا ). فيما السمراء نجَت بجلدها، الثعلبيّ ؛ هيَ من كانت تتصنع النوم لساعة من ليلة الأمس، ثمّ ما أسرع أن إنزلقت من السرير نحوَ مكان دفترها المدرسيّ، حالَ تناهي غطيط شقيقتها.
5
مشاغبتا المنزل، كانتا ثمة متوجستين مذعورتين، فيما صرخات مخاض الأمّ، المترددة في فلوات الفضاء، تعلنُ قدومَ طفل ٍ آخر للعائلة. ما أن ترامى صوتُ بكاء الوليد، إلا وتبعه تراكض من كان متواجداً في أرض الديار، صوبَ الحجرة الكبيرة. " إنه صبيّ. يخزي العين ما أحلاه! "، إتجهت القابلة بالقول لمن حولها وهيَ تكمل التفاصيل الأخيرة لمهمتها. إسترق توأمنا، المزعوم، نظرات خاطفة إلى الوليد، فيما النسوة المتواجدات يتزاحمن عبر حركة باب الحجرة، المشرع. هنيهة اخرى، وتلفتت الشقراء لتقول شيئاً لشقيقتها، فلا تجد لها أثراً. على الفور، ومضَ في رأسها فكرة أنّ تلك الخبيثة، لا بدّ في الطريق إلى " المَحْرَس "، لإبلاغ الأب بالخبر السعيد ونيل " البشارة ". ما رأت من حاجة للتأكد من ظنها، بل كان همّها أن تلحق بالاخرى قبل فوات الفرصة. كان والدنا، دأبه كل يوم، يتواجدُ في غرفة الحراسة، الصغيرة، الملحقة بمنزل " الزعيم " ؛ والمتبديّة بأثاثها المقتصد، المتواضع، كمكتب إستقبال يليق بسمعة قياديّ، شعبيّ، طار صيته حتى الآماق، البعيدة، بعدما نجح في الإنتخابات البرلمانية قبل سنوات ثلاث ـ كأول نائب شيوعيّ في عالم العرب. من جهته، راحَ إسمُ الوالد يتبوّب في سجل السمعة الطيبة، لدى أهالي الحيّ على الأقل، بما كان من نقاء سيرته وسريرته على السواء. كان أنئذٍ في الأربعين من العمر، بمصادفة ولادته في عام الثورة البلشفية ؛ أشيبَ الشعر، بحكم الوراثة ؛ قصيرَ القامة نوعاً، دقيقها ؛ ذا عينين شهلاوين، يشي بريقهما معاً بالعمق والشفافية والفراسة. في ذلك اليوم إذاً، المشرق بشمس الصيف، المدبر، كان الأب قد أدبرَ بدوره من المنزل باكراً، لما عُرف عن طبعه المتسم بالضيق من المناسبات العائلية ـ كالولادة وأضرابها. إلا أنّ تناهي صوت إبنته البكر، الأثيرة، وهي تكلم الحارس بكرديّتها الطفلة، الطريفة، أخرجه من مشاغله ودفع به للتوجه إليها.
6
ظرافة سمراوتنا وخفة ظلها، نقلت محبتها منزلة منزلة إلى قلوب الآخرين. وكان رفاق الأب وأصدقاؤه معتادين على ملاطفتها، بل والدخول معها في نقاشات جديّة، مستطرفة. كنا نحيا في بيئة فقيرة، تتنفسُ الأفكار الجديدة، التقدمية. فلا غروَ إذاَ أن يكون الحيّ الشعبيّ هذا، متقدماً على أحياء دمشق الاخرى، لجهة مشاركة أبنائه، إناثا وذكوراً، في النشاطات المعارضة للحكومات المنتدبة والإستقلالية على السواء. بحكم وضعه وقتذاك ـ كبؤرة شيوعية، محتضنة منزل " الزعيم " خصوصاً، ما كان بالغريب، أيضاً، أن تنطلق من حيّنا تظاهرة الأول من أيار، السنوية، وصولاً إلى مركز المدينة، والتي ما تلبث أن تبث الحماسة في الأحياء الاخرى. في أعوام فتوته ورجولته، ما تخلف الأب ـ وكان كادراً نقابياً معروفاً، عن المشاركة النشطة في تلك المناسبة. إلا في مرةٍ واحدة حسب، من مفتتح عقد الخمسينات، كان إسمُ الأب يتردد على لسان رفاقه في صيغة إستفهام، مبعثها تأخره عن حضور " العراضة " ؛ أيْ المظاهرة، في قاموس ذلك الزمن. " لقد رُزقَ " جميل " ببكريّته، في هذا الصباح "، قال للآخرين أحدُ أقربائنا. ويستعيد كثيرون من رفاق الأب، طرافة ما حدث في عيد ميلاد إبنته تلك، الخامس، حينما شاءَ إصطحابها معه إلى عراضة العيد العمالي. يومذاك، وكانت حكومة " الشيشكلي "، العسكرية، قد أسقطت للتوّ، راحَ المتظاهرون يرفعون أصواتهم وهتافاتهم المطالبة بالإصلاح والتغيير. كانت سمراوتنا إذاً ثمة، في التظاهرة، محمولة بقامتها الغضة على كتفيْ أبيها، تنصت للمتظاهرين الهاتفين بشعار " الخبز والحرية للجميع ". في خضم الصخب هذا، المشغول بلغة غريبة وأليفة في آن، بدا أنّ الأمرَ إختلط على طفلتنا، فما كان منها إلى أن صرخت بكرديّة صوتها، الرفيع الحاد: " أَمْ برتشينن!.. أم برتشينن! " ( نحنُ جياعٌ ).
7
هكذا خرج الأب إلى إبنته، هاجساً بأنّ الأمرَ يدور في فلك الولادة، المنتظرة. كلّ ولادةٍ هيَ سيرٌ على حافة مستنقع الموت ؛ بمشيئة غلواء تلك الأيام، الصعبة. هذا، مع أنّ لهجة الطفلة، المرحة، أثناء حديثها مع الحارس، بعثت بعض الإطمئنان في نفس والدنا. ما أن همّ بإحتضانها، هيَ المترامية عليه، حتى إنبعث على حين بغتة نداءٌ ثاقب، بعيد: " باباااا! ". كان ذلك صوت الإبنة الاخرى، المتسلقة بهرولة حثيثة الدرجات الحجرية، المستدقة، المؤدية للمكان. ما عادَ ليفهم شيئاً، في تداخل بشارة الخبر مع إحتدام صوتيْ البنتين وضراوة جذبهما له. والدنا، الصارم في طبعه، كان متساهلاً للغاية في حضور البنات، الأثيرات في مفاضلة حبّه لأولاده. فما كان لهذا الحماس، المنافس، إلا أن يبعثَ المزيد من الإطمئنان في داخله ؛ وأنّ كل شيء، هناك في البيت، على ما يرام. للبشارة هديّتها، بطبيعة الأصول. في طريقه للمنزل، يصطحب الأب بنتيه إلى دكان " آدم "، أحدُ الأنسباء المعمّرين، كيما يشتري لهما سكاكر وحلوى، تفرحهما وتخفف لحين من خصومتهما، الأزلية. كان قد أعدّ إسماً للمولود، كردياً كالعادة، على فرض قويّ بأنه أنثى ؛ ما دام الجنين دأب على هدوءه ودعته حتى المراحل الأخيرة من الحمل. لم يتصل بإهتمام الوالد معرفة، أنّ كوكباً معيناً كان قد أبحرَ في منظومة " برج العذراء " ؛ برج الحالمين، الهادئين الوديعين، المتوجّب على أقدار المولود، الجديد، أن تسترقي مشيئته عاماً بعدَ عام. ما شغلَ الأبُ يومئذٍ أنّ ولادة صبيّ له، ثان، إكتنف تباشير الخبر الجديد ؛ صبيّ، هوَ السادس في سلسلة العائلة، والأول بعيدَ فقدانها للإبنة الحبيبة، " شيرين " ؛ التي رحلت بالحمّى في العام نفسه، وكانت لا تتجاوز الثالثة من عمرها: هذا، على الأرجح، ما كان يعتمل في داخل الأب، في تلك الظهيرة، الحارّة، الشاهدة على ميلاد الإبن، الميمون؟
للحكاية بقية..
دلور ميقري