المقال المصمت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أبدأ بثلاثة تعريفات: *المقال المصمت "تعريف":
هو مقال لا يتضمن أسماء، أو صور أشخاص، ولا يتحدث عن أصحاب مناصب حاليين أو سابقين، ويقتصر فى مناقشته للموضوع على تناول الأفكار العامة، والرؤى غير المتعلقة بالقائمين على الواقع، وإنما الواقع نفسه، حتى لا يتم النظر إلى المضمون على أنه انتقاد لأحد، أو انحياز لأحد فتتوه القضية الرئيسية التى يتناولها * الإعلام "تعريف":
يقصد بكلمة الإعلام، المستخدمة فى عنوان هذا المقال المصمت، الإشارة إلى "منظومة الإعلام الشاملة" فى المجتمع، بكل جوانبها ومفرداتها، وهى تضم الإعلام الرسمى بكل روافده الداخلية والخارجية، والمحطات التليفزيونية والإذاعية الخاصة، والصحافة القومية، والصحافة الحزبية، والصحافة الخاصة، ومواقع الإنترنت، وكل ما يتعرض له الرأى العام على مدار الساعة من مضامين مختلفة عبر كل الوسائل. * الحرية "تعريف":
حين نستخدم تلك الكلمة فى هذا المقال، فإننا نعنى"المبدأ - الوسيلة"، وليس الحرية باعتبارها غاية وهدفاً، والحرية فى أى مجتمع سليم وناضج تخضع للقانون، وهى ليست مطلقة بلا قيد، وفلسفياً تنتهى حرية أى فرد حين تتقاطع مع أو تبدأ حرية أى فرد آخر، فما بالك حين تتقاطع مع صالح المجتمع أو تتناقض معه، وفى الدستور هناك ضوابط تُفرض على أى مواطن حين يمارس حريته، والضوابط يحددها القانون ولا يمكن إخضاعها لجدل جديد حين نناقش جريمة إساءة استخدام الحرية، والجدل يكون مقبولا فقط حين نكون بصدد تعديل أى قانون وليس حين نكون بصدد تطبيقه.
وأمهد إلى ما أريد أن أناقشه بثلاث وقائع: *فى بريطانيا:
حين ماتت الأميرة ديانا قبل عشر سنوات، وخاض الإعلام البريطانى بكل روافده نقاشاً واسعاً ومفتوحاً على خلفية التعاطف العام مع الأميرة الراحلة وأدى تصاعد التفاعل إلى الطعن فى مكانة الملكة ووضعيتها وبدا من النقاش أن الإعلام ذهب بعيداً إلى حد تسجيل استطلاعات الرأى انخفاضاً رهيباً فى الإيمان بجدوى النظام الملكى برمته تدخلت الدولة لوقف هذا الفيض بعد أن بلغ الأمر حد تهديد بنيان الدولة وإحداث فجوة كبيرة بين الملكة والشعب حماية لأسس المجتمع البريطانى الذى يقوم على وجود نظام ملكى حتى لو كان نظاماً شرفياً بلا دور وكان المدافع الأول عن هذا هو تونى بلير على الرغم من انتمائه إلى حزبه هو بأيديولجيته ضد الملكية * فى فرنسا :
حين قررت الدولة، حفاظاً على خصائصها، منع ارتداء الملابس والعلامات ذات الطابع الدينى، إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، فى المدارس الحكومية، تعرضت الدولة الفرنسية لحملة ضارية فى الداخل وكانت أشرس فى الخارج خاصة فى العالم الإسلامى وشمل النقاش حدود الحرية المسموح بها للفرد فى بلد هو الذى وضع الأسس الفلسفية لمبادئ الحرية لكن "الميديا" الفرنسية بآلياتها الداخلية والخارجية، ممزوجة بالإدارة السياسية للموقف، والإرادة أيضاً، أدت إلى إقناع الرأى العام فى الداخل والخارج بضرورة اقرار القانون، وبمضى الوقت لم تتبدل صورة فرنسا منارة الحرية *فى مصر:
قبل الثورة، وقبل نشوء الإذاعة المصرية فى عام ٤٣٩١، كانت الساحة مرتعاً لعدد من الإذاعات الفردية الخاصة، التى كان من بين أدواتها التنابذ بالشتائم ونشر المفاهيم اللاأخلاقية فى بعض الأحيان ثم نشأت الإذاعة الحكومية التى ملأت فراغاً هائلاً، وتوازى مع هذا صدور القانون المنظم لعمل الإذاعات، وبمضى الوقت تلاشى تأثير الكيانات الإذاعية الشخصية الصغيرة وتحولت الإذاعة إلى واحدة من أهم أدوات الحفاظ على ثقافة المجتمع، بل وفيما بعد إحدى أهم وسائل امتداده الخارجى وتأثيره الإقليمى ** لماذا يواجه المجتمع المصرى مشكلة إعلام ولماذا يبدو الإعلام مشكلة لدى النظام العام للدولة؟ ١ - لأن الإعلام لم يعد معبراً حقيقياً عن مقومات المجتمع، وثقافته، تتنازعه الاتجاهات، ويؤدى إلى تشرذم الأمة، ويكدس حالة الاستقطاب، ولا يقود الدولة إلى أفق المستقبل، وبدلاً من أن يساعد المجتمع على أن يتجاوز مشكلاته فإنه يؤدى إلى مضاعفتها وترسيخها ٢ - لأن شخصية المجتمع تتوه ملامحها بين تنازعات "الميديا"، بحيث صارت الهوية المصرية ضائعة مفقودة وبحيث صار الإعلام المصرى منفذاً لتمرير الثقافات المضادة للهوية ومنها بث الفتن بدلاً من أن يكون نافذة للانفتاح والتفاعل والامتزاج الوطني ٣ - لأن التنازع الإعلامى، والتشرذم العام، صار بديلاً للتفاعل السياسى وأصبح الإعلام هو المعوض عن السياسة وساحة التنافس الداخلية إن لم يكن التطاحن ٤ - لأن هناك مشكلة مصداقية حقيقية، لدى كل آليات الإعلام، بحيث أصبح المواطن حائراً مشوشاً يفتقد البوصلة تغرقه التفاصيل وتتخاطفه الاتجاهات ويكاد هذا الوضع يدخله فى حالة اغتراب رهيبة ٥ - لأن الإعلام المصرى مغرق فى المحلية، منكفئ على الموضوع الذاتى، فأصبح سببا فى دعم عوامل التطاحن الداخلية ٦ - لأن الإعلام لم يعد ضمن وسائلنا الناقلة للثقافة المصرية، والمعبرة عن المجتمع عبر الحدود، وأفقد الدولة المصرية إحدى أدوات امتدادها الطبيعية المفترضة ٧ - لأن الإعلام لم يعد معبراً حقيقياً عن وزن الدولة الإقليمى، وغير قادر على التنافس، ولا يعكس حقا موازين القوى الشاملة للدولة المصرية بالمقارنة بموازين دول أخرى صارت أقوى من الناحية الإعلامية وبحيث أصبحت دولاً تضم 300 ألف نسمة مؤثرة بشكل خطير فى اتجاهات دولة تقارب الـ 80 مليون نسمة ٨ - لأن الإعلام فى مصر يعانى من اختلال فى التوازن، فالكتل الصغيرة محدودة الإمكانيات المعبرة عن أشخاص وفئات محدودة هى التى تقود الكتل الكبيرة بل وتفرض جدول الأعمال الدائم عليها ٩ - لأن الإعلام لم يستطع أن يقنع الرأى العام فى مصر بحقيقة واضحة وضوح الشمس وهى أن مصر هى الدولة الأكثر استقرارا فى المنطقة وأن كل المقارنات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فى صالحها ومن المرعب أن المواطن المصرى لا يطمئن إلى غده كما لو أنه يعيش فى بلاد بلا نظام 10- لأن الإعلام لم يستطع أن يحقق صورة الدولة الخارجية، وعموم الانطباع الذهنى عنها فى الخارج يتناقض مع حقيقتها ١١ - لأن الإعلام أصبح واحدا من أدوات تحقيق المكاسب والمكانات الخاصة لرؤوس الأموال الفردية، وبما يخل بطبيعة المجتمع ويؤثر فى التنافسية وحرية الاقتصاد 12- لأن الإعلام أصبح تحريضيا ضد قوام الدولة، وأسس دستورها، إثاريا، وثوريا، وبما يهدد الأمن القومى للبلد 13- لأن الإعلام لم يعد معبرا حقيقيا عن القضايا التى تشغل القوام الأكبر من السكان، أى الطبقة المتوسطة، وصار مشغولا على حساب ذلك بجدول أعمال المترفين والمعدمين، أى الشرائح الأقل حجماً فى البلد وهو يحول الطبقة المتوسطة إلى طبقة "غاضبة" راجع فى ذلك مقالى فى جريدة روزاليوسف اليومية صباح يوم الجمعة ٧٩٧٠٠٢ "أمس" 14- لأن الإعلام أصبح ضد مدنية الدولة، إما بشكل مباشرمن أقليته، أو بشكل سلبى من أغلبيته 15- لأن الإعلام صار مرتعا شاسعا للتوجهات الخارجية أكثر من كونه يراعى التوجهات المصرية 16- لأن الإعلام صار ملعبا للتصفيات الجانبية، والحسابات الخاصة، إما على الصعيد المالى أو السياسى بحيث وجد الرأى العام نفسه ضائعا فيما لا طائل له منه 17- لأن الإعلام يواجه مشكلة صناعة ومهنية 18- لأن هذا الإعلام مازال مركزيا محاصرا فى العاصمة، إما جغرافيا على صعيد الانتشار، أو موضوعياً من حيث القضايا التى يتناولها 19- لأن هناك مساحة من الانفلات القانونى، التى تجعل من حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية الإعلام عموما،خارج أى تنظيم أو محاسبة أو مساءلة 20- لأن الإعلام غير كاشف للنخب الحقيقية والأصيلة فى هذا المجتمع، وصنع نخبا هشة، لا وزن حقيقى لها وكل رافد يقدم نخباً خاصة ويصنع أبطالاً من عندياته وقد تم تشويه قدر لا بأس به من النخب الحقيقية والأصيلة في هذه المطحنة المنفلتة الحالية ** بخلاف هذا التشخيص، الذى أدى إلى تجسيده تراكم مشكلات وتفجيرات وظواهر فى السنوات المحتدمة الماضية، وساهم فيها التحول الانفتاحى فى المجتمع، مع عدم التركيز على الاهتمام بالإعلام إحدى أهم آليات الإصلاح والتعبير عنه، وصولا إلى ما أحدثته شائعة صحة الرئيس، والتعاملات التحريضية والإثارية معها من جانب والتعاملات الفاشلة معها من جانب مضاد، بخلاف هذا التشخيص فإننى أطرح بعض النقاط التى أرى أنه يجب الانتباه إليها إذا كنا بصدد فتح النقاش حول الإصلاح الإعلامى الشامل تلك مفردات المنظومة الإعلامية ولا أقصد جانبا منها دون آخر :
١ - الانتباه، أو إعادة الانتباه للدقة، إلى أن الإعلام نفسه وسيلة قبل أن يكون غاية، وحريته هى قيمة تساعد المجتمع وليس لأن تكون ضده، وهى أى الحرية ليست هدفا فى حد ذاته، ولا يمكن أن تكون مطلقة بحيث تنقلب إلى ثغرة ٢ - إضافة التأثير الإعلامى وبما يعنيه ذلك من أبعاد ثقافية، إلى مقومات القوة الشاملة للدولة، إلى جانب القوة العسكرية، والمقومات الحضارية، والأصول الاقتصادية، والخصائص السكانية والدور الخارجى وغير ذلك ٣ - إذا كان من بين أهداف الإعلام مواجهة مشكلات المجتمع، بالتعبير عنها، وبحث حلولها، فإن أحد أهم أهدافه الكشف عن طاقات هذا المجتمع وإمكانياته وحماية هويته والحفاظ على ثوابته الدستورية وترسيخها ومن ثم فإن البلد فى حاجة إلى إعادة تعريف السياسات الإعلامية وتحديد أولوياتها ومضمونها وبحيث تكون الكتلة القائدة فى هذا الإعلام قادرة على أن تفرض على بقية الكتل المتناثرة فى تلك المنظومة الشاملة جدول أعمال قومياً وتكون هى فى صدارة الفعل وليس رد الفعل ٤ - إخضاع منظومة الإعلام الشاملة إلى مراجعة لكل مفردات القوانين التى تحكمها، وإذا اقتضى الأمر تعديلا فليتم مع الحفاظ على ثوابت الحق فى حرية التعبير وحرية الصحافة المنصوص عليها دستوريا بما فى ذلك تفعيل القوانين التى تؤدى إلى التزام مفردات منظومة الإعلام كلها بثوابت الدستور إذ طالما تنبع حرية الإعلام من الدستور فإن على هذا الإعلام أن يصون الدستور ولا يخالفه أو يخرج عن قوانينه ٥ - التوسع المحلى لمنظومة الإعلام، من خلال خلق المناخ الذى يؤدى إلى نشوء كيانات لا مركزية، أو تطوير الحالية، بحيث تقدم الخدمة الإعلامية الخاصة للأقاليم من خلال صحف إقليمية ومواقع الإنترنت وخدمات إذاعية محلية وتطوير بعض القنوات التليفزيونية القائمة فى هذا الاتجاه ٦ - إعادة تعريف دور وزير الإعلام ٧ - إعادة تعريف دور الإعلام الرسمى ٨ - إعادة تعريف دور الصحافة القومية ٩ - سوف تفرض التعريفات الثلاث الجديدة للعناصر الثلاث السابقة على الإعلام الخاص إعادة تعريف دوره وبما يخدم تحقيق الحفاظ على هوية الدولة ومنع مسالب الممارسات الحالية 10- ممارسة الضغوط المجتمعية المتنوعة لدفع المنظمات القانونية المعنية بفرض القانون ومواثيق الشرف الصحفى والإعلامى على القيام بدورها وحتى الآن هى المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين ١١ - تشجيع نشوء جهات الرقابة الأهلية الموثوق فى مصداقيتها لكى تمارس ضغطا على ممارسات وسائل الإعلام إذا انفلتت 12- عدم التخلى عن آليات الإعلام التى تخضع لسيطرة عموم المجتمع، لا الأفراد، والعمل على تطويرها، وترقية أدائها ومصداقيتها واستخدامها فى تحقيق امتداد الدولة عبر الحدود وبما يعبر عن مكانتها إن أى تخلٍ، بأية طريقة، قبيل حدوث نضوج إعلامى شامل، سوف يعنى إخلاء المساحات والانسحاب منها، وبما يؤدى إلى انفراط شامل وانفلات لا سيطرة عليه 13- إخضاع الانفاق المالى على الإعلام، لاسيما الخاص، إلى المكاشفة القانونية، لكى نعرف، من هى الجهات الراغبة فى إحداث تأثير فى الرأى العام المصرى أو التى تقوم بذلك وكشف هذا هو فى حد ذاته تنوير للرأى العام 14- مراجعة أدوار المتحدثين الرسميين فى الوزارات، وإخضاع اختيارهم لمعايير حكومية عامة، وبما يحقق تدفق المعلومات، والقضاء على ظاهرة الوزارات الصامتة ومراعاة خصائص القدرة على التواصـــل الإعلامــى لدى المتـــحدثين فضلاً أن يكون ذلك أحد مقومات اختيار المسئولين ذلك أن إحدى أهم وسائل تسويق السياسة أن يدافع القائم بها عنها ويكون قادراً على ذلك 15- عدم تجاهل أن إحدى أهم وظــــائف الإعلام هى الترفيه، والـــتثقيف، وتقديم الخدمـــــة، وليس الانكفاء على السياسة والجدل الدائر حولها 16- التوسع فى مناقشة الملفات الإقليمية، وقضايا المجتمعات الأخرى، ليس من أجل الهاء الناس فى الداخل عن الداخل بقضايا الخارج وإنما لكى يتحقق الانفتاح الموضوعى وبما يؤدى إلى تثمين المصريين للحالة المصرية من خلال المقارنة وكنوع من الاهتمام بالمناطق التى يعمل فيها ما لا يقل عن خمسة ملايين مصرى واتقاءً لشر المخاطر التى تتعرض لها دول أخرى جاره وتحقيقا للانفتاح على الآخرين 17- بناء شبكة العلاقات الإعلامية والإقليمية والدولية أو للدقة إعادة بنائها 18- تفعيل الأحداث الإعلامية، أو التي يتغذي عليها الإعلام، علي المستوي الفني والثقافي، وبما يشغل أجندة الرأي العام بموضوعات ثرية ونشاطات متنوعة تجعل العقل العام قادراً علي أن يحكم علي الأمور بطريقة مختلفة بدون غضب أو إحباط 19- إشاعة مناخ الأمل والنجاح دون أن يعنى ذلك التخاذل عن الدور الرقابى للإعلام ومزج هذا بقيم التنوير ** * أطرح هذه الرؤية بدون أن أدخل فى تفاصيل جدل قائم، ليس هذا مكانه، وإن كان بمناسبته، وتجسيدا لأن روزاليوسف ليست فقط مطبوعة صحفية وإنما "بيت للتفكير" وبالتالى فإن هذه الرؤية مطروحة للنقاش العام إن أراد أحد أن يدلى بدلوه فهى ليست قرآناً
عبد الله كمال
Abdullah@rosaonline.net
alsiasy@gmail.com
* رئيس تحرير روزاليوسف