هل الإنسان بحاجة للدين؟ تعقيباً على د. خالص الحلبي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تعقيباً على د. خالص الحلبي
د. خاص الجلبي رجلٌ واسع الاطلاع يمارس العلم في مهنته ولا يجري عملية أو يصرف دواءً بدون دليل علمي يُثبت فائدته، ولكنه في حياته الخاصة يعتقد بالغيبيات ويقتبس منها الكثير في كتاباته. سألته امرأة من دولة الأمارات العربية سؤالاً واضحاً: هل الإنسان بحاجة للدين؟ ورغم تمكن د. الجلبي من اللغة العربية، ورغم سعة إطلاعه، فقد بدأ جوابه بالقول أن السؤال كان (سؤالاً محرجاً). ولا أفهم ما هو المحرج في هذا السؤال، خاصة أن السائلة أخبرته أنها مسلمة بالولادة وتحاول حالياً الاختيار - بين ترك الدين الإسلامي أو الاستمرار عليه. ومن البديهي أن جميع العرب المسلمين المعاصرين مسلمون بالميلاد إذ ليس منهم من عاصر محمد وليس منهم من نشأ في عزلة تامة حتى بلغ سن الرشد ثم اختار الإسلام ديناً. فمولد الإنسان وبئته يحددان دينه، ولا تحدده حاجة الإنسان لذلك الدين. وعندما يشب الإنسان على دين معين يصعب عليه تركه أو تغييره نسبة لغسيل الدماغ الذي تعرض له وهو طفل، فيظل يؤمن أنه على حق وسواه على باطل، ولا يُعقل أن يترك الإنسان العاقل الحق ويعتنق الباطل والسبب الذي دعاني إلى التعقيب على د. الجلبي هو أني قرأت رده على سؤال السيدة الأماراتية ثلاث مرات محاولاً استخلاص ما أراد الدكتور أن يقوله، وللأسف فقد أعياني اللف والدوران مع حجج وقصص د. الجلبي ولم أخلص بأي نتيجة حتمية. فالدكتور بدأ رده بأن قال (نعم يمكن للبشر أن يعيشوا بدون دين) ولكن هذا القول ليس جواباً للسؤال المحدد الذي سألته السيدة. فسؤالها كان: هل الإنسان بحاجة للدين؟ وهناك فرق شاسع بين الحاجة للشيء وإمكانية العيش بدونه. فمثلاً، نقول: الإنسان يحتاج المال ليعيش، ولكن الفقراء والمعدمين يمكنهم العيش بدون المال. فهم، لقلة المال لديهم، يستطيعون العيش بالكفاف ويسألون الناس ما تيسر، ولكن بالطبع حياتهم أقل بكثير من حياة الذين يملكون المال. فإمكانية العيش بدون الدين لا تعني أن الإنسان ليس بحاجة للدين. وكنت أتعشم أن يجيب د. الجلبي المرأة التي سألته كي يساعدها في اتخاذ قرارها.
يقول د. الجلبي (فليس مثل الدين سمواً، وليس مثل المؤسسة الدينية ضلالاً). وكنت أتوقع أن يقدم لنا الرجل العلمي ما يُثبت مقولته (ليس مثل لدين سمواً) ولكنه للأسف لم يفعل. وأنا أود أن أخالفه الرأي هنا وأقول إن الإنسان بتجاربه العديدة في مجتمعاته البدائية قد عرف سمو الأخلاق وحدد لنفسه قيماً عالية لم يأتِ الدين بقيم أعلى منها. فالفلاسفة القدماء والصوفيون أو السوفسطائيون Sophists قبل الميلاد قد تحدثوا عن القيم السامية، وحددوا تلك القيم الجميلة، كما فعل إفلاطون في مدينته الفاضلة. وقدماء الصينيين، حتى قبل كونفيشيوس، قد عرفوا القيم والمثل العليا. وقدماء البابليين والسومريين والآكاديين قد عرفوا سمو الأخلاق والقيم الحميدة، وما قوانين حمورابي التي صاغها قبل الميلاد إلا تعبيراً عن تلك القيم. وربما من المفيد أن نذكر أن الحقوق التي منحها حمورابي للمرأة تفوق الحقوق التي منحها إياها الإسلام الذي جاء بعده بأكثر من ألفي عام. أما ضلال المؤسسة الدينية فواضح للعيان حتى في عصرنا هذا، ولا يحتاج برهاناً.
وعندما تحدث د. الجلبي عن الحرب وصناعة الأسلحة، قال (كيف يعبد البشر ما ينحتون؟) ثم أضاف، كعادته (والله خلقهم وما يعملون). فترديد آيات القرآن لا يجيب السائلة عن أهمية الدين وحاجة الإنسان إليه. أما سؤاله (كيف يعبد البشر ما ينحتون؟) فسؤال وجيه قد أجاب هو عليه في الفقرة الرابعة من مقاله حينما قال (نعم يمكن للبشر أن يعيشوا بدون دين، وهناك في العالم أعداد كبيرة من الأنام تعيش بدون دين، حتى اخترع الإنسان الدين). فالإنسان، كما يقول د. الجلبي، اخترع الدين، وبالتالي اخترع الآلهة الذين عزا إليهم الدين، وهاهم المسلمون والمسيحيون واليهود يعبدون الإله الذي اخترعوه ويموتون من أجل الدين الذي اخترعوه. ومرة أخرى افترض د. الجلبي أن الله قد خلق الناس، ولا دليل لديه على ذلك غير ما يقول به القرآن، رغم أنه استشهد بقول توينبي (البريطاني) عندما قال (من يطلب الحجة التاريخية في الإنجيل يشبه من يضع الخمر الجديدة في زق قديم، فلا الخمر بقي ولا الأوعية حفظت.) ونحن نقول: من يستشهد بأقوال القرون الأولى في القرن الحادي والعشرين كمن يضع خمره في أوعية قديمة. فالإنسان البدائي عندما كان يجهل قوانين الطبيعة التي تحيط به لجأ إلى السحر ليساعده على التغلب على قوى الشر ثم اخترع الدين كخطوة تطوريه على السحر، ووصل إنسان القرن التاسع عشر وما بعده إلى حقيقة العلم الذي فسر له كل الطواهر الطبيعة ولم يعد في حاجة للسحر أو الدين.
ورغم وصول الإنسان المعاصر إلى فك طلاسم العالم الذي يحيط به عن طريق العلم، تظل هناك فئة كبيرة من الناس تعيش في جهل كامل لا يقل عن جهل المجتمعات البدائية التي آمنت بالسحر. فمثلاً هناك السكان الأصليين في أستراليا The Aborigines وهناك قبائل بدائية في جزر سومطرة وفيجي وفي أدغال أمريكا اللاتينية ما زالوا يعيشون في العصر الحجري ويتحكم الساحر في كل شؤون حياتهم. وهناك مجموعات تعيش في جهل مطبق وأمية فرضها عليهم الفقر والدين، كالذين يعيشون في بنغلاديش وجنوب الفلبين وأدغال إفريقية. فمثل هؤلاء الملايين يصدقون كل شيء حكته لهم جداتهم أو شيوخ دينهم. وهناك مجموعة من البشر تعيش في البلاد المتحضرة لكن طبيعتهم جعلتهم قابلين للإيحاء، ومثل هولاء الناس لا يعصمهم ما تعلموه في المدارس عن الانقياد للسحرة الجدد مثل جوزيف سميث. وقد ذكر د. الجلبي ما قالته له داعية السلام في الجولان - سعدية سعيد- حينما قالت (إن أي فكرة مهما بلغت من السخف والضلال واللامعقولية، فهناك عدد من الناس، يزيد أو ينقص، مستعد، ذلك الاستعداد الغريب، أن يقلب دماغه، ويمشي على رأسه بدون أن يحس بالدوار). وتذكرني هذه المقولة بالقصة التي رواها د. علي الوردي والتي تقول إن رجلاً بمكة قال لصاحبه إن جميع الناس الذين تراهم لا يختلفون عن الأبقار، فقال له صاحبه لماذا تقول ذلك، فقال له تعال وسوف أريك. وصعد الرجل على تل وقال للناس: قال رسول الله (ص): من لحس أرنبة أنفه بلسانه دخل الجنة. وبدون أي تردد أخرج كلٌ من كان حاضراً لسانه في محاولة يائسة ليلحس أرنبة أنفه.
ولا أعلم لماذا ذكر د. الجلبي الإحصاءات عن الدالاي لاما والبابا، لأن شعبية الدالاي لاما التي فاقت شعبية البابا بنديكت السادس عشر لم تكن من أجل الدين الذي يمثله الدالاي لاما وإنما من أجل الكفاح السلمي الذي يقوم به الدالاي لاما ضد الصين، تماماً كما فعل المهاتما غاندي ضد الإنكليز. فالدين لا يدخل في هذه المعادلة وإلا لفاز البابا الذي يتبعه أكثر من الذين يتبعون دين الإسلام.
ثم تحدث د. الجلبي عن العقائد العديدة في مصر ولبنان والشام، ولم يستطع د. الجلبي الصبر على عدم الزج بالآيات القرآنية فقال لنا (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون). من يا تُرى أوحى إلى البكتريا أن تتخذ من المصران الغليظ بيوتاً وسط فضلات الإنسان؟ وإذا كان الله قد أوحى للنحل (ولا نعلم الوسيلة التي أوحى بها) أن يعيش في الجبال والأشجار وسقوف الأكواخ، لماذا أصبحت أعداد النحل التي تعيش في الخلايا الصناعية التي يغتنيها مزارعو النحل في أمريكا وأروربا تفوق أعداد النحل الذي يعيش في المنازل التي أوحى له بها الله. هل عصى النحل ربه وعاش في بيوت لم يذكرها له؟ هذه الآية لا تُثبت شيئاً عن ضرورة الأديان للناس.
ثم يقول د. جلبي ((وحسب (جيفري لانج) أستاذ الرياضيات الأمريكي، الذي كان مسيحيا ثم قلب فأصبح ملحداً، ثم أسلم وكتب (الصراع من أجل الإيمان) فوصف وضع الإلحاد أنه "حالة لا تطاق"). وأظن أن د. الجلبي أخبرنا أن جيفري لانج استاذ الرياضيات وقد ألحد ثم صار مسلماً، ليوحي لنا أن أستاذ الرياضيات يعلم ما يقول وعليه يجب أن نأخذ قوله مأخذ الجد. وطبعاً يمكننا أن نرد بأقوال عشرات العلماء من أستاذة رياضيات إلى أساتذة علم الأحياء Biology وغيرهم ممن قالوا بعكس ما قال به جيفري لانج. فمثلاً، سام هاريس Sam Harris، دكتوراة في Neuroscience قال في كتابه "نهاية العقيدة" The End of Faith (إن مقولة ستيفن جولد بأن العقيدة والعقل يمكن أن يتصالحا أو يعيشا معاً، نوعٌ من الوهم) (ص 4). وعدد العلماء الحائزين على جائزة نوبل في العلوم الطبيعية والذين يعتقدون بالإلحاد يفوق بمئات المرات عدد الذين يؤمنون بوجود إله خالق لهذا الكون، كما يقول ريتشارد دوكنز عالم البيولوجي في كتابه The God Delusionفي صفحة 100.
وينقل د. الجلبي عن مجلة دير اشبيجل فيقول (ويبدو أن دماغنا مبرمج هكذا، كما ظهر ذلك في بحث نشرته مجلة الشبيجل عن بقعة في الدماغ للإيمان برب الجنود.. إن ربك فعال لما يريد) انتهى. وأنا شخصياً أشك في نتائج هذا البحث لأني أعرف أن دماغي غير مبرمج بالإيمان برب الجنود كما تقول المجلة، ولا عقول مئات العلماء الذين ذكرهم ريتشارد دوكنز. أما الآية التي تقول (إن ربك فعال لما يريد) فما هي إلا عبارة في كتاب لا دليل عليها. فالقرآن يخبرنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( الإسراء 23). وكذلك يخبرنا القرآن أن الله إذا قضى أمراً يقول له (كن، فيكون). فما دام الله قد قضى ألا نعبد إلا إياه، لماذا ظل أكثر من نصف سكان العالم لا يعبدونه؟ ألم يقل لنا الدكتور إن الله فعال لما يريد؟ فاهو أراد لنا أن لا نعبد إلا إياه، وما زال لم يفعل ما أراد. وأظن أن السائلة عندما سألت د. الجلبي كانت تبتغي رداً علمياً بعيداً عن الاستشهاد بالآيات، لأن الاستشهاد بالآيات يخبرها مسبقاً أن الإسلام هو الطريق الصحيح.
وفي الختام يقول د. الجلبي للسيدة السائلة (وهكذا فالجواب على فكرة هل يمكن للإنسان أن يعيش بدون دين؟ هو... نعم...
ولكن ما هو الإلحاد ؟
حسب وجهة القرآن فهو يقرن الإلحاد بالظلم فهذه هي فلسفته:
"ومن يرد فيه بإلحاد بظلم" عن البيت الحرام جاءت الآية 25 من سورة الحج..
فالقرآن سمح بالكفر وقاوم الظلم.. ) انتهى.
ربما يكون د. الجلبي قد سمح لنفسه أن يفسر القرآن تفسيراً يختلف عن تفسير أهل التفسير، ولكن قوله إن الإسلام سمح بالكفر وقاوم الظلم، فقول غريب لم يقل به أحدٌ غيره. ثم أنه لم يعرف لنا الظلم الذي يعنيه، فأنا قد وجدت بالقرآن 37 آية تقول (الذين ظلموا) وفي تفسير الغالبية العظمى منها يقول المفسرون جميعهم إن الظلم هو الكفر أو نكران ما قال به القرآن أو مناكفة الرسول. وبعضهم شطح في تفسير الظلم في الآية (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرٌ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) (آل عمران 117) فقال بعضهم ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها. والقرآن حتماً لم يسمح بالكفر إلا في الآيات المكية وقت كان ضعيفاً وقد نُسخت كل هذه الآيات. وكل الآيات المدنية تحض على قتال الذين كفروا مثل (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قومٍ أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) (الفتح 16). ففي هذه السورة المدنية يقول لهم القرآن أما أن تقاتلوهم أو يسلمون. فأين هو السماح بالكفر؟
وفي الختام أقول للسيدة السائلة إن الدين ليس ضرورياً لإنسان اليوم لأننا آمنا بالعلم الذي يبرهن لنا كل شيء ولا نحتاج الغيبيات التي تؤمن بالسحر والشياطين.
كامل النجار