في نقد ماركس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حبذا لو أن السيد محمد انعيسى أبدى شيئاً من التواضع فيما كتب تحت عنوان "اسهام في نقد بعض أسس الماركسية" واعتبر اسهامه "صفعات" يوجهها للماركسية. وفاته فقدان التساوق بين كلمتي "اسهام" و "صفعات" حيث في سياق الأولى التواضع وفي الثانية العنجهية والغرور.
ندرك تماماً أنه ليس من حقنا التشكيك في إجازة السيد انعيسى في الفلسفة طالما أنها صادرة عن مؤسسة رسمية محظور الطعن في صدقيتها إلا أن ما كتبه السيد ووصفه بحدية قاسية بالصفعات يحرضنا بقوة على تجاهل مثل هذا الحق الرسمي حيث بدا انعيسى بلا ذراع علمية ومنطقية تؤهله للصفع. لقد خلا كل ما كتب من أي منطق ومن الأسلوب العلمي. ولنا أن نستعرض " صفعاته " الخمسة الواردة في مقالتيه المنشورتين في " الحوار المتمدن " في الحادي عشر والثاني عشر من الشهر الحالي.
1) يصف انعيسى الماركسية بأنها.. " ما هي إلا إيديولوجيا حاولت تفسير العالم وتغييره نحو الأقضل تفتقد مجموعة من الأسس العلمية " لكن الفلسفة الماركسية، المادية الديالكتيكية، تؤكد أن التغير هو طبيعة الأشياء، فالأشياء بفعل التغير الدائم ليست هي نفسها بذات اللحظة وهو ما يعني أن القراءات ومعطياتها لا بد وأن تكون مختلفة بين لحظة وأخرى؛ فكيف لمثل هذا المنهج في التفكير أن يشكل إيديولوجيا؟ إنه المعاكس تماماً للإيديولوجيا، إنه اللاإيديولوجيا. ويضيف انعيسى أن الماركسية تفتقد لمجموعة من الأسس العلمية (!) ما يدهشني حقاً هو جرأة كاتب في أن يقول هذا دون أن يشير إلى أساس علمي واحد على الأقل من هذه المجموعة.
2) ثم يذكر انعيسى أن.. " الصفعة الأولى هي جرائم ستالين وقد نسبت إلى الماركسية ". ليس أغرب من هذا القول على أي بحث يلتزم بمستوى أولي من المنهج العلمي. فماذا لو نهض ماركس من قبره وصاح " ليس لي علاقة بجرائم ستالين "؟ إذّاك يترتب على انعيسى أن يكذب ماركس ويأتي ببرهانه! ثم من أعلم انعيسى عن " جرائم " ستالين؟ زعماء تاريخيون من أمثال روزفلت وتشرتشل وماوتسي تونغ ونهرو كانوا يفاخرون بأنهم قابلوا ستالين وتحدثوا إلية. هل قيام ستالين بشطب النازية والفاشية من تاريخ البشرية هو جريمة بعرف انعيسى؟
3) " الصفعة " الثانية التي وجهها انعيسى للماركسية هي أن ماركس كان تلميذاً لهيجل. عجيب أمر هذا الكاتب المبتلى بالعنجهية، فما العيب في أن يكون ماركس من الهيجليين في شبابه وهيجل أبو الديالكتيك؟ ولماذا لم يصفع انعيسى هيجل ومبدأه " الإعتراف بالذات " (Self Recognition) الذي تطور لدى ماركس ليكون الصراع الطبقي. ويزعم انعيسى أن.. " أكد مجموعة من الباحثين أن البنيات المتحكمة في المجتمعات تختلف من مجتمع إلى آخر ". لم يذكر انعيسى من هم مجموعة الباحثين وكيف أكدوا ذلك؟ ومتى؟ وأين؟ وهنا لنا أن نسأل انعيسى عن تلك المجتمعات التي توفر أسباب حياتها بلا إنتاج !! يبدو أن انعيسى لا يعلم حقيقة أولية وهي أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي ينتج حياته. وفي مختلف المجتمعات التي قامت عبر التاريخ المكتوب اعتمدت شعوبها على وسائل مختلفة للإنتاج فانقسمت إلى طبقات تبعاً لوسائل الإنتاج المختلفة، هذه الطبقات تتصارع عبر إنتاجها في السوق. هذه طبائع الأشياء سواء أعجبت انعيسى أم من هو أعلم من انعيسى. عندما يصار إلى إتفاق من المجتمع بكل شرائحه على تبني الوسيلة ألأكثر عطاء للإنسان تلغى الطبقات آلياً ويلغى بذلك الصراع. هذا ليس أرسطيه بصيغتها البنيوية. إنها مجرد توالي الحقائق. أما القول.. " أن التاريخ قد يكون صراعاً وقد يكون شيئاً آخر " فهو قول يجب ألا يصدر عن كاتب يحترم نفسه قبل أن يحترم قراءه. على انعيسى وقد قال هذا أن يلتزم بأن يشرح الشيء الآخر الذي يكونه التاريخ. ما هو الشيء الآخر؟ ربما يرد في ذهن انعيسى سيرة حياة الملوك، ربما، أقول ربما ! لكن المؤرخين بمختلف طبقاتهم قد ألقوا بمثل هكذا تاريخ في المزابل العفنة للتاريخ القديم. التاريخ هو صراع الطبقات ذوات وسائل الإنتاج المختلفة والذي كثيراً ما يأخذ شكل صراع الدول تعبيراً عن مصالحها المتعارضة. سيسقط التاريخ في المجتمع الشيوعي حيث لن يدوّن حينذاك سوى أن زيداً من القاهرة قد اخترع جهازاً طبياً عام 2361 وعمرو من طنجه قد وضع معادلة في حساب التمدد الكوني عام 2756 وسبيروس من أثينا كتب سمفونيته الرابعة في العام 3025 وميجال من لاباز رسم لوحته الشهيرة في العام 3792. ليس أكثر من هذا سيكون التاريخ. كل البشرية إذّاك ستوجه كل قواها لقهر الطبيعة من أجل استكمال سعادة البشرية ورحلة الأنسنة.
4) أما صفعة انعيسى الثالثة فإنها صفعة الجهل والجهالة. صفعة الجهل لأن انعيسى يجهل أن ماركس نفسه توقع أن تنطلق الثورة الاشتراكية من روسيا القيصرية وقد أشار إلى ذلك في مقدمته التي كتبها لترجمة البيان الشيوعي إلى اللغة الروسية. وهي صفعة الجهالة لأن انعيسى لم يكلف نفسه باستقصاء طبيعة وأهداف انتفاضة البلاشفة في أكتوبر 1917. انتفاضة أكتوبر لم تكن ثورة ولم تكن اشتراكية. انتفض البلاشفة تحديداً لاستكمال أهداف الثورة البورجوازية في فبراير 1917 في السلام والإصلاح الزراعي ودعوة الجمعية التأسيسية للجمهورية الجديدة. ما حوّل تلك الإنتفاضة إلى ثورة اشتراكية هو البورجوازية المتمثلة بالحزب الإشتراكي الثوري وحزب المناشفة بالتعاون مع الرجعية القيصرية. إن تطور المجتمع السوفياتي بسرعة لا نظير لها خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي رغم الحصار المحكم والتخريب الهائل الذي قامت به عصابات المخابرات الغربية لهو شهادة لا تحتاج إلى شهود بأن النظرية الماركسية قد تجاوزت عتبة النظرية لتدخل قصر العلوم بكل جلاله وبهائه رغم أنف عصابات الرجعية السوداء.
5) وصفعة انعيسى الرابعة تتمثل بالروح القومية فيقول.. " وتعتبر الروح القومية من أهم الإنتقادات الموجهة إلى المذهب الماركسي الذي يؤمن بالأممية " ويذكر أن.. " صفعة قوية من العمال الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى ". مرة أخرى يبدي انعيسى ضروباً من الجهل في الماركسية اللينينية تثير الشفقة في من لديه إلمام بتاريخ الحركة الشيوعية التي بدأها ماركس وإنجلز باصدار بيانهما الشيوعي الشهير (Manifesto) في العام 1847. لقد انسحب لينين والبلاشفة من الأممية الثانية في العام 1912 لأنها تخلت عن قرارها في العام 1907 القاضي بتحويل أي حرب استعمارية قادمة إلى حرب طبقية تستولي فيها البروليتاريا الأوروبية في الدول المحاربة على السلطة. وانتصرت أحزاب عمالية عديدة لموقف لينين واستولت على السلطة في ألمانيا والمجر وبعض دول البلطيق إلا أن الرجعية الأوروبية توحدت في كتلة رجعية استطاعت أن تسحق ثورات العمال في تلك الدول. الأحزاب التي نقضت قرارها في العام 1907 لم تتأخر في إعلانها عن التخلي عن الماركسية. الأحزاب التي شاركت في الحرب هي ذات الأحزاب التي شاركت في كل الحروب الإستعمارية مثل الحزب الإشتراكي الفرنسي والحزب الإشتراكي الألماني وحزب العمال البريطاني ومثيلاتها التي وصفها لينين بحق أنها ممثلة للبورجوازية وليس للطبقة العاملة. لكن ما عسا انعيسى يقول في تضامن كل التقدميين في العالم مع الجمهورية الشعبية في اسبانيا والتطوع بحربها ضد فرانكو عام 1936. ولماذا تتضامن اليوم جمهورية إيران الإسلامية مع جمهورية كوبا الشيوعية مع جمهورية فنزويلا الثورية؟ أليس في هذا ضرب من ضروب الأممية. من الغريب أن يرفض انعيسى الأممية وهي تضامن البشرية ضد أعدائها ! إن جهله بطبيعة الدعوة القومية لا يبرر إطلاقاً رفض الأممية. القومية التي عرفتها الشعوب خلال القرن الماضي هي قومية كاذبة لا علاقة لها بالخصوصية القومية للشعوب التي تتمثل باللغة والتكوين النفسي والتقاليد. قومية القرن العشرين والنصف الثاني من القرن التاسع عشر إنما هي دعوى بورجوازية تتعلق بإغلاق السوق الوطنية في وجه المنتجات الأجنبية.
6) أما صفعته الخامسة فتمثلت بتساؤله.. " من كان ينتظر أن يتحسن المستوى المعيشي للعمال بضعفين في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟ ". لنفترض أن المستوى المعيشي للعمال قد تحسن خلال النصف الثاني من القرن العشرين ودون أن نعتمد على إحصاءات أو دلالات مادية ملموسة لكن انعيسى لم يأخذ باعتباره عدة مستجدات في العلاقات الدولية. منها أن الشيوعية كانت على عتبة دول أوروبا الغربية وهو ما دفع الرأسمالية الأوروبية إلى التراجع وتلبية بعض مطالب العمال بخصوص الأجور وظروف العمل وقد قامت الولايات المتحدة بدور هام في هذا المضمار وقدمت لأوروبا الغربية مساعدات بموجب مشروع مارشال وصلت إلى 12.5 ملياراً من الدولارات وكان هدف المشروع المعلن هو إبعاد الشعوب الأوروبية عن الشيوعية. وما هو أهم من هذا وذاك هو أن النظام الرأسمالي قد تفكك وانهار في السبعينيات وتشكلت بذلك " دولة الرفاه " (Welfare State) التي ضاعفت الإنفاق حتى أخذت بالإستدانة وهي اليوم مدينة بديون لا قبل لها على حملها. وهنا نستذكر القول الشعبي.. " من يكبّر حجره عليه أن يكون له ساعد قوي " وهو ما ليس لدى انعيسى.
وليسمح لي السيد انعيسى أخيراً أن ألفت انتباهه الكريم إلى أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يكتب بضعة أسطر تفتقد إلى الشواهد والبراهين مدعياً أنه بها يوجه صفعات للماركسية !! ليس في هذا أدنى احترام لقرائه وليس لماركس، بل ربما تكون النتيجة عكس القصد.. كيف له أن يقارن ما كتبه ودون أن يزيد عن بضعة أسطر بما كتبه ماركس من مجلدات ! أليس في هذا إيحاء، لم يقصده انعيسى بالطبع، بقيام النملة بصفع الفيل وهو ما يزيد من عظمة الفيل بنظر المراقبين. ما كان لانعيسى أن يقوم بهذا فيجرح احترامه ليس في نظرنا فقط بل وفي نظر قرائه أيضاً. وختاماً نوجه شكرنا لمحمد انعيسى لأنه صفعنا على وجوهنا فقمنا نبحث عن الأسباب مؤملين أنها ستجعله يفكر فيما فعل فيتوقف عن الصفع على الأقل.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01