أصداء

احتكار الإصلاح وجه الفساد الآخر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كلما رأيت "آلة زعق بشرية" في القنوات الفضائية -من جنس الكائنات التي تدلع لسانها على طاولة البرنامج وتحرّك بلعومها بعبارات وشعارات- حينما أرى ذلك الحماس الصاعق أشعر بالقرف من هذا المشهد البائس، ليست المشكلة فقط في حالة "الصفير والصراخ والشهيق" التي يصرفها عبّاد الشعارات وأنصار القضايا وسدنة الدفاع الوهمي عن الشعارات الوهمية بنظريات وحجج وهمية، وإنما بسبب هذا الظهور المليء بالتبجح الفكري والسذاجة الذاتية، حينما يطالب بعض هؤلاء الذين يمغطون ألسنتهم من الساعة التاسعة ليلاً حتى تطردهم القنوات من استديوهاتها مع بزوغ الفجر كل ذلك الضجيج ينطلق من دعوى "الإصلاح"، وبرغم ضبابية معنى "الإصلاح" ذلك أن حتى كلمة "إصلاح" تعرضت للاختراق، فباتت تعني ببساطة أن "تتبع مشروعي" وإن لم تتبعه فأنت فاسد تحتاج إلى إصلاح شامل وكامل. هذا ما تنضح به الفضائيات وحركات الإصلاح ومزاعم التصحيح والتغيير وبعض الكتاب البسطاء ضحايا القراءات العمياء والثناء الكاذب.


حينما سألتُ مرة أحد الذين يدعون أنهم من الإصلاحيين عن جدوى أحد مشاريعهم التي يطالبون بها لم يكن يعرف عن مشروعه إلا الفتات، فهو مجرد ترس داخل مكينة لا يفقه شيئاً عن المشروع الذي يطالب به والذي يدعي أنه "سر نهضة الأمة" والطريق الوحيد للخروج من النفق، ولا عجب إن وصفك أحدهم بعد أن تختلف معه بانك "من أذناب الحكومة" ذلك أن مشروعاتهم الإصلاحية المزعومة تحولت إلى "حكومات أخرى" تقصي من يختلف معها وتؤوي من ينشدّ إليها ويواليها ويسمع لمشاريعهم ويطيع. تلك هي صورة أولى وكبرى لتوجهات الإصلاح عربياً.


يكشفها نموذج تعاملهم مع الديمقراطية مثلاً، صحيح أنها النظام الأقل سوءاً في العالم، ولكن يتطلب ترسيخها بنية أولية ولعل هذا ما يجعل بعض الفلاسفة يتعاملون مع "الديمقراطية" بوصفها (إشكالية) لأنها تطرح بقدر ما تطرح بعض الحلول فإنها باستمرار تنتج مشاكلها، يطرح (يورغن هابرماس) في بحثه (التشكيلة-مابعد-القومية ومستقبل الديمقراطية) على أنها "تنتج إشكالاتها"، فهو يقول: (إن المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية وهي الحكم الذاتي والشعب والموافقة والتمثيل والسيادة الشعبية- صارت بوضوح -إشكاليات) وكونها "إشكالية" لا يعني أن نتعامل معها كشعار، وإنما أن نستوعب تاريخياً إشكالياتنا العربية مع هذه العبارة، خاصةً وأن القمع والاستبداد استطاع أن يوظّف الديمقراطية توظيفاً سيئاً بشكل يخدم استبداده، بينما دعاة الإصلاح ومنذ دعوات الإصلاح الأولى "للديمقراطية" وهم لا يفرقون بين كون الديمقراطية "نتيجة" يطبخها المجتمع بنار وعيه ونشاطه التصحيحي الذاتي، وبين كونها مجرد "سبب" أو عصى موسى الذي يأتي بكل الحلول، فالسطحية حدت بهم إلى التعامل مع الديمقراطية كـوسيلة للتقدم.


إن الديمقراطية بشكل أولي نتيجة أولى لسخونة المجتمع وتلهفه وتشوفه للتغيير، فالديمقراطيات تأتي بعد ردح ثقافي طويل، ولا تأتي بانقلابات عسكرية، أو أحلام فردية، بكل أسف فإن هذا مالم نخبره منذ البداية.


ففي فترة مضت كانت الثورات المزعومة والانقلابات العسكرية تشبه لعب الصبيان ومع ذلك كلما استلمت الأحزاب التقدمية الحكم زاد الاستبداد والقمع، وتبقى الشعوب أسيرة لذاتها وتبقى المجتمعات أسيرة لأدوائها وأفكارها، لم تكن العصيّ يوماً ولا البنادق الحكومية لتصنع شعباً ديمقراطياً وإنما الشعوب التي تصل إلى حالة من التشوّف للديمقراطية هي التي تصل إلى هذا المستوى من النمو السياسي، وما يحصل من قبل الإصلاحيين اليوم أنهم انشغلوا بشعارات تافهة وهتافات سياسية تحقق لهم شهرة واسعة ويصنعون من أنفسهم أبطالاً ولكنهم لا يمسون العصب المعطوب أبداً ولا يقاربونه إطلاقاً.


حينما نقرأ الإصلاح قراءة شاملة ظاهرة وباطنة، نجد محاولات بعض الإصلاحيين كانت تنصب على "تأمين أوضاعهم الاقتصادية" أو "تصحيح مواقعهم إزاء التهميش الذي تمارسه ضدهم الحكومات" هذا ما نشاهده في بعض "المذكرات" حيث يكرّ ويفرّ بعضهم ويسجن ثم بعد أن يخرج وتتوطد علاقته بحكومته يبدأ في إلقاء المحاضرات عن "التراجع" وعن "طيش الشباب" وهي حالة تتكرر دائماً في أدبيات أكثر المحاولات الإصلاحية في العالم العربي، هذا فضلاً عن "المنة" التي يمارسها بعض الإصلاحيين فحينما يسجن يمنّ على العالم ويدعي أنه سجن من أجلهم وأنه قدم نفسه في سبيل تأمين لقمة عيشهم، بينما لم يؤيد مشروعه إلا السذج أو من لم يفهمه أو "الثوار بالفطرة" الذين يطمحون إلى تأييد أي نعرة إصلاحية مزعومة مهما كانت شاذة عن الواقع ومنفلتة عنه.


إن الإشكاليات التي يجب أن نتساءل حولها أجدى من "نثر الحلول" الذي نشاهده بكرة وعشياً في الإعلام وفي البرامج الإصلاحية التصحيحية التي تطرح من دون وعي أو تدوين، تجد بعضهم يركض وراء الشعار وفوق الشعار ومن أجل الشعار من دون أن يدرك فحواه ومعناه، من دون حتى أن يقرأ ويقارن التجربة "العربية" مع بعض الشعارات، إن التجربة العربية مع "مزاعم الإصلاح" من قبل القوميين والإسلاميين والعلمانيين والليبراليين حالياً من المهم أن تكون موضع تدوين، حتى يتمكن بعض الذين يقومون بتكرير الفشل باسم الدعوة للإصلاح من التوقف عن هذا المهرجان الممل، وأن يعرفوا أن الفساد الكامل يحرّض على الإصلاح أضعاف ما يحرّض عليه الإصلاح "الناقص" الذي يجرّ دائماً إلى الإحباط الدائم واليأس المضاعف.

فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف