ذلك الكتاب لا ريب فيه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تعقيباً على السيد عمرو إسماعيل
كتب السيد عمرو إسماعيل مقالاً بموقع إيلاف الإلكتروني بتاريخ 12 سبتمبر 2007 يدفع فيه بأن الإيمان بالأديان لا يتم عن طريق العصا والسيف وأن الحكومات في الحياة الدنيا يجب أن تكون من الناس وللناس ولا مكان للحكومات الدينية. والفكرة في حد ذاتها سليمة وتستحق المساندة من كل شخص سوي، غير أن السيد عمرو حاول أن يبرهن على صواب رأيه بالاستشهاد بالقرآن، والقرآن، كما قال الخليفة علي بن أبي طالب، حمال أوجه. وحمال أوجه تعني أن كل آية يأتي بها السيد عمرو يستطيع من يجادله أن يأتي بآية تخالفها في المعنى. ولهذا السبب قال علي بن أبي طالب لابن عمه - عبد الله ابن عباس - عندما انتدبه ليحاور الخوارج،
عمرو اسماعيل: ذلك الكتاب لاريب فيه
قال له (لا تجادلهم بالقرآن، بل جادلهم بالحديث). أما فكرة انتشار الأديان بغير العصا والسيف فلم تحدث إلا في المسيحية قبل أن يعتنقها الإميراطور قسطنطين وتصبح الدين الرسمي للإمبراطورية. اليهودية لم تنتشر خارج بني إسرائيل ومع ذلك شهدت حروباً دينية عديدة. أما الإسلام فلم يخرج من المدينة إلا على أسنة الرماح والسيوف.
بدأ السيد عمرو مقاله بالآتي (الم.. ذلك الكتاب لا ريب فيه.. هدي للمتقين..الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.. أولئك علي هدي من ربهم وأولئك هم المفلحون. صدق الله العظيم). ثم أردف قائلاً (كلام واضح لا يحتاج تأويلا ولا تفسيرا.. يدخل القلب والعقل معا.. كتاب الله لاريب فيه.. وليس مثل بعض الكتب من التراث التي تحتمل كل الريب..) انتهى.
وهذا الكلام قد يدخل القلب، قلب المؤمن، لكنه لا يدخل العقل إذ ليس هناك من شك أن الذين يرتابون في هذا الكلام كثيرون، ولا يدخل عقولهم أن يؤمنوا بالغيب، ولذلك أصبحوا خارج تعريف المؤمن. وبمجرد أن خرج الإنسان من تعريف المؤمن، أصبح لا حقوق له في الإسلام. والمشكلة في كل الأديان، وبالأخص في الدين الإسلامي، أن أغلب ما يُقال في الكتب المقدسة وأقوال الأنبياء ورجال الدين، يتعارض مع العقل، ولكن المؤمن به، يؤمن بكل حرف فيه دون أي تفكير في المحتوى. فمثلاً، قال السيد عمرو في نهاية الآية المذكورة (صدق الله العظيم). والعقل المحايد لا يقبل مثل هذه المقوله لسببين: السبب الأول هو أن القاريء عندما يختم الآية ويقول: صدق الله العظيم، يعني أنه في موقع يسمح له بأن يشهد بصدق الله، والمخلوق لا يمكن أن يشهد بصدق الخالق، لو أن الله فعلاً قد خلقه. والسبب الثاني: إذا قلنا إن الله قد صدق في هذه الآية، فهذا يعني أنه يمكن أن يكذب في غير هذا الموضع. لأنه لو كان صادقاً كل الوقت ولا يجوز عليه الكذب، يصبح من الغباء أن نؤكد على صدقه كلما قرأنا سورة من القرآن، ونحن نعرف أنه لا يكذب، ولكنه الإيمان الذي يعزل العقل ويمنعه التفكير.
هل الإنسان فعلاً خليفة الله على الأرض؟ يقول السيد عمرو (لقد استخلف الله الانسان في الأرض وترك له حرية الاختيار وحكم نفسه) ولكن العلم يخبرنا أن الحيوانات عاشت على هذه الأرض ملايين السنين قبل أن يظهر الإنسان، فهي أحق من الإنسان أن تعيش على هذه الأرض وأن تُستخلف. ولكن جاءت الأديان وزعمت أن الإله يحب أن نقدم له القربان، كما كانت تُقدم إلى الأصنام، وأصبحت الحيوانات الأليفة هي الضحية. نقتلها حتى دون أن نحتاج لحمها. بل أصبح قتل الحيوان نوعاً من الرياضة. فما الذي أعطى الإنسان الحق في إبادة من ظهر على الأرض قبله وكان خليفة على الأرض قبله؟ الأديان أعطت الحق للإنسان على أساس أن الإله حباه بالعقل ولذا أصبحت لحياته حُرمة وقداسة. فإذاً حرمة الحياة مصدرها العقل. ولكن هناك ملايين من البشر ولدوا بعاهات ذهنية تجعل مقدرتهم العقلية لا تزيد عن مقدرة بعض الحيوانات الذكية، فهل يحق لنا أن نقتل مثل هؤلاء الناس لأن عقولهم لا ترقى إلى مستوى عقول الحيوانات؟ بالطبع لا. فكل حيوان، والإنسان حيوان، له الحق في الحياة على الأرض، وليس للإنسان أي حق يزيد عن حق الحيوانات الأخرى، ولذا نجد في الغرب جمعيات الرفق بالحيوان، التي تعتني بالحيوان كما تعتني بالأطفال الصغار. ولكن في بلاد الإسلام، حيث يخبرنا القرآن أن الله جعل الإنسان خليفةً على الأرض، يضيع حق الحيوان، كما يسلب الحاكم باسم الله حق الإنسان. والسبب الرئيسي الذي يجعل الحاكم يسلب حقوق المسلمين هو الأمر في القرآن الذي يقول (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون) (النساء 59). بينما في البلاد الديمقراطية فإن أولي الأمر يطيعون الناخبين. ولا يجوز بأي حال من الأحوال تمكين رجال الدين من حكم الناس باسم الإله. ألا تكفيهم السيطرة على عقول البسطاء وعلى أموالهم باسم الإله؟
أما قول السيد عمرو (أن الله ترك للإنسان حرية الاختيار وحكم نفسه) قول لا تسانده آيات القرآن. فالآيات القرآنية التي تخبرنا أن الإنسان لا إرادة له كثيرة جداً، منها:
(وما تشاءون إلا أن يشاء الله) ( الإنسان 30)
(ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قُبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) ( الأنعام 111)
(من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) ( الأنعام 39)
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) (النحل 93)
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال 17)
فالإنسان في الإسلام ليست له الحرية في أي شيء، حتى طريقة الوضوء أو دخول الحمام أو ممارسة الجنس مع شريك الحياة، كلها يجب أن تسير حسب الطريقة التي فعلها بها النبي. فحرية الاختيار هي عدو الإسلام اللدود، ولذلك يكرر علينا القرآن هذه الآيات التي تجعل من الإنسان "روبوت" يتحكم فيه الإله والرسول والقرآن ورجل الدين وولي الأمر. وحتى عندما يعتدي المسلم ويقتل شخصاً آخراً يكون الرامي أو القاتل هو الله والمسلم مجرد أداة قامت بالفعل.
ثم يقول السيد عمرو إسماعيل (فمن يقول الحكم لله هو يخلط الأمور، وحكمة الله في الاستخلاف والحساب هو أن جعل الحكم في الأرض هو للإنسان من بني آدم..وبعث الرسل ليذكروا هذا الانسان لا ليجبروه.. فمن يستعمل سيفا أو عصا لإجبار الناس علي الإيمان هو في الحقيقة مخالف لأوامر الله.) انتهى.
وفي الحقيقة فإن جميع الأديان أعطت الحكم لرجالات الدين، أو بالأحرى أن رجالات الدين أعطوا الحكم لأنفسهم لأن الدين من صناعتهم. فموسى وهارون جعلوا الحكم في أيدي أحفاد هارون من الحاخامات، وما زال للحاخامات دور كبير في الحكم حتى في حكومة إسرائيل العلمانية. وفي المسيحية فقد حكم البابا والقساوسة باسم الله حتى قيام الثورة الصناعية وتحرر الإنسان الغربي من حكم الكنيسة. أما في الإسلام فالقرآن يخبرنا صراحةً أن الحكم لله، فهو يقول:
(وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (المائدة 49)
(إنما أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما) (النساء 105-110)
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحقظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس وأخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة 44)
(وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ( المائدة 47)
طبعاً نستطيع أن نحاور رجال الدين بأن الحكم المشار إليه ما هو إلا الحكم بين الناس يوم القيامة أو الحكم بين شخصين تشاجرا على أمرٍ ما وأتيا النبي ليحكم بينهما، ولكن رجال الدين يفسرون القرآن حمال الأوجه بما يتفق ومصالحهم. ولذلك قالوا إن الحاكمية لله. وعندما يقول السيد عمرو (فمن يستعمل سيفا أو عصا لإجبار الناس علي الإيمان هو في الحقيقة مخالف لأوامر الله) قول يعارض ما جاء به القرآن ويكذبه تاريخ انتشار الإسلام، فآيات القتال في القرآن عديدة، منها:
(إن الله يحب الذين بقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) ( الصف 49)
(يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (التوبة 123)
وهناك أكثر من عشر آيات تحض النبي والمسلمين على قتال الناس حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية التي ترهقهم مادياً ومعنوياً فيضطرون إلى الدخول في الإسلام هروباً من الجزية والخراج.
ومحاولة الالتفاف حول رجال الدين بتفسير القرآن تفسيراً مخالفاً لتفسيراتهم لا تجدي نسبة للبراعة التي اكتسبها رجال الدين على مر القرون. ولأن القوانين المدنية تقول إن أحدث مواد القانون تُبطل عمل المواد السابقة المشابهة لها، اخترع رجال الدين مفهوم الناسخ والمنسوخ. وهذا هو ما حاول السيد عمرو تخطيه عندما استشهد بالقرآن على عدم إجبار الناس على الإيمان، فقال (لقد قال الله مخاطباً النبي محمداً ((صلى الله عليه وآله وسلم): (ولو شاء ربّك لآمن مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)
وقال سبحانه: (وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل).. وقال تعالي (وما أنت عليهم بجبّار فذكِّر بالقرآن مَن يخاف وعيد ).. وقال سبحانه (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ )
وقال تعالى: (فذكِّر إنّما أنت مذكِّر * لست عليهم بمصيطر * إلاّ منَ تولّى وكفر* فيعذبه الله العذاب الأكبر )) ونلاحظ أن جميع هذه الآيات من سور مكية، وهي يونس والأنعام وق والشورى والغاشية، ولم يستشهد السيد عمرو بأي آية مدنية تحض على عدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام إذ لا وجود لمثل هذه الآيات في قرآن المدينة، ما عدا الآية (لا إكراه في الدين) التي وردت في أول سورة نزلت بالمدينة، ثم تغير الحال بعد سورة براءة. وحجة رجال الدين هي أن جميع الآيات المكية المتسامحة مع الكفار قد نسختها الآيات المدنية. وهذا يتماشى مع ما قلناه عن القوانين المدنية، فالقانون اللاحق يعلو على السابق.
ثم يسأل السيد عمرو (وهل هو حكم الله أن يتقاتل المسلمون صراعا علي السلطة السياسية..ويقتلون بعضهم البعض في موقعة الجمل أو صفين..معاذا الله.. وهل هو حكم الله أن تقوم الدولة الأموية علي أشلاء وجثث أهل البيت ويفعل يزيد مافعله في أهل المدينة..معاذ الله..تعالي عن ذلك علوا كبيرا.) انتهى.
ونقول له: نعم، هي إرادة الله أن يقتتل المسلمون على السلطة السياسة لأن القرآن يقول (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما) (الحجرات 9). فلا بد أن الله قد علم أن المؤمنين سوف يقاتلون بعضهم بعضاً ولذا أتى بهذه الآية. وإذا لم يكن القتال بين المسلمين على السلطة السياسة، فعلى ماذا يتقاتلون؟ وأما عن الدولة الأموية وقيامها على أشلاء أهل البيت، فهي بالمثل إرادة الله، وهذا ما قاله معاوية مراراً وتكراراً. فمعاوية كان يردد أن ((الله يقول (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) (آل عمران 26) فلو لم يرد الله أن أتولى حكم المؤمنين لانتزعه مني.)) وعندما بعث يزيد الحجاج بن يوسف ليدك الكعبة بالمنجنيق، تخلى الله عن الكعبة ولم يرسل الطير الأبابيل ليحميها.
فأرجو أن أكون قد وضحت للسيد عمروإسماعيل أن الاستشهاد بالقرآن حمال الأوجه ما هو إلا محاولة في تجميل صورة القرآن وجعله مواكباً لروح العصر، وأن هذه المحاولة مصيرها الفشل لأن القرآن حمال أوجه. ولأنه حمال أوجه لا يجوز أن يتخذه الإسلاميون تبريراً لاغتصاب الحكم باسم الله. الحكم يحتاج قوانين ودساتير لا تقبل التأويل واللف والدوران، وعليه لا بد أن يكون حكم الناس بالناس ومن أجل الناس وبقوانين يرتضيها الناس وليس بقوانين متضاربة اخترعها رجال الدين. الحجة ضد الحكم الديني يجب أن تكون مبنية على المنطق البحت وبدون اللجوء إلى الدين لأن الدين عبارة عن علاقة فردية بين الإنسان ومعبوده، بينما الحكومة عبارة عن أداة دنيوية يستعملها الناس لتسيير أمور حياتهم ويتساوى في عُرف هذه الحكومة جميع المواطنين بلا أي اعتبارات لعلاقاتهم مع الكائن الغيبي الذي نسميه الإله أو الدين، وبدون أي اعتبار للون أو للميول الجنسية أو الجندرية (ذكر أو انثى). وعندما يجادل السيد عمرو إسماعيل من أجل حكومة مدنية جدالاً يعتمد المنطق فقط، سوف أكون أول من يؤيده ويشد أزره.
كامل النجار