اللهم إني صائم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مع قدوم شهر رمضان المبارك... عقدت العزم على أن أصوم في هذا الشهر الفضيل عن الحديث في السياسة وملحقاتها ليلاً نهاراً... تماماً كما فعل أستاذنا " غوّار الطوشى " الذي قرر الصيام عن المقالب وطول اللسان طوال شهر رمضان.!!
ورأيت أنه كلما أغرتني أو أدهشتني أو فلقتني الأحداث المتلاحقة في الشارع... في الصحف... في نشرات الأخبار... ألا أتسرع بالتعليق بل أستغفر الله وأقول في هدوء " اللهم إني صائم " ثلاث مرات...!!
مع إني لا أعد القراء بالوفاء بهذا العهد لأن السياسة كالجرب والكتابة كاليد التي لايستطيع أحد منعها من أن تحك الموضع المتهيج المؤلم في ليل موحش وطويل..!!
لم أجد أفضل من " رمضان " ليكون موضوع حديثي إلى القراء... لأن هذه الكلمة العظيمة تشرِّف المقال والمقام والزمان عدا عن أنها تحمل مفاتيحاً حميمة للذاكرة المشتعلة بعبق الطهارة والبراءة والتواصل وحب الناس. كلمة "رمضان" تضم بين حروفها عِبراً ومعانٍ إنسانية عالية من تقوى وتراحم وصبر وشعور بالاخرين..وهي في ذكراة طفولتي تلتصق بصوت الآذان... الإفطار... سيد النقشبندي... التراويح... عبد الباسط عبد الصمد...قمر الدين.. ألف ليلة وليلة... المسحراتي... رائحة القطايف والكعك... أنوار المآذن والشوارع والمحلات التجارية الساهرة.. ساق الله..أيام رمضان في صبانا...!!
رمضان في هذه الأيام يكاد يختنق بين أيدينا وألسنتنا الجافة التي تفصل بيننا وبين الجيران والأهل..
رمضان لم يعد كما كان في أيام الطفولة.. بل بالأحرى لم نعد نحن بالبراءة وحب الحياة كما كنا في رمضان الطفولة.. أتذكر فيما يشبه الحلم البعيد.. اللحظات السعيدة النقية التي كانت تجمعنا صغاراً وكباراً مع ذلك الزائر الكريم الذي يزورنا كل سنة مرة...
أتذكر كيف كنا نتبارى في إخراج " اللسان الأبيض " دليلاً على الصيام ونتباهى به على أقراننا الذين لم يستطيعوا الصيام أولم يرغبوا.. وكيف كنا نطارد النهار ببراءة الطفولة حتى يؤذن لصلاة العصر... فنذهب ونصلي ثم نتجمع حول المسجد الوحيد في المخيم وبجوار الكثبان الرملية الصفراء البكر.. نتجارى ونلعب معاً " الحدر بدر " و" الكسحة " و....و.... كانت آذاننا باتجاه مسجدنا الصغير وعيوننا باتجاه مئذنة جامع البلد الكبير التي تضيء أنوارها بمجرد أن يحين موعد آذان المغرب.. وما أن يصعد "أبو العظم " على سطح المسجد للأذان حتى نصيح نحن الأطفال صيحة الفرح المحببة إلى القلوب وبمجرد أن نسمع " الله أكبر " حتى نهرول مسرعين متسابقين إلى البيوت لنجد العائلة الكبيرة الجدين والوالدين والأعمام وزوجاتهم وأولادهم يتحلقون حول مائدة واسعة.. كلنا "أكثر من ثلاثين فردا "كنا نجتمع على مائدة إفطار واحدة...
ما أجملها من لحظات كانت تتجسد فيها الحميمية والتكافل.. لحظات تفرزها الذاكرة فتجرح عن غير قصد القلوب التي تشعر الآن بالوحدة والغربة والتصنع.
كنا نتبادل والجيران عبر " طاقة " صغيرة في الجدار صحون الطبيخ والحلوى ونجلس معاً في سهرات رمضانية محببة نتحرق فيها لسماع قصص " ألف ليلة وليلة " من الإذاعة المصرية ونسبح نحن الصغار في عالم الخيال عبر صوت "شهرزاد "التي تهمس للملك شهريار عن ملوك الإنس والجان والأميرة الجميلة "نورهان" والغول السجان... كان راديو " الكبايات " الوحيد في حارتنا يملكه جارنا " أبو محمد " وهو لنا بمثابة السينما والتلفزيون والفيديو... والصحف... والانترنت... وكنا سعيدين إلى أبعد الحدود بهذا الجهاز الساحر
كنا نحن الأطفال نزدرد على عجل بعض لقيمات ثم نهرع إلى ساحة الحارة لنلعب " اللي بتحيا "و" طرقت" و " اشقح يا دينار " على ضوء القمر وعلى مقربة منا كان يجلس الأهل والجيران يتبادلون الحديث بود وحب نسهر حتى يحين موعد السحور... فنتطوع أحياناً لمساعدة " المسحرين " ونرنم آذاننا بأنغامهم الشجية " إصحى يا نايم.. وحِّد الدايم. رمضان كريم " والتي تزداد شجواً في وداع الشهر الفضيل.
نعود إلى بيوتنا منهكين... لكن فرحين بهذه اللحظات البريئة الرائعة لنجد الوالدة الطيبة قد أعدت لنا سحوراً من " دبس االقصب المصري الاسود " غالباً و " قمر الدين " نادراً مع الجبنة البيضاء ونحشو المعدة حشواً ونشرب بأقصى ما نستطيع تحسباً ليوم صيام قائضٍ وطويل.
كانت أيام لكل شيء فيها طعم.. هل هو طعم الطفولة؟ أم طعم الحياة بلا مسئولية؟
هل هو طعم العلاقات العفوية الطيبة بين الناس؟ لا أدري.
لم تكن المائدة عامرة آنذاك بما تعمر به موائدنا الآن ولكنها كانت بالقطع ألذ طعماً وأكثر بركة.
لم يكن طعم القطايف والكعك اللذين يخرجان كالدبابير في " الصواني " من فرن "أبو حسني" كطعم قطايف وكعك هذه الأيام.
كان أهل الحارة يتبادلونهما باريحية وتصميم.. رغم أنهم كانوا فقراء جداً ينتظرون بفارغ الصبر حصة تموين وكالة الغوث آخر كل شهر...
اليوم... يبدو كل شيء بارداً.. مصطنعاً... غاية في التكلف والجفاف.
اليوم... رمضان يحس بالوحشة بيننا، ويتمزق على الفضائيات وبرامج " الهِشِّك بِشِّك " حتى مفهوم الصيام الحقيقي غاب بين كثير من الناس فبينما يتحلق المتكرشون حول موائد ما لذ وطاب لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير في مشاعر أسر الشهداء والمعتقلين الذين يفتقدون الآباء والأبناء والأخوة على مائدة لإفطار متواضعة جداً.. جداً.
أتذكر أمي التي كانت تقدم بصمت وإيمان صدقة الفطر مما تبقى لنا من طحين الوكالة بينما أرى الآن تحايل أصحاب الأموال والأطيان على الزكاة برمتها.
أتذكر كيف كان والدي يحضر سلتين كبيرتين مملؤتين بالخضار والفاكهة بعشرين قرشاً بينما لم أستطع أن أشتري من أمام الجامع الكبير كيلو فول أخضر ب 8 شيكل وأوقية فلفل أخضر ب 4 شيكل.
أتذكر كيف كان الناس يقابلون بعضهم البعض ببشاشةٍ وترحاب.. وكرم عفوي لا قصد من ورائه إلا الأصالة والحب... بينما الآن الوجوه غالباً عابسة مكشرة.. والأقدام مسرعة.. والسلام بالإشارة... والمحبة ضائعة... الجار لا يعلم عن مصاب جاره إلا بالصدفة وبعد وقت طويل.. يا للعجب..!! وان علم "يطنش "من فرط ماتضخم القلب بالحسد والاحقاد
أتذكر كيف كانت ليالي رمضان ناعمة... لذيذة.. هادئة ومفعمة بكل طيب بينما الآن هي لا تختلف عن باقي الليالي المليئة بالمفرقعات التجارية وإطلاق النار المجهول... وحياة الكانتونات الأسرية المغلقة... العرس والميتم في حارة واحدة...بل وفي الشارع الواحد..صوت الشيخ الطبلاوي يختلط بصوت"هيفا" دون إحساس بالعار أو الخجل.
الى هذه الدرجة تدهورنا وتبلدت مشاعرنا وعواطفنا واهترأت علاقاتنا وأصبحنا ننظر الى بعضنا البعض شذرا وربية كما الاخوة الاعداء..!!
أتذكر كيف كنا في طفولتنا نحلم مع صوت عبد الناصر وأحمد سعيد وأمجاد يا عرب أمجاد بتحرير مدننا وقرانا في فلسطين 48... بينما نحن اليوم نعيش ومنذ40عاما في فلسطين كلها تحت بساطيرالاحتلال.. وفي طوق من المستوطنات... والحواجز... والقصف والاجتياحات والاقتتالات والانقسامات والميليشيات وأخبار الخطف والموت الغامض... وتجارب أنصاف وأرباع الحلول و...و....
ياه.. يبدو أنني خرجت عما عقدت العزم عليه.. ودخلت في مستنقع السياسة دون قصد مني.
اللهم إني صائم...
اللهم إني صائم...
اللهم إني صائم...