أصداء

هل الكنيسة القبطية تحتاج إلى إصلاح؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

هناك سؤال يتردد فى السنوات الاخيرة حول الكنيسة القبطية واوضاعها الداخلية وهل هى تحتاج إلى إصلاح أم إنها فى حالة كمال ولا تحتاج إلى شئ وكل شئ تمام؟. وقد انتقل هذا السؤال من المحيط الكنسى إلى المحيط المصرى العام فى السنوات الأخيرة واتخذه البعض أداة للتشهير بالكنيسة القبطية وتصويرها بشكل يخالف الواقع الحقيقى.


فى الحقيقة فإن الاجابة على هذا التساؤل تأتى وفقا لتحديد مفهوم الإصلاح حيث أن لهذا المصطلح مدلولات تاريخية سلبية بالنسبة لتاريخ الكنيسة عالميا، فقد استخدم هذا المصطلح للتعبير عن حالة خروج الكنيسة الاوروبية من حالة الإنحطاط التى كانت تعيش فيها فى العصور الوسطى والتى عرفت بعصور الظلامThe Dark Ages وقادها المصلح الكبير مارتن لوثر، حيث كان البابا فى روما ومعه رجال الدين يجمعون السلطتين السياسية والدينية واساءوا استخدام الاثنين لدرجة إنهم تجرأوا على بيع صكوك لغفران الخطايا وطاردوا العلم والعلماء ومارسوا الكثير من الفساد والفحش.فإذا كان معنى الإصلاح هو القيام من وضع الانحطاط فإن الكنيسة القبطية فى تاريخها الطويل لم تكن ابدا كنيسة منحطة أو تعيش فى ظلام بل على العكس فإن الكنيسة القبطية منذ نشأتها هى كنيسة مضطهدة مجاهدة صابرة محاصرة ثابتة على الايمان المسلم من رسل المسيح، فهى كنيسة يقظة تجاهد من آجل حفظ الايمان الصحيح، ولهذا قدمت للعالم عمالقة فى اللآهوت والفلسفة والرهبنة والفكر الكنسى وقدمت أيضا نموذجا لكنيسة المسيح اليقظة المجاهدة المنتصرة.


ابدا لم تكن الكنيسة القبطية فى وضع الكنيسة الكاثوليكية الغربية ولا حتى فى وضع الكنيسة الارثوذكسية الروسية التى وصف الاديب العالمى تولوستوى اساقفتها فى روايته " البعث" بقوله " أنتم موتى".
الكنيسة القبطية تفخر بأنها قدمت أكبرعدد من الشهداء فى تاريخ المسيحية بإسرها الذين حملوا اكاليلهم دفاعا عن الايمان وقاوموا البدع والهرطقات وصمدوا فى مواجهة الانشقاقات، وافتتح عصرالإستشهاد فى الكنيسة مؤسسها وبطريركها الأول القديس مرقس الأنجيلى كاروز الديار المصرية واختتم عصر الإستشها ببطريرك آخر وهو البابا بطرس خاتم الشهداء، أى أن باباوات الكنيسة القبطية كانوا فى مقدمة رعاياهم فى الإستشهاد دفاعا عن الإيمان. ولهذا تقول ايريس المصرى " إن الكنيسة القبطية تحمل امتيازا حزينا إذ إنها قدمت اكبر عدد من المضطهدين فى تاريخ المسيحية بأسرها، ومع ذلك فإن لها أن تفتخر بأنها استطاعت أن تقاوم كل القوى التى حاولت محوها". وقد احتفلت الكنيسة منذ ايام فى 11 سبتمبر برأس السنة القبطية أى عيد الشهداء،عيد النيروز الذى جاء ليذكر العالم بأن الكنيسة القبطية قدمت شهدائها منذ اكثر من عشرين قرن قبل أن يشاركها شهداء 11 سبتمبر فى هذا المجد.
الكنيسة القبطية ومنذ نشأتها هى كنيسة مستقلة فى بيئة حكم عدائية للمسيحية بوجه عام وللعقيدة الارثوذكسية بوجه خاص بعد إنقسام الكنيسة المسكونية. وبقاء الاقباط وكنيستهم بعد كل هذه القرون الممتدة من الإضطهادات هو اعجوبة كما قالت المؤرخة البريطانية مدام بوتشر. و الأقباط غرباء فى ارضهم منذ دخولهم المسيحية سواء تحت الإحتلال الاجنبى أو بعد الغزو العربى الذى اجبر الأغلبية على ترك دينها بالسيف وتحت وطأة الإذلال القاسى المسمى ذمية مما زرع الخصومة بين الأقباط المسلمين والأقباط المسيحيين، وهو ما يقرره المرحوم شوقى كراس فى كتابه " الأقباط منذ الغزو العربى غرباء فى ارضهم"، ويقرره سليم نجيب فى كتابه "الأقباط عبر التاريخ" حيث كتب "منذ الغزو العربى انطوى الأقباط على أنفسهم متراجعين واتخذوا موقفا محافظا كحراس لإيمان يتهدده الخطر.فمنذ الغزو العربى عرف القبط وضعهم كذميين وتقلبت أحوالهم بتقلب فترات التاريخ المصرى وأهواء الحكام ونزعاتهم. إن أربعة عشر قرنا من الذمية قد خلقت بوضوح موقفا قبطيا يتسم بكونه حذرا مترصدا محترسا ولكنه أيضا فخور بإخلاصه الطويل الغيور لتقاليده. لقد مرت على القبط أربعة عشر قرنا من التقلبات والقلق ولا يستطيع فهمهم إلا الذين اعتادوا على التضحية وإنكار الذات. إن تاريخ القبط منذ القرن السابع حتى أيامنا هذه قد كان على هذه الشاكلة، ولا يمكننا أن نقول إن جيلا واحدا طوال هذه القرون الأربعة عشر قد عاش يحس بالسلام إلا فى فترات قليلة متباعدة". ويقرر ذلك إدوارد واكين فى كتابه " أقلية معزولة" بقوله " يتمتع الأقباط بقوة احتمال وصلابة الاهرام، وإرادتهم وعزيمتهم فى أن يحتفظوا بشخصيتهم القبطية تتكرر بشكل لانهائى خلال تاريخهم القديم وفى موقفهم المعاصر".


الكنيسة القبطية إذن كنيسة عظيمة مجيدة صلبة مستقيمة يقظة وساهرة.

ولكن هناك معنى آخر لمصطلح " إصلاح " فى الفكر الكنسى يتجاوز المفهوم المرتبط بالعصور الوسطى الاوروبية، فالاصلاح المقصود به هو السعى الدائم نحو الكمال المسيحى، وبهذا المعنى فإن الإصلاح عملية دائمة يومية مستمرة للوصول إلى هذا الكمال المنشود التى لم تصل إليه أى كنيسة فى تاريخ البشرية، فحتى كنيسة الرسل كانت تحتاج إلى إصلاح وفقا لهذا المفهوم. الاصلاح هنا هو نهضة مستدامة وتطوير مستمرللحاق بالكمال. هو التطلع إلى كمال المسيح رأس الكنيسة الذى قال كونوا متمثلين بالله كأولاد، وتركت لكم مثالا لكى تتبعوا خطواته،كونوا متمثلين بى.... وكل كنائس العالم الساعية لهذا الكمال بها أخطاء وهناك فرق شاسع بين السقوط والإنحطاط وبين وجود أخطاء.


والكنيسة القبطية منذ تأسيسها على يد مار مرقس كان بها أخطاء وبها خلافات وواجهت بدعا وهرطقات من داخلها وخارجها وسقط بعض افرادها فى إنحرافات شخصية حتى أن مؤرخ تاريخ الكنيسة الراحل الآب الفاضل منسى يوحنا قد افرد بابا فى كل قرن للبدع والهرطقات والإنشقاقات التى واجهت الكنيسة القبطية،ولكن فى مجملها كانت ولا تزال كنيسة مستقيمة الفكر والفعل والايمان وتسعى جاهدة نحو الكمال المسيحى.


يمكن تشبيه الكنيسة القبطية بصاروخ منطلق نحو هدفه الأسمى وفى رحلته تسقط احمال وتنفصل عنه ولكن الصاروخ لم يسقط وأنما متجها بوضوح نحو غايته السامية. لقد سقط الكثيرون من الأقباط خلال هذه الرحلة الشاقة نحو السماء، خار البعض امام الأضطهادات وسقط البعض الآخر بفعل عوامل وإنحرافات شخصية ولكن التيار الرئيسى فى الكنيسة ظل حافظا الأيمان متجها بقوة نحو هدفه النهائى. خلال رحلة الكنيسة وحتى هذه اللحظة سقط أقباط عاديون وسقط رجال دين سواء فى بدع وهرطقات أو فى إنحرافات شخصية ولكن لم تسقط الكنيسة كما سقطت كنائس أخرى غربية وشرقية بل ظلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منارة شرقية لحفظ الإيمان.


فى رحلة الكنيسة القبطية علينا أن نفرق بين البدع والهرطقات والإنشقاقات، وبين الخلافات الشخصية التى لم تؤثر على الإيمان، وبين الإنحرافات الشخصية. فالهرطقات مثل بدعة اريوس الذى أنكر لآهوت المسيح وأنعقد مجمع نيقية سنة 325 لعزله ودحض بدعته وصدر عن هذا المجمع قانون الإيمان الذى كتبه البابا السكندرى أثناسيوس الذى لقب بالرسولى فيما بعد لدفاعه عن الإيمان. أما الخلافات الشخصية التى لا تمس الإيمان فكان ابرزها الخلاف بين البابا القديس ديمتريوس الكرام البطريرك الثانى عشر وبين العلامة الفذ العظيم اويجانيوس الذى وصفه منسى يوحنا بقوله " العلامة العظيم فريد عصره" وهذ العلامة فى خلافه مع البابا ديمتريوس انقسمت الكنيسة العالمية فريق معه وفريق ضده، فضد اوريجانيوس كان البابا ديمتريوس والبابا ثؤفيلس بابا الاسكندرية ومتيوديوس اسقف اوليمبيا وابيفانيوس أسقف قبرص وايرونيموس أحد علماء سوريا، وكان مؤيد للعلامة اوريجانيوس كل من القديس يوحنا فم الذهب والبابا اثناسيوس الرسولى والقديس اغريغوريوس الصانع العجايب والقديس باسليوس الكبير والعلامة ديديموس الضرير والقديس غريغوريس الكابدوكى واغريغوريوس النزيزى والبابا ديونوسيوس السكندرى وثيوسيوس اسقف فلسطين وغيرهم كثيرون. أما الإنحرافات الشخصية فكثيرة أيضا منها مجاراة بعض الأساقفة للولاة والحكام ضد شعبهم وارضائهم من آجل منافع شخصية والإستقواء بهم على الآب البطريرك، وتجسس بعض العلمانيين على الكنيسة وشعبها لصالح الولاة، وهذا حدث أمس ويحدث اليوم وسيحدث غدا ولكن التيار الرئيسى فى الكنيسة اكليروس وشعبا بخير وبعافية ويسيرون فى اتجاه الايمان الصحيح.


كما قلت سوف أستخدم فى كتاباتى مفهوم " الإصلاح " بمعنى سعى الكنيسة نحو الكمال، وبهذا المعنى فإن الكنيسة القبطية تحتاج بإستمرار إلى الإصلاح ولكن علينا أن نفرق بين " المصلح" و"المعارض". فالمصلح هو شخص ينشد الملكوت ويسعى هو شخصيا نحو الكمال المسيحى ولهذا يعمل باخلاص لخدمة الكنيسة بعيد عن الأجندات والخلافات الشخصية، وهو يأتى من داخل الكنيسة ومن ابنائها الذين يعرفون تاريخها ومجدها وخصوصيتها والبيئة العدائية المحيطة والمتربصة بها، ويقدم المصلح اجندة اصلاحية واضحة توافقية تسعى للبناء وليس للهدم. أما المعارض فهو شخص غير ملم بعمق بتاريخ كنيسته وخصوصيتها وايمانها،وليس عضوا فعالا فيها، ولا يسعى هو شخصيا نحو هذا الكمال الكنسى وأنما يسعى للظهور أو الشهرة أو المعارضة لاجل المعارضة أو نتيجة لخلافات شخصية مع أحد أباء الكنيسة أو مدفوعا من جهات لا تنشد خير للكنيسة وأنما تسعى لزرع الشقاق داخلها وهدمها من الداخل وهى جهات معروفة داخل مصر والقارئ يعلم من هى، والمعارض يسعى للتشهير بالكنيسة لا لإصلاح عيوبها.
فالمصلح شخص مؤمن أمين مخلص جاد واضح محب للكنيسة، والمعارض شخص هدام مغرض زارع خصومات مدسوس يسعى لمصالحه الشخصية على حساب الكنيسة أو مجبر للقيام بدور تخريبى داخل الكنيسة لصالح الجهات التى تشغله.


من وجهة نظرى واقولها بكل أمانة إذا كان القرن التاسع عشر اشتهر بالبابا كيرلس الرابع وكان لقبه الذى أشتهر به " ابو الإصلاح" فإن القرن العشرين برز فيه أثنان من اهم المصلحين فى تاريخ الكنيسة وهم الارشدياكون حبيب جرجس وقداسة البابا شنودة الثالث، فهم وبحق مصلحا القرن العشرين فى الكنيسة القبطية، وبالمناسبة فإن قداسة البابا شنودة هو أنجب وأخلص تلاميذ المتنيح حبيب جرجس والذى استكمل حلم حبيب جرجس فى الإصلاح والتطوير والتحديث ونشر التعليم والارتقاء بمستوى الاكليروس فى الكنيسة القبطية إلى مستوى غير مسبوق.


البابا شنودة الثالث يمثل علامة فى تاريخ الكنيسة القبطية قاد نهضة غير مسبوقة فى العصر الحديث ونشر التعليم والثقافة الدينية على اوسع نطاق واطلق فلسفة امح الذنب بالتعليم، كما إنه البابا الذى قاد سفينة الكنيسة فى ظل خطر الإصولية الإسلامية وصمد لصلابته وإيمانه الراسخ وثقافته الواسعة وحنكته السياسية المميزة.


ورغم كل هذا فإن السعى نحو الكمال يتطلب عملا دائبا مستمرا،وبهذا المفهوم فإن الكنيسة القبطية تحتاج بإستمرار إلى الإصلاح للبناء على ما أنجزه قداسة البابا شنودة ( اطال الله عمره) والذين سبقوه، وللتقدم بإستمرار إلى الامام، ولتنقية نفسها من هؤلاء المخربين الذين ظهروا على إمتداد تاريخها ومازالوا سواء من الأكليروس أو العلمانيين، فالاقباط ليسوا مجموعة من الملائكة ولكن بينهم المنحرفين والمخربين وزارعى الخصومات والمندسين والذين تملأ قلوبهم شهوة الظهور والرئاسات والمجد الباطل والمصالح الشخصية.
ولكن تبقى الكنيسة القبطية مستقيمة المظهر والجوهر منطلقة بثبات نحو الهدف الأسمى.

مجدى خليل
magdi.khalil@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف