زهْرُ الصَبّار 4: زمنٌ للأزقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1
لحظة إلتقاط صورته، الأولى، ما كان ثمة علامة شقاءٍ تنبي بما يعدّ لأقدار هذا الولد، المُضيف بضعة أشهر إلى عامه الأول، والمتكئ على برعم عمره، الطريّ، كما على يد والده، الخشنة. الصورة هذه، المأخوذة في " ستديو ملوحي "، المحتفي به مركز الشام القديمة، هيَ الأعتق في تأريخها لطفولة صبيّنا، وتشي بما إنتكست به هيئته، الأصل، من حال المذكر إلى حال المؤنث ؛ وهوَ المنقلب، المُحال إلى إخباتٍ يُفترض فيه صرف العين الشريرة. بيْدَ أنّ ما سبق لا علاقة له، على الأرجح، بتصاريف اخرى في حياة الطفل، ما كان أقلها تعاسة ً إختفاء أثر الأب لاحقاً، والذي دهمَ بيته الحالم ـ كما كابوس ٍ مُخلبَس. وعلى أيّ حال، فما أبه هذا اليوم، الربيعيّ، سوى بشهادة صبيحته على التأريخ المصوّر ذاك، كما على مضيّ الصبيّ، خلل ظهيرته، جهة الدكان الكائن على ناصية المدخل السفليّ للزقاق، والمتزلف ذوقه بسكاكر، سائغة. في إنحداره إذاً نحو ذلك المقصد، صحبة شقيقتيْه الكبيرتيْن، كان لا بدّ أن يعترضَ طريقه عارضُ السوء، الجاثم ثمة ـ كهَوْلة ؛ " عربيّة "، المرأة الكهلة، المبتلية بالثكل وزرقة العينين. في ذلك اليوم المعتدل من أواخر آذار، كان الصبيّ مكتس ٍ، كالمعتاد، ملبَس البنات الزاهي الألوان، والمُضافر بضفيرة واحدة، مقتصدة، ضامّة شعره الغامق اللون. خلل الأبواب والنوافذ المشرعة، إعتادت أيضاً إبتساماتُ جيراننا، النسوية، مرافقة سير هذا الولد الحلو، مما كانَ يجلب غبطة مرافقتيْه / التوأم المزعوم. على أنهما هناك، أمام العتبة المزدلفة جلسة العجوز تلك، سرعان ما إعتراهما التغيّر. إذ تحولت النظرات القلقة ناحية الشقيق، مشفوعة بهمزات لكتفه الدقيقة، في حثه على إسراع الخطى. حال إجتياز الأخوة للعتبة المحرّمة، همست أوسطهم ذات الشعر الأشقر، متنفسة الصعداء : " الحمد لله، لم تنده علينا هذه المرة ".
ـ " ولكنها حدجَتْ الولد بعينيها الزرقاوين، الشريرتين! "
بما أنّ هذا هوَ لونُ عينيّ الشقراء، أيضاً، فكان لا بدّ لها أن تفهمَ همزة الأخت الكبيرة. ولكنها كظمت ما تبَطن نفسها، مظهرة ً إهتماماً بأمر آخر، وما لبثت أن أجابتها بتشديدٍ على مخارج الحروف : " الحق على ماما. كان يجب أن تخفي ضفيرته قبل كل شيء ". ثمّ راحت، على الأثر، في تلويحة دائبة لضفيرتها الكثيفة، كيداً للشقيقة اللدودة.
2
اليوم المستهلّ فيه أيلول، والمطابق إتمامي عاماً آخر في الحياة، أسجى عليه حدثٌ آخر ؛ حدث، ما كنت وقتئذٍ، بطبيعة الحال، لأعرف كنهه : وحدة إندماجية، ربطت بلدنا ببلدٍ بعيد لا يعرف أهلونا بدورهم عنه شيئاً، خلا ما كانت ترفدهم بها الإذاعة وشاشة السينما. لا غروَ إذاً، أن يوم ميلادي ذاك، كان مؤتلقا بصدح موسيقا صاخبة، تتناهى عبرَ الأثير، مصحوبة بأغان حماسية. بدا يوماً، كأنما هوَ عيدٌ يؤشر بعلامة الفرح لعيديَ المفقود. من جهة اخرى، كنا وقتذاك على جهلنا، السعيد، ببدعة الفرنجة الموسومة بـ " عيد الميلاد "، اللهمّ إلا ما أشتبه بكونها عيد النصارى، المعلوم لدينا في الزقاق ؛ بما أنّ أحد بيوته الممهورة بختم الإيجار، إعتادَ الإحتفال به وبمشاركة جيرانه المسلمين، غالباً. على أنّ كل الفرح ذاك، الرسميّ، ما قدّرَ له أن يغشى حياة أسرتنا : توترٌ وقلق وضيق، راحَ يكتنف مسلك المنزل ويحيله منذئذٍ إلى غير طبيعته الهادئة. بعد أعوام طوال، دهشَ أبويّ بحق، لما تدخلتُ في حديثهما المتطرق للفترة تلك، المنعوتة في قاموس حارتنا بـ " زمن عبد الناصر ". أذكره يوماً، مبهم الملامح، قادني خلاله قريب ما، إلى مكان ما أشْغرَ فيه والدي عن أعين من كانوا يلاحقونه. رأيتنا على تخوم " البدوي " ؛ الخلاء الشاسع، الفاصل حيّنا عن قرية " القابون "، والمفروش بكروم الصبّار والتين والعنب والرمان، البريّة، المنذورة للحجاج القادمين من كل فج عميق، بغية التبرك بالمقام المقدّس، المركون ثمة. أستعيدُ بشكل خاص تلحفي فروة الأب، الدافئة، العبقة برائحته المميّزة، وذهاب بصري مشدوهاً إلى العم " حسن خسرف "، في قفزاته البهلوانية، وكلبه الضخم، فوق حبل مسنود بدعامتين من كل جانب. " مستحيل أن تتذكر ذلك، وعمرك وقتئذٍ ما كاد ليبلغ الثلاث سنين " : تؤكد الأمّ بيقين محال إلى شكها بما كنت أقصه. متفرساً بيَ بعينيه العميقتين، بدا أنّ أبي في موقف أقرب لتصديق روايتي. ولكن صديقه ذاك، الحميم، المعرَّف بالوسامة والشهامة معاً، ما كان بإمكانه عندئذٍ منحَ شهادته للرواية تلك، الأشبه بأضغاث حلم طفوليّ ؛ هوَ من كان قد قضى في ريعان العمر، إثر جنوح دراجته النارية في مهلكة إحدى دروب المدينة، العشوائية.
3
السالك إلى مقام " البدوي "، من جهة الحيّ، لا بدّ من مروره بمحاذاة مقام آخر، لا يقلّ رهبة وغموضاً ؛ وأعني به، تلك الهضبة المشرفة على الدرب، المشجرة بالصنوبر اليانع العبق والخالد الخضرة. ويبدو أنّ " قاسيون "، الأب الخالد، هوَ من أنجبَ إبنة السِفاح هذه، في زمن لا علاقة له بأزماننا البشريّة، متوّجاً بذلك علاقته، غير الشرعية، بالأمّ " الغوطة ". ثمة إذاً، على تخوم الهضبة، أين تلوح من بعيد أبنية " مشفى إبن النفيس "، ذات البياض الناصع، المسوّرة بجدران داكنة، عالية ؛ هناك، إرتفع بصر الصبيّ، ذي الأعوام الثلاثة المطابقة لهذا اليوم الخريفيّ، مشدوهاً بما يراه : تبدى له " الحاؤوظ " بجرمه الهائل، كغول مهول ؛ وليسَ بصفته الطبيعية، كحوض يرفد بمياهه العذبة تلك الأبنية الأنيقة، كما الثكنة وخيامها وبراكياتها، البائسة. على أنّ الجبل، في خلفية المشهد، كان أليفاً لعينيّ طفلنا، لدرجة إعتباره إياه حافة العالم ؛ عالمه الصغير، الذي ما كان يعرف غيره، والمحصور آنئذٍ ضمن أسوار السفح. عبثا كانت محاولته تمييز الرجال الغرباء، المجهولين والملغزين ـ كأبطال الحكايات الخرافية، المحفوظة في ذاكرته الطفلة بفضل وسع خيال شقيقه الكبير. هذه الذاكرة، وبعد مرور عقود وعقود، تصرّ على يقين المشهد، المغروس مثل شتلة في الركن الأكثر عتمة فيها ؛ المشهد، الخاطف ـ كبارق البرق، والمحتل كله من لدن شقيقه ذاك. كان " جينكو " يومئذٍ على موعد مع عصبته الصغيرة، في طقسها الدائب، المعتاد على الحضور للمكان الممنوع على أيّ كان ؛ عدا أولئك الغرباء، الغامضين. إعتادوا الإغارة بحجارة مقاليعهم ونقيفاتهم، المتطايرة نحو تلك الجهة، مما كان يبعث الحماسة في الأطفال الآخرين، الفضوليين، للمساهمة في طقس طيشهم. كان جنود الثكنة، المرابضة في تلك الهضبة، وجلهم من الغرباء المصريين، هم المستهدفون بالحجارة ؛ الجنود، من ذوي الألبسة الغريبة، وخصوصاً بناطيلهم القصيرة، الإنكليزية الطراز. " هرب العفريت من يدي، ذلك اليوم.. وحسناً فعل ! " : تعلق الأمّ على ذيل المشهد ذاته، مشددة أيضاً على ما كان من أوهام أهالي الحيّ، حيال هواء المكان ذاك، وأنه موبوءٌ بجراثيم السلّ، المجنحة ؛ بما أنه يضمّ المشفى المختصّ بمعالجة هذا المرض، المعتبر عضالاً في حينه.
4
طقس شقيقي الكبير، شبه اليوميّ ذاك، كان ترجيعاً طفولياً للجوّ المتجهّم، السائد وقتئذٍ في الحيّ. فكراهية الرئيس العتيد لجمهوريتنا العروبية، المتحدة، إنسحبت إلى هذا الحدّ أو ذاك إلى مواطنيه المصريين، المتوطنين هنا كعسكر أو موظفين ؛ كراهية، كانت محتدمة في نفوس أهلينا، وما فتئت مترسّبة ثمة، بالرغم من مضي السنين الطوال، حتى أنّهم إعتادوا القول بكل بساطة : " مثل خبز عبد الناصر ! " ـ كنعت للشيء السيء المادة والصنع. وما زلنا أيضاً نترجّع تلك الأسطورة، المتداولة في كل زمان، عن خطاب رائد القومية العربية هذا، الذي إفتتح به الحملة الحاقدة، المسعورة، على الحريات السياسية في بلدنا ؛ وتحديداً، ما زعم من بوحه فيه بجملة مدوّية : " حيّ الأكراد، هذا الحيّ الإنفصاليّ ! ". قدح الحقد ذاك، الموصوف، قدّر لوالدنا وبعد ملاحقة من المخبرين وأضرابهم، أن يحتسيه صبراً، وأن يبقى طعمه، المرّ، تحت لسانه أبداً : بيتاً بيتاُ، شهد الزقاقُ تلك المداهمة، الليلية، المستهدفة رجله الشيوعيّ، الأبرز ـ وفق تصنيف سجلات جهاز الأمن ؛ أو " المكتب الثاني "، كما كان منعوتاً زمنئذٍ. " سحلاً جرّوه على الطريق، من قدام باب منزلكم ونزولاَ حتى مكمن عربتهم، على مدخل الزقاق " : هذه الجملة، إعتدتُ في فترة مراهقتي سماعها على لسان وجيهة آل " كرّي عيشيْ ". لكأنما جارتنا، المحتسبة آنذاك بقلق علاقتي الحميمة بأحفاد رجلها، كانت تخاطب وعيي لمخاطر إنزلاقي في الطريق نفسه، والمتأثر خطى الأب. وإذاً مع غياب هذا الأخير، فراراً ثمّ سجناً، وجدَ شقيقي " جينكو " في الأزقة ملاذاً لحيويته المدهشة، كما ولروحه القلقة سواءً بسواء. بدوري، رأيتني في تلك السنّ، المبكرة، أغشى غموضَ أزقة الحيّ، العلوية والسفلية، بما كان من إقتفائي لأثرَ شقيقي، الأثير ؛ إقتفاء، دفعت ثمنه غالباً بالنهر والتعنيف : فعلاوة على حذره من إغضاب والدتنا، كان " جينكو " يشفق على برعم عمري، الهش، من تبعات غاراته، العاصفة ؛ أنا من كنت، فضلاً عن ذلك، " مموّهاً " ما فتئتُ بكسوة الأنوثة وبصفتي طفل العائلة، المدلل. ميزتي الأخيرة، كان من المنطقيّ أن تنهض كحائل بيننا ؛ خصوصاً وأنني إنتزعتها منه بعلامة ولادتي الذكورية، الأحدث عهداً. بيْدَ أنّ شقيقي، في غمرة مغامرات عمره، المبكرة، ما وجدَ على الأرجح وقتاً للعنعنات تلك، المألوفة بين الأخوة. وربما، إلى الأخير، ما كان رجل أسرتنا، الصغير، ليأبه بعد بأيّ كان، إثرَ فقدانه لشقيقة روحه : ربما شاءَ إستعادة ذكرياته مع " شيرين "، وعلى طريقته العنيفة ؛ حينما كانت حجارة طيشه، الصمّاء، تتطاير إلى أهدافها، الإعتباطية.
5
ـ " هاك َ ما فعله قردا شقيقكَ..! "
محتدّة بسخط، صارخ، تقول إمرأة العمّ، مشيرة لزجاج نافذة الحجرة العلوية، المهشم، بفعل غضبة الطفولة. كان رجلها، دأبه كل مرّة مساءً، ينصت إليها بغير قليل من المبالاة، مكتفياً على الأكثر بهزة من رأسه. ولكنه الآن، إذ عرف منها سبب هذه الواقعة، الجديدة، فإنه ما تردد عن قذفها بحجر آخر : " عفارم عليهما ! وأنت جديرة بما فعلاه بكِ ". ففي جلستها المعتادة، خلف نافذة حجرة النوم، الفارهة، كانت " مزيّن " في صباح البوم نفسه، تتابع ما يجري في الزقاق، حينما إنجال في فضائه جلبة الشقيقين. من عليتها هذه، ندهتْ لأولاد الجيران، ملوحة ً لهم بقطع السكاكر، المغلفة بالسيلون المقصّب : " هاكم ! ". ثمّ راحت على الأثر تتهاطل مكرمتها على أولئك الأطفال، المنعوتين بلقب جدّهم، " حج عبده ". بحدسها الغريزيّ، أدركت " شيرين " مرمى إمرأة عمّها، اللدودة، فلم تحرك ساكناً. إنما حركة شقيقها، بغتة ً، فوّتَ عليها إبتسامة ظفر مؤكدة : " وأنا أيضاً "، إرتفع صوت " جينكو " نحو النافذة الحريمية تلك، أينَ قبعت صاحبتها شبه متخفية عن الأنظار. هنا، حانت الفرصة التي إنتظرتها " مزيّن "، لإستنفاض ما سيعتمل من يأس في قسمات الشقيقين. فإنتهضت مباشرة ً بقامتها المكتنزة، الفارعة، وبهتافها الشامت : " لا، لن تحصل وأختك على شيء.. لأنكما بلا تربية ! ". وبالكاد تمكنت إمرأة العم من التواري، وقد شدهتها المفاجأة، لمّا طارَ على الأثر قنوط ُ الولد بحجر غضوب، مرتطماً بزجاج النافذة اللئيمة. إمرأة عمّنا، العتيّ، محضتهما إذاً شرّها المستطير ؛ شراً، ما كان آنذاك مفهوماً بحال لغضاضة عمريهما. تلك العدوانية تجاه الطفلين، كان لها على ما يبدو سبب وحيد، محال إلى حالة " مزيّن " النفسية المحبطة : يقينها الراسخ بحقيقة عقمها بعد سنوات عشر من الزواج، والذي حاوطه ما دهم مشاعرها من غيرةٍ شديدة، مبعثها تردد الأقاويل عن نية رجلها الإقتران بإمرأة اخرى. إلى الخالة الصغيرة، المقيمة لدينا بعيدَ وفاة الجدّ، إتجهت سهام غيرة " مزيّن "، الصمّاء، بعدما دخلَ في وهمها أنّ تلك الزيجة، المقترحة، هيَ في وارد خطط والدتنا. " رحمها الله، كم كانت تعسة بقلة عقلها ! "، تستطرد كلمة ُ الأمّ، معقبة ً على تلك الحادثة، الطريفة، الموغلة في الزمن ؛ زمن الصِبا، البائد، بمشاغله وإهتماماته.
6
في واقع الحال، فحجارة أخي، الطائشة، طالت كل شيء في مرماها كائناً ما كان. وإذ إعتُبرَ في هيكل زقاقنا، معبودَ لداته ومنذ سنه المبكرة تلك، فلا غروَ إذاً أن يقودهم في طريقه، القويم، إلى أزقةٍ اخرى، كيما ينثروا في أركانها أسئلة العمر الطريّ، القاسية. بما أنّ حارتنا و" حارة الكيكية "، المجاورة، تتصلان معاً عند مدخليهما العلويين، فكان من الطبيعي أن تجدَ خطى " جينكو "، التمهيدية، وجهتها المطلوبة. ثمة عامل أخر يتأول سابقه، ويتعلق بوجود حضانتيْ الأطفال ثمة، الرئيستين ؛ " الإسطمبولي " و " الديركي ". هذه الثانية، كانت الأقرب للزقاق، مما حتم على أمهاتنا إرسالنا إليها. وقتذاك، كان شائعاً أن يوجه الأهل أولادهم إلى الحضانة ؛ أو " الخجا "، بإسمها الأعجميّ، أو سمّها ما أردتَ ! أن يقتصر دوام حاضنة زمننا، الأول، على العطلة الصيفية غالباً، فلسبب وجيه على الأرجح ؛ ما دامت مهمتها مقتصرة على " ضبّ " الأطفال بعيداً عن منازلهم والأزقة المحتبية لهذه المنازل، على السواء. آنذاك، كان شقيقي في سنته الإبتدائية، الثانية، طالباً ذكياً ومشاكساً في آن، إحتار لصفتيه، المتنافرتين، أساتذته وأولي أمره. هيَ ذي عطلة الصيف، على كل حال، وقد أضحت على أبواب الأهل، فلا مكان للطفل المشاغب أفضل من أسوار الحضانة. ولكنّ " جينكو " سبق له أن طُردَ من " مدرسة الإسطمبولي "، جراء " فصوله " المعتادة. لم يقدّر لي مرة قط، حظوة الإنتساب لحاضنة الطفولة هذه، اللهمّ إلا ولوج فضولي، لمرتين أو أكثر، في فنائها الداخليّ بحجراته العديدة، الأنيقة. على أنني بالمقابل، كنت ثمة أمام بابها الكبير، الحديديّ المطروق، على موعد دائب مع خروج أخي، المنتظر، حينما كان هوَ بحق تلميذ المدرسة، الأكثر شهرة. هناك، شهدتُ بنفسي ما جرى في اليوم ذاته، المتعيّن فيه على تلميذنا حمل حقيبته القماشية والرحيل أبداً من حاضنة الأطفال الما عادت، للحقيقة أيضاً، تليق بسمعته ـ كأفاق ذي دبسة مهولة. " أريدُ نقودي، حالاً.. ! " : كان " جينكو " لحظتئذٍ يصرخ بالآنسة الشابة، التي حاولت تهدئته بالقول أنّ قسط الفصل الدراسيّ، ستسلم لاحقا لوالدته شخصياً. إختفت الفتاة، فيما ركلاته منهالة على الأثر بوجه باب المدرسة، الموصد بوجهه. هذا الباب، ما لبث أن أصدى عنه عويلٌ مدوّ، أجوفَ وعميقٌ في آن، إثر تهاطل حجارة المنجنيق المتبرطم غضباً. عبثاً كانت محاولة الأمّ بعدئذٍ إقناع " وصال ديركي " بقبوله في الحضانة، المعروفة بكنيتها. " ماذا تعنينَ بـ " صبي بالغ "، بالله عليكِ ؟ "، تتساءل والدتنا وهي تفرد يديها محتارة ً. كان شقيقنا، فيما مضى من العطل، زبوناً دائماً في هذه الحضانة، بكل مشاغباته وطرائفه. إلى ذلك، تفرّد مسلكه هنا بالوداعة، وبالذات في حضرة الآنسة وصال. كان مطيعاً وهيّاباً أمامها وبشكل لا يصدّق، حتى لما إعتادتْ الأمر بحبسه في أطلال المطبخ القديم. فبعدما يُصار إلى دهن وجهه ويديه بالمربى، كان شقيقي يمضي ردحاً من الوقت، يطول أو يقصر، في عتمة المكان ذاك المنعوت من قبل التلامذة بـ " حجرة الفئران "، وبدون أن تصدر عنه نأمة شكوى أو إحتجاج : هنا، في مكانه العتم الجاف هذا، لعله كان يستعيد مشهدَ ذلك اليوم الشتويّ، البعيد ؛ مشهد موت شقيقته الصغيرة، الذي هرب منه وقتئذٍ فرقاً ودهشة وحيرة.
إنه ثمة، على المنحدر المترب، المودي إلى مخرج زقاقنا. ليكن ما شاءه له الآخرون كباراً وصغاراً. ليكن " جنّوْ " ؛ قرين الجنّ، بحسب تحريف إسمه. ما يهم شقيقي، الآن، أن كل حاجز، صيفيّ، لحجب حيوية جسده وروحه، قد تلاشى. فلا تثريب عليه، إذاً، أن يمضيَ في مجاهل جهالته، وأن أتبعه بدوري ـ كتابع خفيّ.
للحكاية بقية..