انهيارالشيوعية في اوروبا الشرقية وانظمة الاستبداد العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تجارب اوروبا الشرقية في اعادة بناء الدول في مرحلة الانتقال من الديكتاتورية الى الديمقراطية بعد الاطاحة الدراماتيكية الشعبية الواسعة لانظمتها الشيوعية تشكل اهميةخاصة للدول العربية على خلفية الانهيارات العبثية للوضع العراقي بعد اسقاط الطاغية المشنوق وما تبعه من امساك قوى واحزاب الاسلام السياسي الشيعية و السنية للسلطة وتحولها الى عامل تهديم لاسس الدولة باعتمادها مفاهيم متخلفة و سلوكيات عنفية حتى مع بعضها البعض وتحويلها الدولة و مؤسساتها الى مراكز ميليشاوية وقلاع حزبية تجاوزت في بؤسها ماكانت عليه دوائر الدولة ابان العهد البعثي البائد.
لقد كان للانظمة الشيوعية في اوربا الشرقية الفضل في نشرثقافة نظام الحزب الواحد ذي الايديولوجيةالقائدة الذي لطخ بالوحل الحياة السياسية في المنطقة العربية التي استنسخته معظمها في فترات طويلة و مازال بعضها يقاوم للحفاظ عليه بالتوريث او باعتماد صيغ تجميلية لخداع النفس على الاقل لان العالم والشعوب لا يمكن خداعها في عصر الاتصالات والتكنولوجيا عابرة القارات و العولمة.
لقد روجت الانظمة الشيوعية للملكية العامة للاقتصاد ووضعتها في مصاف العدالة الانسانية من اجل تحقيق هدفها الاساسي في فرض وصاية احزابها المتفردة بالسلطة على الشعوب وتثبيت حكمها بادوات القمع والاجهزة الامنية السرية كما هو الان في كل الدول العربية التي كانت تدعى في فترة ما بالتقدمية.
لقد انهزمت هذة الانظمة قبل كل شئ من الداخل واطلق شرارة اضمحلالها الذاتي ميخائيل غورباتشوف بسياساته التي سميت انذاك الغلاسنوست و البريسترويكا التي قوضت الانظمة التي كانت تبدو قوية في الظاهر ولكنها في الجوهر كانت منخورة ومتداعية من الداخل.
لقد اقبلت الاحزاب الشيوعية في اوربا الشرقية على التجربة الديمقراطية وسارعت الى تبني
التعددية السياسية و الحزبية بل وقامت بتغيير اسمائها و انظمتها الداخلية بحيث الغت كل تلك المبادئ التي تربطها بالماركسية اللينينة و المفاهيم الشيوعية وتبنت مبادئ الاشتراكية الديمقراطية وحثت الخطى باتجاه منظومة الاشتراكية الدولية لنيل عضويتها بعد ان كانت تعتبرها حركة انشقاقية و انتهازية حرفت الفكر الاشتراكي.
لقد عاشت هذه الاحزاب فترة من الانكفاء و الضمور والعزلة في المجتمع ولكنها و بعد تغيير نهجها و افكارها و تبني فلسفة المجتمع المدني و التعددية السياسية و اقتصاد السوق الحرة بل وحتى اطلاقها لبرامج انتخابية ذات توجهات تنافس في يمينيتها الاحزاب الديمقراطية ذات النزعات الغربية وهو ما جعلها تنتعش مجددا وتستعيد توازنها السياسي وتتقدم للتنافس في الانتخابات النيابية و الرئاسية وتحقق انتصارات سياسية لم تكن تتوقعها او تحلم بها بعد اقل من ست سنوات على الاطاحة بها في حركات احتجاج جماهيرية عفوية.
وفي الواقع ان مرحلة سقوط الانظمة الشيوعية شهدت تغييرات جذرية في المجتمعات الشيوعية السابقة اذ ادى الانهيار المؤسساتي للانظمة الى اهتزازات امنية واجتماعيةفي السنوات الاولى للتغيير الىان تملأ مجموعات المافيا الفراغ الامني مستغلة مواقع الضعف في هيئات الدولة الامنية وبالتالي قيامها بارعاب الناس من خلال احكام قبضتها على مقدرات حياتهم بفرضها مفهوم(اقتصاد العصابات) ولكنها و مع تعزز هيبة الدولة و اعاة تشكيل مؤسساتها الامنية و الوطنية تراجعت بضغط المتغيرات الجديدة واخذت تستثمر ما حققته من اموال طائلة من عمليات سرقة ممتلكات الدولة وفرض الاتاوات مستفيدة من الفراغات القانونية وعمليات خصخصة القطاع العام العشوائية في الاقتصاد الوطني ورتبت وجودها ليكون شرعيا عبر هيئات مركزية و منظمات مهنية لرجال المال و الاعمال وامتلاكها بالتالي الادوات و الوسائل اللازمة للتأثير على العمليات السياسية في البلاد و تشكيل الحكومات وصياغة القرارات المصيرية.
ان موجات التحول من الديكتاتورية الى الديمقراطية في اوربا الشرقية و البلقان تقدم للعراق والعالم العربي ككل دروسا غنية يمكن الاستفادة منها لتجاوز ازمات و مشاكل ونزاعات محتملة ولمنع انهيارات كبيرة سياسية و اقتصادية و اجتماعية و امنية تفتت البنى الاجتماعية والاخلاقية في المجتمع. فهل النخب السياسية قادرة على استعياب هذه الدروس و العبر ليس لحماية نفسها فقط من الهلاك و انما اوطانها من الانهيارات و التفكك و شعوبها من الصراعات العرقية و الدينية و الطائفية و من حروب اهلية تحرق الاخضر قبل اليابس؟.
وهذه التجارب تقدم ايضا دروسا للاحزاب الحاكمة في البلدان العربية التي تنفرد بالسلطات كاملة او والتي تتبنى ايديولوجيات الحزب القائد وترفض التعددية السياسية وحرية الصحافة وتمنع قيام منظمات المجتمع المدني وتنتهك مبادئ حقوق الانسان و تعادي الاقليات او تلك التي تستعد للتوريث لان الاحزاب الشيوعية التي حكمت بلدان اوربا الشرقية عقودا طويلة فشلت في النهاية بالاحتفاظ بالحكم واهتزت مع اول انطلاقة شعبية عفوية غير مسلحة ضد الحكم الاستبدادي وانهارت بتأثير الملايين التي خرجت الى الشوارع طلبا للحرية والحياة الكريمة و لم تستطع اجهزة القمع التي انهارت هي الاخري في غضون اسابيع ان تحميها من غضبة الشعب وقررت اتخاذ موقف المتفرج مما يحدث بعد ان وجدت انها غير قادرة على اعتقال الملايين من المتظاهرين في الشوارع و الساحات.
واضطرت قيادات الاحزاب الشيوعية الحاكمة الى قبول الامر الواقع وعقدت موائد مستديرة مع زعماء الحركات الاحتجاجية اسفرت بعد اسابيع عن الغاء مبدأ الحزب الواحد القائد للسلطة من دساتير الدولة واجراء انتخابات نيابية ادت في النهاية الى وصول القوى الديمقراطية الوليدة الى السلطة و انكفائها لدراسة وتحليل اسباب انفلات الاوضاع من اياديها بالرغم من سيطرتها الحديدية على الدولة و مؤسساتها الامنية و العسكرية وتوصلها الى قناعات فعلية بضرورة قبول الواقع الجديد و الاعتراف بالهزيمة وجعلها منطلقا للتغيير الايجابي والتعامل المرن مع المتغيرات الداخلية و العالمية وهو ما اتاح لها ان تستعيد ما فقدته من مواقع في المجتمع وفي الحياة السياسية من خلال اللعبة الديمقراطية.
اكثر من اربع سنوات مرت على سقوط الطاغية صدام ولكن فلول البعث ما تزال ترفض الاعتراف بالواقع الجديد و تقاوم ضرورات الاندماج معه مصرة على مواصلة نهجها الدموي للاستفراد بالسلطة باعادة الماضي الذي لن يعود ابدا.
د. محمد خلف
صحافي و كاتب عراقي مقيم في صوفيا