اليسارية مجهولة الهويّـة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أسفت أسفاً بالغاً لأن السيد كريم هاشم قد بذل جهداً فكرياً مجهداً ومع ذلك لم يستطع أن يعلل إنهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي تعليلاً منطقياً ومقبولاً. ولئن كان عليّ أن أعزو ذلك لسبب ما فلا أعزوه إلاً إلى افتقاد السيد هاشم للروح الطبقية؛ إذ أنه حين فصّل مقاربات الإنهيار المختلفة أو المتباينة لم يولِ اعتباراً لطبقة الناظر إلى الإنهيار. والألفباء الماركسية التي لحسن الحظ ما زال كريم هاشم يعترف بها تقول أن النظرة الشخصية للحالة، وخاصة الحالة السياسية الإقتصادية، تتأثر بداية بالإرث الطبقي للناظر. والمواقف الثلاثة المتباينة بتصنيف هاشم إنما تباينت بفعل التباينات الطبقية للذين تبنوا مثل هذه المواقف. وعليه لا يمكن اعتبار تفسير اليسار (حيد) لانهيار الاتحاد السوفياتي الذي عبر عنه هاشم هو التفسير الصحيح دون التفسيرين الآخرين. فالناطق باسم حركة اليسار الديموقراطي لم يعيّن الأصول الطبقية لحركته كي بساعدنا في اعتبار وجهة نظرها في انهيار المشروع اللينيني. ولي أن أرجح بأنها أصلاً من شريحة المثقفين الذين هم دائماً وأبداً من طبقة البورجوازية الوضيعة حتى وإن انتمى أفرادها إلى الأحزاب الشيوعية.
أكثر ما تعاني منه الحركة الشيوعية اليوم ليس هو أن كل الذين يتنطحون لتفسير انهيار المشروع اللينيني هم في الغالب من مواليد الخمسينيات وما بعدها ولم يعيشوا فترة ظهور أول صدوع في بناء المشروع اللينيني، بل هو هروب الشيوعيين بصورة عامة من مواجهة مسؤولياتهم في انهيار المشروع اللينيني ومن ذلك تعليل الانهيار بغير تلك الحجة السمجة التي تقول بالبيروقراطية، فالنظام الذي تهدمه البيروقراطية ليس نظاماً على الإطلاق، ليس نظاماً تقوم عليه طبقة اجتماعية عريضة كالطبقة العاملة السوفياتية. أظن السيد هاشم من هذه الفئة الأولى وقد اعتبر أن الجمود العقائدي هو ما تسبب لما سماه الأزمة الشاملة للتجربة الإشتراكية، وهو ما يعني أن مختلف المبادئ والسياسات التي انطلق منها الحزب الشيوعي السوفياتي ببناء الإشتراكية في العام 1921 ظلت هي ذاتها حتى الإنهيار في العام 1991. لا يمكن الموافقة على مثل هذا المنطق خصوصاً وأن ثمة فئة أخرى تقول خلاف ما يقول هاشم، تقول بأن سبب الإنهيار هو الإنحراف. وهاشم لا ينكر "الصحة النسبية"، كما وصف، لهذا الإدعاء؛ وفي هذا اعتراف بأن ثمة انحرافاً وقع وهو ما من شأنه، ومهما كانت نسبته، أن يحرم هاشم كليّاً من حق الإدعاء بالجمود العقائدي إذ لا يتفق الجمود العقائدي مع أي تواجد لأي انحراف مهما كان بسيطاً نسبياً.
ما أستطيع أن أؤكده لحركة اليسار الديموقراطي أن وجهة نظرها حول أسباب انهيار المشروع اللينيني ليس لها أي نصيب من الصحة بل العكس تماماً هو الصحيح. لو كان أمر الجمود العقائدي هو الصحيح لما كنت قد صرخت بأعلى صوتي عام 1963 محذراً من أن أحد الذين من هم أوقح من خروشتشوف في ابتذال الماركسية اللينينية سيرتقي قمة السلطة السوفياتية في الثمانينيات، وأن الإتحاد السوفياتي سوف ينهار في العام 1990. أكدت هذا حين كان الاتحاد السوفياتي في أوج قوته في العام 1963 حين لم يكن للجمود أي أثر وخروشتشوف الذي يغير مبادئه كما يغير الحذاء في قمة سلطته والشيوعيون في العالم كله باستثناء الصين يصفقون له ويهللون به. بالطبع أنا لست نبياً ينبئ بالغيب لكنني ماركسي أمين للماركسية وفق القراءة اللينينية بالطبع. ما أنبأني بالغيب هو رائحة الغائط النتنة الذي تغوطه خروشتشوف على المبادئ الأساسية للماركسية اللينينية ـ الصراع الطبقي، دكتاتورية البروليتاريا، الوحدة العضوية للثورة في العالم الرأسمالي الإمبريالي.
من يتنطح لتقييم المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية ثم انهياره لابد وأن يكون مؤهلاً لذلك. عليه أن يكون ملمّاً بتاريخ المشروع وبكل تفاصيله والقرارات المصيرية المتعلقة بإعلاء صروحه. من المعيب تماماً أن يعتبر أحدهم أن سياسات الحزب في الأعوام 1957 ـ 1964 وما بعدها هي استمرار للسياسات فيما قبل 1956 والمؤتمر العام العشرين للحزب الشيوعي. كل من يتجاهل هذه الحقيقة يجب أن لا تؤخذ مقاربته لأزمة المشروع اللينيني بأي اعتبار. في المؤتمر العشرين وقف خروشتشوف وقد أصبح الأمين العام للحزب، وقف يدين كل السياسات الستالينية ويتعهد باتخاذ سياسات معاكسة وصفها بالديموقراطية. فكيف للسيد كريم هاشم إزاء مثل هذا التعهد الخطير أن يغض النظر ليقول أن الإنحراف لم يكن سبباً في انهيار المشروع اللينيني. هذا تعهد بانتهاج سياسة معادية للاشتراكية " الستالينية " بحجة معاداة الستالينية. السياسات الديموقراطية التي وعد بانتهاجها خروشتشوف رفضاً ل "دكتاتورية ستالين" أنتجت بعد بضعة أشهر فقط إنقلاباً عسكرياً بكل معنى الكلمة ضد الحزب قام به "الديموقراطي جداً" خروشتشوف ـ بالطبع السيد كريم هاشم لا يعلم بهذا الإنقلاب ولم يعره أي اعتبار. ـ في حزيران 1957 سحب المكتب السياسي للحزب الثقة من خروشتشوف وترتب عليه إذّاك الاستقالة كأمين عام للحزب وكرئيس للوزراء مثلما كان مالنكوف قد فعل عام 1954. بدلاً من الصدوع لأمر الحزب راح يتآمر مع الماريشال جوكوف الذي أمر سلاح الجو بإحضار أعضاء اللجنة المركزية للحزب من أرجاء الإتحاد السوفياتي خلال 24 ساعة متجاوزاً وجوب دعوة اللجنة المركزية من قبل المكتب السياسي فقط كما يقضي نظام الحزب. وفعلاً أحضر هؤلاء بالطيارات القتالية السريعة واجتمعت اللجنة المركزية في اليوم التالي خلافاً لمقتضيات النظام الداخلي للحزب وقررت إلغاء قرار المكتب السياسي، وهو قرار فريد ليس له نظير في تاريخ الأحزاب الشيوعية، بل وزادت على ذلك فقررت طرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي وهم مالنكوف، مولوتوف، فورشيلوف، بولغانين، كاغانوفتش وشبيلوف. كل هذا والسيد كريم هاشم يقول بأن سياسات البداية ظلت حتى النهاية في حالة جمود عقائدي. ـ بعد ثلاثة أشهر فقط قام خروتشوف بطرد الماريشال جوكوف وتجريده من كل وظائفه إذ خشي أن يعمل به ما عمل هو برفاقه الستة.
رب من يقول أن ارتداد خروشتشوف على رفاقه البلاشفة لا يعني انحرافاً سياسياً مثلما تشي كتابة كريم هاشم. إذاً لنتوقف أمام تنظيرات خروشتشوف في مؤتمر الحزب 59 ومؤتمر 61. ماذا قال فيهما، قال مستهجناً.. ما حاجتنا لدكتاتورية البروليتاريا؟ الحكومة اليوم هي "حكومة الشعب كله" !!.. ولماذا الصراع الطبقي؟ هل علينا أن يصارع بعضنا البعض الآخر؟ ـ كنت آنذاك أدين مثل هذه الهرطقات بقوة حيث أن ماركس كان قد أكد في نقده لبرنامج غوتا على أن يتم عبور مرحلة الإشتراكية في ظل دكتاتورية البروليتاريا قصراً، لكن لم يخطر ببالي أن رجلاً قضى في الحزب الشيوعي السوفياتي أربعين عاماً دون أن يقرأ صفحة واحدة من مؤلفات ماركس ولينين كما أكد ابنه سيرجي. في المؤتمر 59 شدد خروشتشوف على وجوب فصل ثورة التحرر الوطني عن الثورة الإشتراكية خلافاً للسياسة التي أرساها لينين عام 1920 وتأخذ بالوحدة العضوية بين الثورة الوطنية والثورة الاشتراكية وقد نادى.. " يا عمال العالم ويا شعوبه المضطهدة اتحدوا ". واعتماداً على سياسة خروشتشوف المعادية للينينية دعمت المخابرات السوفياتية إنقلاب بومدين على الماركسي بن بلاّ عام 1964 وانقلاب حافظ الأسد على رفاقه الماركسيين نور الدين الأتاسي ـ صلاح جديد عام 1970 وكتمت أنفاس الشعبين الجزائري والسوري وهو غاية المرتدين في موسكو من أجل إطفاء بؤر التوتر وملاقاة الإمبرياليين في منتصف الطريق كما نادى هو ويتيمه الأكبر بريجينيف. ومن سياسات الردّة على الثورة الإشتراكية وليس الإنحراف فقط هي سياسة خروشتشوف " الوفاق الدولي " و " إطفاء بؤر التوتر " و " الإنتقال السلمي إلى الإشتراكية ". كانت سياسة خروشتشوف تقضي بملاقاة الإمبريالية في منتصف الطريق!!
كيف لي أن أتجاهل كل هذا الإنحراف، بل قل الإرتداد على الماركسية اللينينية وأقبل بقول كريم هاشم وحركة اليسار الديموقراطي في أن الجمود العقائدي وليس الإنحراف هو سبب انهيار المشروع اللينيني؟! لكن هل يجوز اعتبار الإنحراف هو مظهر من مظاهر الأزمة الشاملة للمشروع؟ ـ نحن هنا نتنازل عن اعتبار الانحراف هو في الحقيقة ردّة وليس انحرافاً فقط.
القول بأن انحراف خروشتشوف إنما هو مظهر من مظاهر الأزمة الشاملة يعني أن المشروع اللينيني كان سينهار إن لم يكن بانحراف خروشتشوف فبغيره، وهذا ليس صحيحاً أبداً. لقد دخل مشروع لينين ومنذ البداية في أكتوبر 1917 تجارب في غاية الصعوبة وعبرها بنجاح يثير الدهشة. واجه جيش الثورة الوليد، الجيش الأحمر، كل قوى الشر في العالم 1918 ـ 1921 واستطاع أن يحمي الثورة ويطهر الأراضي السوفياتية من كل الجيوش الأجنبية المعادية. ودخل تجربة التنمية الصناعية والزراعية وحقق مستويات أثارت استغراب العالم. وقابلت جيوش الإتحاد السوفياتي جيوش النازية والفاشية المدعمة بكل الموارد المادية والبشرية للقارة الأوروبية واستطاعت وحدها أن تسحقها وتخلع النازية من جذورها في برلين. وفي إعادة إعمار ما هدمته الحرب وكان واسعاً بمختلف المقاييس حققت قصب السبق. فما الذي بعد كل هذا يبرر الإعتقاد بأن المشروع لا بد وأن يفشل في تجربة أخرى؟!! وما هي التجربة التي فشل فيها تحديداً؟ حركة اليسار الديموقراطي لا تمتلك الإجابة على مثل هذه الأسئلة.
في بداية الخمسينيات كان الإتحاد السوفياتي يوصف حتى من قبل العامة بحصن السلم والإشتراكية ولم يكن أحد يعترض على هذا التوصيف ويجرؤ على الزعم بأن الاتحاد السوفياتي ليس حصناً وأنه قابل للإنهيار. فما الذي جرى حتى أمكن حركة اليسار الديموقراطي أن تقول اليوم بالانهيار عدا الإنهيار نفسه؟ حركة اليسار الديموقراطي بلسان السيد كريم هاشم تقول لم يجرِ شيء، أي أن الإنهيار وقع بسبب الجمود العقائدي !! ـ يقولون هذا لأنهم لم يعلموا بكل التحريفات والهرطقات التي أتى بها خروشتشوف أو لم يقدروا آثارها وعليه يحظر عليهم الإدلاء بدلوهم في مسألة أزمة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي.
ما لا يجب أن يغيب عن أي بحث في انهيار المشروع اللينيني حقيقة أن إنتفاضة أكتوبر 1917 التي قام بها البلاشفة لم تكن ثورة اشتراكية كما جرى اعتبارها فيما بعد. الحقيقة هي أن انتفاضة البلاشفة جاءت بطلب من جماهير الشعب استكمالاً للثورة البورجوازية في شباط 1917 بعد أن تخاذل الاشتراكيون الثوريون بقيادة رئيس الحكومة كيرانسكي في تحقيق أي هدف من أهداف ثورة شياط. ما دفع بالانتفاضة إلى الخيار الاشتراكي هو مجمل الأحزاب البورجوازية والرجعية التي رفعت السلاح في وجه الشيوعيين الذين تمكنوا من القضاء على كل هذه الأحزاب. لدى انتهاء الحرب الأهلية وجد الشيوعيين أنفسهم وحيدين على المسرح السياسي الروسي فترتب عليهم أن يبدأوا بتطبيق الإشتراكية. في مثل هذه العملية القيصرية ولد المشروع اللينيني بالثورة الاشتراكية العالمية خاصة وأن كارل ماركس كان قد أشار في مقدمته لترجمة "البيان الشيوعي" إلى اللغة الروسية إلى إمكانية إنطلاق الثورة الاشتراكية العالمية من روسيا. لكل هذه الشروط ولدت نظرية لينين " الحلقة الأضعف " في سلسلة المراكز الإمبريالية التي هي روسيا القيصرية.
الحقيقة التاريخية هي أن المشروع اللينيني ولد بعيب خلقي يتمثل في أن 80% من قوى العمل الروسية تعمل في الزراعة فاقتضى بناء أول أسس الاشتراكية تحويل هذه النسبة الطاغية من الفلاحين إلى بروليتاريا ذات قدرات تقنية. لم يكن هذا ممكناً إلا عبر خلق طبقة وسطى عريضة تقوم بمثل هذه العملية الصعبة. صحيح أن حجم الطبقة العاملة تضاعف عشر مرات في الثلاثينيات لكن ذلك تحقق فقط عبر مضاعفة حجم الطبقة الوسطى بذات النسبة تقريباً خاصة وأن حجم الطبقة الوسطى في المجتمع الروسي قبل الثورة كان ضيقاً للغاية أو معدوماً. الطبقة الوسطى وبحكم الطبيعة البورجوازية لإنتاجها هي أكثر عداءً للشيوعية منها للرأسمالية. العثرات التي واجهها الحزب في الثلاثينيات كانت من صناعة الطبقة الوسطى غير أن الحزب وقد إزداد حجماً وصلابة لم تكن تعيقه حرونات الطبقة الوسطى دون أن يخفض سيفه السلطوي.
في نهاية العام 1945 بعد أن عاد ستالين من بوتسدام وقد هددت القنابل الذرية الأميركية يده العليا العسكرية حتى آنذاك قام بتأسيس مجمع الصناعات العسكرية بامتيازات غير محدودة، وقد برهن هذا المجمع على أن القبر الذي تم دفن الثورة الاشتراكية فيه. كيف لستالين أن يعطي الطبقة الوسطى قيادة عسكرية عليا في المجتمع الإشتراكي؟!! بناه ستالين ليقف قوياً بوجه الإمبريالية الأميركية غير أن المجمع لم يقف بوجه الإمبريالية الأميركية بل بوجه البروليتاريا السوفياتية وثورتها الاشتراكية. يظن العامة أن هذا المجمع دخل في سباق تسلح مع الولايات المتحدة إلا أن هذه الفكرة ليست خاطئة بمقدار ما هي مضللة. عاش المجمع على توتير الأجواء الدولية تبريراً لاستيلائه على معظم الكعكة الوطنية حتى جعل من العالم مكباً للنفايات من أسلحته التي صنعها من دم العمال السوفييت. استخدمت الطبقة الوسطى السوفياتية هذا المجمع الهائل كدبابة ضخمة سحقت الثورة والبروليتاريا السوفياتية. لم يخطر ببال ستالين أن المجمع سيتغلب على الحزب ويسلبه القرار في الشؤون الوطنية وذلك خطأ إقترفه ستالين غطّى على كل خدماته الجليلة.
وأخيراً يجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن مقاربة السيد كريم هاشم لم تتحرر من المثالية. ولذلك اعتراها الإرتباك في مسألة العلاقة الجدلية بين البناء التحتي والبناء الفوقي ثم المعلوم والمجهول، ولم يأخذ بالمثل القيّم الذي أورده وهو أن ماركس لم يحدد سيماء الاشتراكية. وفات السيد هاشم أن البناء التحتي هو حصراً أدوات الإنتاج وتفرعاتها، وأن كل الخيال الإنساني لا يتجاوز حدود تفعيل هذه الأدوات وتطويرها. القول بأن الإنسانية تتخيل المجتمع الذي ترغب فيه وتناضل لنقل مجتمعها إلى الصورة المتخيلة هو إيديولوجيا وصميم المثالية ولا أعتقد أن السيد هاشم يصنف نفسه كإيديولوجي.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01