نقد التعامل التقليدي مع الفلسفة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1-
يشعر البعض أن في التسهيلات التي قدمتها التقنية الحديثة من أجل العثور السريع على المعلومات أكبر برهان على انفراجٍ في جدار الجهل، وأن مجرد العثور على كم هائل من المعلومات بسرعة فائقة يعني انبجاس إنجاز معرفي؛ صحيح أن "المعلومة"هي مادة التفكير، غير أن امتلاك المعلومة وحدها لا تمنح الإنسان القدرة على التفكير، وبتفسير مادي يصف (جورج بوليتزر) التفكير بأنه "أداة عمل، وإذا كانت أصابعنا لا تعمل دائماً عملاً دقيقاً فكذلك الأمر بالنسبة لدماغنا، إن تطور الفكر كتطور العمل اليدوي نفسه" بمعنىً ما يصبح التفكير هو المختبر الذي يفحص المعلومة عبر اختبارها أو تمرينها، عبر اعتمادها أو تكذيبها.
يقول هيراقليطس: "كثرة المعلومات لا تعلم إنساناً حتى يتمتع بالذكاء أو العقل" إذ الوفرة المعلوماتية لا تمنح صاحبها مرونة التحليل والتفكير، وإذا كان التفكير يتطلب "تمريناً" بحسب بوليتزر ويتطلب حركة عقلية ودماغية دائمة فإن المعلومة الصرفة محتوى خام بحاجة إلى تشريح. هيراقليطس نفسه يقول: "إن معرفة الكثير من الأشياء لا تجعل الإنسان يمتلك الذكاء" فالفرق بين "المعرفة" وبين "آليات توظيف المعارف" لم يعد من الأسرار، فهو يصر على أن " غزارة المعرفة لا تعلم التفكير".
في عصر تصبح فيه المعلومة متاحة لكل متصفح للنت، وكل متسكع في القنوات الوثائقية والاكتشافية نحتاج بنفس مستوى الشغف المعرفي إلى "لحظات تمرين فكرية" نمارس عبرها النقد والنقاش للمعلومات التي نشأنا عليها، أو للمعلومات التي تطاردنا كل يوم؛ فمن المهم أن لا تصبح المعلومة "غاية" بقدر ما تصبح حقلاً إمكانياً للتفكير والنقد، وأن لا يتحول القارئ إلى أداة حفظ واستسلام. ومن إبداعات هيراقليطس أيضاً قوله "إن من عادة الأبله أن يُسرّ بكل كلام" والعصر الحديث ببحر معلوماته المتلاطم كشف عن السطحية المعرفية والتي يغرق في جوفها بعض السذج الذين يركضون بعد تلقي أي معلومة نشراً وانتشاءً ودفاعاً!
وإذا كانت العلوم تجيب على أسئلة الـ"كيف" فإن البحث في الـ"لماذا" من خاصيات التفكير الفلسفي وهو الذي يبحث في المعاني الكونية والذاتية من أجل إيجاد مقاربات حوارية وإنجازات سؤالية تحرض الكائن على الاستمرار في التفكير، وتنشيط موهبة التحليل، وفيلسوف التغير والحركة هيراقليطس يقول أيضاً: "لقد بحثت عن نفسي بنفسي" يضيف شارحه ثيوكاريس كيسيديس: "الوصول إلى الحقيقة ليس متاحاً إلا للروح التي تحترق ولا تنام أبداً للروح القلقة دائماً الباحثة عن المجهول".
في عصر انشطار كتلة المعلومات وانتشار البحوث والدراسات والتحقيقات، يصبح من اللازم الانتصار للتفكير في عصر المعلومة، بعد أن أصبحت الدرجات الأكاديمية العليا متاحة لمن هب ودب، وتحولت معه المعارف إلى وظائف؛ اختفى الحس التأملي، باتت البحوث الأكاديمية مجرد محتويات معلوماتية فقيرة فكرياً، هذا ما نلمسه للأسف في المباحث التي تغرق بالمعلومات وتئنّ من العقم الفكري والنقدي.إن التفكير بوصفه عمل الفلسفة لم يعد من الترف الاستعراضي بقدر ما أصبح من لوازم أي مشروع علمي أو بحثي.
إن المعلومات الفلسفية ليست هي الفلسفة فالفلسفة هي "شكل" الجهد الفكري الذي يوظّف المعلومات. وعلى حد تعبير هيغل في كتابه (فينومولوجيا الروح) "إن كل ما يقال عن الفلسفة في مقدمة ما من عرض موجز لمبادئها، أو توطئة للدخول عليها، لا يتمتع بأية قيمة فلسفية" بمعنى أن التصريف أو التوظيف هو الجهد الفلسفي الحقيقي بعيداً عن التكريس والتنميط؛ مهمة التفكير القصوى أن ينتصر لنفسه من اجتياح "التلقي المعلوماتي المريض"، ومهمة أي مجتهد معرفي/ أن يضع لنفسه فرصة زمانية ومكانية للتفكير بالمحتويات والمعلومات التي يجرها في رأسه، فالتأمل والتفكير بعمق في المعلومات التي يمتلكها هي مهمة المهمات في العصر الحديث، لم تعد الإشكالية في كيفية العثور على المعلومة بقدر ما أصبحت في كيفية توظيفها، خاصة ونحن نجد أن أصحاب مؤهلات علمية خادعة لا يستطيعون التمعن في المعلومات التي يمتلكونها، ولا يمتلكون آلة فكرية تمكنهم من اختبار المعلومات التي ينتشون بها. إن المعرفة بلا تفكير مثل التفكير بلا معرفة لا قيمة لأحدهما من دون القبض على الآخر.
2-
إن الفرق بين "المعلومة" وطريقة "توظيفها"، وتتميماً لتلك الفكرة فإنني أوسع الشرح في هذه المقالة، فإذا كان هيجل نفسه وفق النص الذي استشهدت به قبلاً لا يرى في الهذر الخارجي عن الفلسفة فلسفة، فإنني أدخل من خلال ذلك النص إلى التفريق بين المعلومة الفكرية وبين التوظيف الفكري بأنواعه، يدخل في التوظيف مجالات النقد بأنواعها بما فيها "الترجمة" إذ المعلومة الفكرية قد يتم تأويلها وترجمتها من جديد. فالمعلومات الفلسفية وحدها لا تجعل الإنسان فيلسوفاً، وإنما الذي يمكن الباحث من التفلسف العمل على إيجاد وسيلة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي لتخرج صيغة نظرية تحمل نفَس صاحبها الاجتهادي وجهده المعرفي، وهذا ما يميّز البحث الفلسفي الإبداعي، عن البحث الفلسفي "الأكاديمي" حيث تسكن البحث الإبداعي الروح القلقة المرتجفة بحثاً وشغفاً ومقارنةً.
بعض الدول العربية القريبة تدرّس المعلومات الفلسفية العامة التي ينتشي البعض بمعرفتها هنا -وذلك لجمود الحوار الفلسفي المحلي ولغياب الفلسفة عن أروقة التعليم كافة- غير أن تلك المعلومات التي تدرّس في المستويات الوسطى التعليمية لم تؤثر في تغيير المشهد الفكري العربي ولم تكن تلك المعلومات وحدها التي يحفظها الصغار في تونس ولبنان عن ظهر قلب فاتحة لعصر عربي فلسفي جديد لذا لم تعد المعلومة التي نفرح بامتلاكها هنا لافتة بل باتت من ضمن الاستهلاكات اللغوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، غير أن النشاط في التوظيف الفلسفي هو الذي يمكّن الباحث من اجتياز فخ المعلومات الكثيرة عبر عصرها وتحويلها من معلومة مدونة في مكانٍ ما إلى "مسار فهم نتج عن جهد شخصي" وهو ما ينادي به كبار الباحثين العرب الذين يطمحون إلى تجاوز الصخب الاستهلاكي الفلسفي خاصةً في وسائل إعلام البلدان التي لم تدخل الفلسفة أروقتها فيصبح كل من يتحدث عن الفلسفة فيلسوفاً وهنا مكمن الفرق.
لفت نظري نص هام للدكتور طه عبد الرحمن حيث يقول: (الفلسفة كما هو معروف ليست جملة معلومات محددة ينبغي أن نحفظها عن الغير حفظاً كما تُحفظ المعرفة العلمية، وإنما هي طريقة يتحقق بها الارتياض والاتساع في العقل؛ وما لم نحصل بغيتنا من هذا الارتياض الفكري والاتساع العقلي فيما ننقل عن الغير، فإن ضرر المنقول عن التفلسف يكون أكثر من نفعه، وأقل مظاهر هذا الضرر الجمود عليه، والشاهد على ذلك ما نحن فيه من حال التخبط الفكري والضيق العقلي التي لا نحسد عليها ولا نعرف الخروج منها؛ لذلك، ينبغي أن لا يقوّم التفلسف بما نحصله من المنقول تحصيلاً ولكن بما نحوله منه تحويلاً) (انظر ص 467 من كتابه فقه الفلسفة-ج1 الفلسفة والترجمة) حيث يرى طه عبد الرحمن أن الفلسفة لم تعد تبختراً بالمنقول وانتشاء به بقدر ما أصبحت أحد التحديات المعرفية الكبرى التي يجب على من انشغل في الفلسفة أن يبحث في مدى إمكانية تحويل المعلومات المجردة إلى وسائل لتطوير التفكير الفلسفي نفسه وإلا أصبح الحديث عن الفلسفة من اللغو الفردي الذي لا يُظهر الجهد الشخصي المعرفي.
حينما يطالع القارئ النظريات بشموخ بنائها، ويدرس المقولات والنصوص بإبداع سبكها ويأخذ سير الفلاسفة بجلدهم وجهدهم النادر تأخذه العاطفة نحو "الاستسلام" ومن ثم الاتباع والانقياد لمقولات أو لنظريات أو لمذاهب، حين يستسلم القارئ إلى تلك المرحلة المعرفية الابتدائية يفقد أهم خاصية من خصائص المتفلسف الذي يرحل باستمرار داخل قارة الفلسفة بحثاً عن أصداء السؤال في قلب أو في أطراف تلك الأرض (بحسب جيل دلوز) ويُفقد الفلسفة جوهرها، ذلك أن الفلسفة ليست كتلة من المقولات بقدر ما هي شكل "الفعل العقلي السؤالي" (بحسب هيدغر) الذي يفرق دوماً بين "الفلسفة/ والفلسفات".
إن أي جهد فلسفي لا بد أن يحشد باستشهادات ومقولات وأن يدعم ببراهين مستمدة من نظريات غير أن العنصر الإبداعي يظهر في إمكانيات الباحث الإيداعية ومدى قدرته الذهنية على ترويض تلك المعلومات وتوظيفها بطريقة تشرح مدى الرياضة الفكرية التي بذلها الباحث حتى وصل إلى استنتاجات معينة، أو حتى إلى صياغة جديدة أو إلى تساؤل وانتقاد مثير، فالمعلومة الفلسفية هي المادة الخام التي تتيح للباحث العمل على بروزتها وتنظيمها أو إعادة قولبتها وتشذيبها، ذلك هو الإبداع الأوّلي. خطوة الإبداع الأولى أن تصل إلى مرحلة الاستقلال المعرفي المدروس حتى من أكبر الفلاسفة وأسمى النظريات وأن تتخلص من داء الغرور والانتشاء بمعلومات عرجاء يحفظها الصغار في البلدان المجاورة.
فهد بن سليمان الشقيران
كاتب سعودي.
shoqiran@gmail.com
التعليقات
nice article
coriolanus -Very nice article
الكيف
هيثم -لقد وقعت بما تنتقده ،مجرد تكرار لفكرة واحدة طوال المقالة، أعطنا أمثلة لتطبيق اللماذا على المواضيع
الفلسفة والابتكار
د.عبدالجبار العبيدي -من الصحيح جدا،ان عصر التقنيات المتقدمة وفرة المعلومة للباحث بجهد اقل مما كان عليه الزمن السابق لعصر الكومبيوتر والانترنبت،لكن التكنلوجية بنفس الوقت اساءت للباحث ان ينجز بحثا دون عناء اومراجعة فكرية جادة.لذا فأن الموسوعيين في الحضارة الغربية قد ننبهوا الى ذلك الخطر حين قال الفيلسوف دالامبير(ان كل شيءفي الكون يجري حسب قوانين محددةوان الكشف عن تللك القوانين لايمكن ان يتم الا بنقلة وجهد فكري كبير،ان قوانين العلوم الطبيعية مدركة احيانا لكنها مجهولة في العلوم الانسانية ومنها الفلسفة ثم تلاه هلفيسيوس1771صاحب كتاب اثر الفكر الذي انكر فيه الغيبيات وقال ان كل شيء يجب ان يأتي عن طريق العقل وجهد التفكير،لذا صحيح ما يدعيه الباحث ان المعلومة الفلسفية ليست هي الفلسفة،بل هب بداية الوصول الى الابداع الفلسفي,مقالة رائعة تستحق المتابعة.