أصداء

مربّعات بيروت

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

غصّت الطائرة التي أقلتني من فرانكفورت قاصدة بيروت بالأطفال وأمهاتهم المحجبات بكل الألوان الزاهية الممكنة للأقمشة التي تلف الرأس وتحجب الشعرحصراَ، تاركة للناظر حرية التمعن في تقاسيم "وجوههن" بماكياجها الصباحي الكثيف! الأطفال يتحركون بعصابية مبالغ فيها، يصرخون، يتدافعون، ويتحدثون بلهجة "انفجارية" لا تعدهها عادة في تفاصيل لغة الطفولة وسلامها المفترض. وحين حاولت إحدى الأمهات التهدئة من انفعالات طفلها، داهمته بهذه العبارة: " انظر إلى هذا المضيف، سيقوم برميك خارج الطائرة إذا لم تتوقف عن الصراخ"!

صدمني مشهد العنف اللفظي هذا، ولم أتخيل أن يمتدّ هذا التشنّج الكلامي المتداول بين أفراد العائلة الواحدة، انطلاقا من الجو، وصولا إلى البرّ اللبناني الذي لم أزره منذ عشر سنوات.

بيروت الذاكرة - محفل الحرير البريّ، امتداد البحر في سديم الروح، المناورة على فصول الشهوة، واعتناق الحريات المبتكرة لم تكن حاضرة. بيروت بدت لي مجرد مربّعات أمنية تسدّ عليك منافذ الحركة والتنقل بين الحارات الضيقة، ومربعات أخرى طائفية ترسم خطا حدّيا بين من يكشفن عن رؤوسهن من السافرات ومن يغطيّنها من المحجّبات؛ وقد أضحى الحجاب وحده ما يحدد الهوية السياسية للأحياء البيروتية الموتورة أصلا بانقسامها على نفسها.

مشهد الملاّلات التي تحرس مداخل الأبنية السكنية يرهق الشاطئ البيروتي، ويجعل فكرة استقبال الصباح حالة متعثرة تتأرجح بين الرعب والاستسلام. المؤسسات الإعلامية لم يستثنها المشهد، بحيث غدا الوصول إلى بعضها أشبه بسباق اجتياز الحواجز، لكن العسكرية منها.
حالة من التشنّج تعتري المناخ العام، والعنف اللفظي الذي تحول- وهو الأخطر- إلى عادة في التخاطب، هو أشبه بظاهرة تستشري على كل المستويات ابتداء بأفراد العائلة، خروجا إلى الشارع، ووصولا إلى الطبقة السياسية. وكان هناك اعتراف رسمي من وزير الدولة نسيب لحود بتلك الظاهرة حين صرّح إن "هناك عنف كلامي مرافق للخطاب السياسي وهو غير مقبول. فمن الطبيعي أن يكون اختلاف في الآراء السياسية، إلا أن هناك رقياً ومستوىً رفيعاً من التخاطب، نأمل أن يعود مجدداً إلى الساحة السياسية".
لا ريب أن هذا الشكل من أشكال العنف المتعدد الوجوه والتجليات، إنما هو ناتج حتمي لحالة التجييش العقائدي والطائفي الذي يسيطر على البلد ويحيل أية رغبة في التعايش التعددي الذي عرفته بيروت الذاكرة إلى هباء منثورا. الكل يدور في فلك الطائفة وأهوائها وشرطها أيضا. وأي خروج عن عرف الطائفة هو انتهاك وطني بامتياز!
في أحد مقاهي جونية الشعبية المتاخمة للرمل والبحر جلسنا ندخن الأرجيلة. كان الليل عباءة من مخمل تلف المكان وقمر شوال يعلن اليوم الأول للعيد الذي انقسم طائفيا إلى عيدين، فقد احتفلت الطائفة السنية في اليوم الأول من عيدها يوم الثلاثاء أما الشيعية فقررت أن الأول من أيام العيد هو الأربعاء. الماء يتدافع نحو الشاطئ المرصوف بحجارة ملساء والدخان المنطلق من صديقتي الأقرب - الأرجيلة يحيل المكان إلى خريطة يرسم خطوطها المتعرّجة عبق رائحة معسّل التفاحتين.. هدية العيدين! لم يرجّ صفو المشهد إلا ذلك الطفل الذي كان يساعد والده النادل في تنضيد الجمر على رأس الأرجيلة. أذهلني مشهد طفل لا يتجاوز العاشرة من العمر يعمل في ساعة متأخرة من الليل إلى جانب والده الذي كان يرمي بين الفينة والأخرى بعبارات التوبيخ لابنه والتي وصلت إلى تهديده بالقتل إذا لم يحسن التقاط الجمر من الحامل إلى الرأس. صحت به غيظا حين قال له:" بذبحك إذا وقع الجمر من الملقط"! وأنّبته بما تيسر لي من غضب اللحظة على مخاطبة ابنه بهذا العنف علاوة على اصطحابه ليلا إلى العمل، فعمل الأطفال أصلا تحظره الأعراف الأخلاقية والقانونية.
علاوة على المربعات الأمنية هناك المربعات الدعوية والتي هي حواجز نقالة تنتشر يوم الجمعة في موعد صلاة الظهر تحديدا حيث تقطع بعض الشوارع أمام المساجد لاحتشاد المصلين الذين يغصّ بهم المسجد فيلجؤون إلى قطع الطريق مقابل المسجد لتأدية الصلاة ومتابعة خطبة الجمعة التي لا تخلو من العبارات العنفية تماشيا مع المناخ العام السائد. وعلى مقربة من مسجد جماعة الأحباش انتشرت لافتات معلقة بتوقيع جماعة تدعو نفسها بالجماعة الإسلامية تعرف الجمّال على أنه "حشمة الجسد"! داهمتني فور قراءة هذه العبارة أسئلة حول حشمة الجسد، وهل تقتصر على جسد المرأة حصرا؟ وماذا عن حشمة البصر لدى الرجل، ألا تغنينا حشمته عن حجب المرأة من رأسها حتى أخمص قدميها؟ وماذا عن جمال اللغة، أليس في العصمة من الذم والشتيمة والاقصاء والعزل حشمة أيضا؟ وأين موقع الكلام العنفي المتداول بكثافة في المدينة من مزاولة الاعتدال والرحمة الذي حض عليهما الدين الإسلامي الحنيف قبل أن يتحلل طوائفا ومملا وجماعات؟
هذا التجييش الطائفي تعززه مقولة الأمن الذاتي الأكثر تداولا وتطبيقا الآن، والذي ببساطة يشرّع حمل السلاح الفردي بحجة الدفاع عن النفس في حال غياب الأمن العام، أو تقاعسه، أو قلة حيلته في دفع الأذى عن مواطنيه، في أضعف الإيمان. وقد اختارت بيروت أن تودعي بمشهد درامي يحقق عملانيا تلك المقولة. ففي حي الفيردان العريق جلست إلى صديقي الذي لم أره منذ 19 عاما الروائي رشيد الضعيف نتحدث جدلية الغياب والحضور في الكلمة والمكان، وفجأة اندلع في المقهى شجار عنيف بين مجموعتين من الشباب سرعان ما تحوّل إلى اشتباك شبه مسلح استعملت فيه أدواة حديدية مثل المفكّ الانكليزي وكراسي المقهى الألمنيوم، ما اضطرنا إلى المغادرة على عجل عندما تأخرت قوات الأمن عن الحضور لتفريق المتشاجرين! واختفى صديقي "الضعيف" في وداع متشنّج، سريع، وخَجِل!
أصابني الخزي والذهول معا، ها هو العنف الكلامي يتحوّل سريعا إلى عنف جسدي قد يشعل حيا بأكمله لو كان الطرفان المتنازعان ينتميان إلى طائفتين متنازعتين منذ ما ينيف على الألف عام. خزي لانتهاك حلاوة المجلس مع صديقي، وذهول من كمّ الحقد المتراكم في النفوس والجاهز للانفجار، بكل ما يحيطه، في أية لحظة.
للمرة الأولى أغادر بيروت مكسورة دون أن أكتب بحرها وجبلها وهواءها شعرا. القصيدة الوحيدة التي صادفتني هناك هي تلك الضحكة المستمرة التي كان يطلقها حفيد لعائلتي لا يتجاوز من العمرالستة أشهر، ضحكة كانت ترسم خطا متخيَّلا لمستقبل هؤلاء الأطفال شبه المجهول في بقعة من العالم تغلي وجاراتها في مرجل "ملوك الطوائف" حيث الطغاة كانوا دائما سبب الغزاة!

مرح البقاعي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
وحياتك وحياة المحبة
سارة -

مقالة حلوة كتير ،صحيتي المواجع متل ما بيقولوا بس هالمواجع ما بتنام الحقيقة... بتنام وتصحى معنا وعلى ايامنا تفسد ما تبقى من الود ما بيننا... مش بقولكم ما في احلى نرجع ولاد زغار ، لا حقد ولا كره ولا تعصب اعمى.. ما اجمل هالمقولة ‘‘ الدين لله والوطن للجميع ‘‘

أزهى العصور
المعلم الثاني -

لا يشك بأن أزهى أيام شهدتها لبنان كانت عندما رضيت (طوائف) لبنان بزعامة الموارنة فأصبحت بيروت عاصمة للشرق في كل المجالات...لم يخرب لبنان إلا دعاوي التهييج الناصرية التي أتت بشبه حرب أهلية أولى في الخمسينيات هدأت فترة ثم تبعتها مصيبة اتفاقية القاهرة و فرض المسلحين دولة داخل دولة الفلسطينيون مع أهل اليسار أولا ثم ملالي حزب اللات!.....أقسم أنني لست مارونيا لكن الحق أحق أن يتبع

آه عليك يا لـبـنـان!
Don QUICHOTTE -

هذه الفوضى الانكشارية, وهذه التحزبات الخنفشارية والتكتلات العشائرية والعائلية, وغياب كل المثل القومية والوطنية, واسستبدالها بسياسات طائفية بحتة, هي الأسباب الرئيسية المباشرة لانحلال ما يسمى الدولة اللبنانية!!! بالإضافة إلى انتساب جميع المسؤوليين السياسيين في هذا البلد إلى قوى دولية عربية وإيرانية وغربية, أخذت هذا البلد كقاعدة استراتيجية لنزاعاتها ومصالحها وتجاربها الاستراتيجية المتضاربة.طالما لا يستيقظ اللبنانيون بكاملهم, دون أي تحزب طائفي أو عشائري,نافضين عن أكتافهم الزعامات كل الزعامات التقليدية القديمة, سوف يستمر هذا البلد ـ مع مزيد الأسف ـ باتجاه انحداري فنائي سلبي, نحو تفجره ونهاية وجوده الدولي والقانوني, وذلك رغم وعود الدول الغربية, وخاصة أمريكا, بحماية كيانه الهش ووجوده الغير مضمون.

nice
bekai zakaria -

very nice article, i like it Marah, i hope 4 u the best in life

بعيدا عن المؤامرة
محمود حواس -

أستاذة مرح، بصراحة مقالة معبرة ومؤثرة أحيي فيها روحك ومشاعرك وقلبك الواسعوأويد فكرتك التنويرية من أن الطغاة يمهدون للغزاة صح نعم هذا هو السر في تحولا ومتناقضات المنطقة بعيدا عن نظرية المؤامرة رغم ان التريخ هو تاريخ المؤامرات. شكرا

دهشة في رأس بيروت
جهاد -

نعم مرح هي حياة مدهشة داخل مجتمع لبناني في عناوينه، ولكنه يخفي في كل شارع وزقاق حكايات مؤلمة لشعب تائه بين حزمة الشعارات البراقة، والممارسة التحزبية المذهبية على ارض الواقع. بيروت ما زالت تنزف جراحها ولا ملح سيداوي نزيفها.صحيح أن الحرية موجودة، ولكن حرية تستثمرها كل فئة وفق مزاجها.لقد فعلها الطغاة من وراء الحدود ، وكرسوها خلال ثلاثة عقود من الاحتلال البعثي الأمني للبنان، ودجنوا وروضوا الكثيرين في لبنان، وليتحول لبنان إلى اقطاعات وعشائر ومشايخ ، والقتل والصراعات أشبه بلعبة صغيرة ملونة بالدم، وخلال لحظات تباس اللحى وتتصافح الأيدي بين الشيوخ والجنرالات، وليبقى المواطن صامتا في وجعه وتائه في جغرافيات الوطن المقسم.ملوك الطوائف يتحدثون عن الديمقراطية، ولكن الخبز والخدمات والأمان والسلم الأهلي والاجتماعي ضروريات في حلم لبنان. بيروت لوحة حية تحمل على جلدها كل شيء، ومن يكتشف جرحها يبدأ بالغناء والأناشيد الجنائزية والبكائيات المسافرة.مؤلم لكم تعاني بيروت وناسها، واعتقد أن لبنان سيكون حرا جميلا حين يختفي الطغاة وملوك الطوائف المدثرين في عباءاتهم المزركشة، في مربعاتهم الكرتونية التي لا تختفي عن لبنان في زمن الحرب وزمن السلم. لنصلي لبيروت السلامة والآمان .

تـأيـيـد وتـحـيـات
غريب الحاج صـابـر -

اؤيد كليا السيدة مرح البقاعي على مقالها الجيد كما أحي السيد جهاد على تعليقه وخاصة المعلق على واقعية كلماته وصحتها. لبنان في خطر, لأن تمزقه الطائفي وأماراته العائلية والطائفية سوف تؤدي في السنين القادمة إلى زواله, إذا لم تستيقظ أجياله الجديدة والشابة ضد هذه الأنظمة الطائفية التي تمزقه وضد التدخلات الخارجية التي تدير وتمول وتغذي شخصياته السياسية التي تتوالى عليه عشائريا وعائليا من سنين سوداء طويلة.

ليه عصبيين؟
عمرو عادل -

انا طول الوقت كنت بفكر زى ما انتى كاتبة احنا ليه عصبيين جدا وبنزعق طول الوقت حتى اطفالنا عصبيين جدا وبيعطوا طول الوفت عكس لما تكونى عايشة فى امريكا او اوربا نادر جدا لما تلاقى الحياة الانفعالية المجنونة اللى بنعيشها فى الشرق

سـلام إلـى لـبـنـان
نـادر الـعـبـاس -

لــبــنــان, يا من كنت نبع الحضارة والإبـداع والفنون والتسامح وجـسـر الانفتاح على العالم كله. يا أرض كل طالب لمنفذ حرية وملجأ الهاربين من كل طـاغـيـة. أصبحت اليوم جورة الجور, وعتمة العتمة, ومرتعا لكل سباة الأرض المرتزقة. كنت النعيم الأخضر وبلد الحب والجمال والنضوج والذكاء والحلم والأمل... واليوم أصبحت الأرض الموحلة التي يدوسها غزاة الداخل والخارج. كنت بلد الطمأنينة والأخوة والـتآخـي. واليوم أنت بلد العصابات ومحترفي القنبلة والتعصب والتحزب الطائفي الممزق والمفرق والمفجر والمشتت. آه عليك يا لبنان.. كما قال أحد المعلقين قبلي. آه عليك وبحر من الدموع وبراكين حسرات وآهات. أية لـعـنـة حلت بك حتى تدوسك حوافر تيمورلنك وجنكيز خان من جديد, ومن كانوا جيرانك وإخوانك وأولاد عمك, ومن انتفخوا على موائدك ألف مرة. قـم واصرخ حتى يستيقظ شعبك النائم. أنت واحد. أنت واحد ولو استنكر رؤساء عصابات التفرقة وتجار الحارات والمخدرات. أنت واحد يا لبنان وما من بـائـع دين ولا حزب ولا تاجر وعظات يمكنه أن يتحكم بمصيرك ويأمر بـمـوتــك!!! أنت واحد يا لبنان.. وأنت ككل. وحدك البطل الخالد...

عمرو عادل
خالد المصرى -

اتفق مع الأخ عمرو عادل فى تفكيره وبالفعل كنت ولا زلت أتسائل لماذا أطفال الغربيين أهدأ وأقل ازعاجا ؟؟ أعتقد ثقافة المجتمع هى السبب الرئيسى

عنف
أبوفيروز -

العنففي أغنياتنا لنوم الأطفال أيضاً.وفي أبعد من ذلك ...