أصداء

مجتمع الثورة الصناعية ومجتمعات الشرق الأوسط المحافظة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لا ريب في أن واحدة من أهم مزايا دراسة التاريخ، التاريخ الكوني خاصة، تتمثل في إيجاد أنماط تكرار patterns of recurrence تعود للظهور من حقبة لأخرى أمام المجتمعات، فتكون ملاحظة هذه الأنماط من سمات الحكماء الذين يلاحظونها في سياق محاولتهم لتتبع هذه الأنماط أو المتوازيات التاريخية parallelisms كي يستثمروا خبرات المجتمعات والحقب الأخرى على سبيل خدمة مجتمعاتهم وحقبهم. هذه الحال تنطبق، بدقة مثيرة على ملاحظة وجود أنماط تكرار أو حالات توازي بين ما يجري اليوم في المجتمعات التقليدية عبر الشرق الأوسط، من ناحية، وبين المجتمع البريطاني في عصر الثورة الصناعية (القرن التاسع عشر)، إذ تعيش مجتمعاتنا حالة انتقال تاريخي، هي في جوهرها، حالة انتقال من أنماط علاقات وبنى القرون الوسطى إلى أنماط العلاقات الجديدة التي أفرزها العصر الحديث، خاصة بعد الاحتكاك والتلاقح الثقافي مع العالم الغربي.

وبقدر تعلق الأمر بالحركة الديمقراطية وتوسيع دوائر الانتخابات في المجتمعات الشرقية، فإن للمرء أن يرتد إلى عصر الثورة الصناعية أعلاه لاستخراج ما يفيد من دروس، ولتجنب ما يضر من حالات سلبية، خاصة وأن التاريخ هو في جوهره "رسالة تعليمية" A Letter of Instructio.

وللمرء أن يستذكر، في سياق مثل هذا، أن عصر الثورة الصناعية في بريطانيا لم يكن ليحدث لولا عدد من الأعمدة الفكرية الفلسفية التي أرستها أعظم العقول الذكية آنذاك لتمهيد الطريق أمام الحريات والليبرالية، ومنها حركة الاقتصاد الحر laissez-faire ونظرية تقسيم العمل Division of Labor اللتان مهدتا الطريق لانتقال الفكر الحر من الاقتصاد ومن حدود العرض والطلب (بمنأى عن تدخل الحكومة) إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ توّج فيلسوف القرن التاسع عشر "جو ستيوارت مل" Mill هذه الحركة الليبرالية بكتابه الكلاسيكي الفذ، On Liberty، (في الحرية) الذي خدم كأداة لتفجير طاقات المجتمع من خلال زج قدرات الفقراء والطبقات الوسطى في عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي، تلك العملية التي كانت حكراً على الارستقراطية the aristocracy التي راح دورها يتلاشى بعد فقدان بريقها الذي كانت تتمتع به عبر القرون الوسطى أو العصر المظلم، خاصة وأن تحالفها مع الكنيسة، من ناحية، ومع التاج، من الناحية الثانية، كان هو الأساس الذي بنيت عليه حالة الإستكانة والركود الاجتماعي التي تواصلت عبر أوربا حتى حدوث ثورتين عظيمتين، هما: (1) الثورة الفرنسية، (2) الثورة الصناعية (بريطانيا).

لقد بدا مل، مؤلف كتاب (في الحرية) رسولاً مبشراً بالعصر الجديد إذ أنه قد بشّر بأخلاقيات وبنى اجتماعية جديدة، الأمر الذي فتح الطريق أمام الطبقات الفقيرة والوسطى للتمتع بحريات اجتماعية وسياسية، قد لا ترقى إلى ما كانت تتمتع به الارستقراطية، ولكنها كانت حريات أسهمت في تفجير طاقات أوسع الفئات الاجتماعية نحو بناء أول مجتمع صناعي في تاريخ العالم.

لقد كان جون ستيوارت مل، فعلاً، أشبه بـ"المعلم" الأول الذي هيأ الأطر الاجتماعية والسياسية الواسعة لاستيعاب حركة المجتمع البريطاني حقبة ذاك نحو الديمقراطية، بعد تفكيك الأطر الوسيطة medieval التي تواصلت منذ القرون الوسطى حتى ظهور الماكنة التي بشرت ببداية عصر الصناعة.

إن أهم الاعتراضات التي قدمتها القوى الرجوعية لمقاومة المد الليبرالي الذي بشر به رجال من أمثال مل آنذاك، كانت تتجسد في الاعتراض بأن الحرية الزائدة أو غير المقيدة يمكن أن تتسبب بالفوضى وبالكثير من السلبيات، الأمر الذي يفسر ظهور واحد من أعظم كتابات العصر، على سبيل مقاومة التحرر الزائد الذي بشر به "مل". كان هذا هو كتاب "ماثيو آرنولد" Matthew Arnold الموسوم بـ(الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy الذي حمل العديد من الآراء والأفكار التي تستعملها الفئات الرجوعية المقاومة للتغيير وللحريات وللديمقراطية في الشرق الأوسط اليوم لمقاومة تقدم الحريات ولإرجاع مجتمعاتنا نحو عصور الظلام نصف الإقطاعية ونصف الخرافية المسكونة بالغيبيات التي أبقتها حبيسة في ظلمة الماضي الطللي، غير قادرة على قطع نصف المسافة الفاصلة بينها وبين الرغبة في مواكبة العصر الحديث، إذ تجد بعض هذه المجتمعات نفسها غير قادرة على إيجاد موطئ قدم لها في عصر جديد وأجواء جديدة لم تخبرها من ذي قبل.

كاتب وباحث أكاديمي عراقي

معهد كيتو، مصباح الحرية، 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

مشروع مصباح الحرية www.misbahalhurriyya.org

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الشرق شرق ، لماذا
رمضان عيسى -

قال أحد المفكرين الشرق شرق والغرب غرب وهذا يعني أن الغرب تطور باٍنتظام بأن خرج من العصور الوسطى وحل مشكلتة مع الكنيسة مدفوعا بالتطور الاقتصادي والعلمي وفلسفة التنويروتخلص من الاٍقطاع وسيطرة الكنيسة الى أن وصل الى الديمقراطية والحرية الاٍقتصادية والدولة المدنية ، أما الشرق فكان اٍحتكاكه بالحضارة مرتبطا بمرحلة الاٍستعمار وارتدى شكل الصراع التحرري الوطني ، وكثير من الحركات الوطنية ارتدت الشكل الدينى فنظرت شعوب الشرق الى الحضارة بعدائية بشكل اجمالي وبقيت على هذا الحال الى يومنا هذا ، حتى الشعوب التى نالت اٍستقلالهاسيطرت عليها فى أغلبها ديكتاتوريات عسكرية أخرجتها من الطريق السليم للحضارة فأضلت الشعوب طريقها نحو التطور الاٍجتماعي والفكري والسياسي فظلت متقوقعة فى شرنقتها لايعنيها ما يحدث في الخارج ، لهذا فالشعوب الشرقية لاتؤمن بالجديد بسرعة بل ببطء شديد وبعد أن تمر بتجارب دامية وطويلة زمنيا ، ومما زاد الوضع سوءا حدوث مشكلة فلسطين وعدم سرعة اٍيجاد حل سريع لها حيث تعاظم التعاطف الدينى ووصل الى درجة التطرف والتقوقع والتمسك بالشرقية مقابل الغربية ، ولا ننسى مشكلة أفغانستان ووقوف الغرب مع الاٍسلاميين ضد الاتحاد السوفياتي ،ثم انقلبوا ضد من ساعدوهم انطلا قا من مفاهيم اصولية .