بحثاً عن جذور السواد

كارثة، بحثاً عن جذور السواد

1-
تمرّ لحظة ثم تذهب لتأتي لحظة أخرى غامضة، ثم تزنّ بَوْحها وتمضي. لحظات كثيرة، لحظات أكثر من حزن عميق متجعّد خامل، لا ينضب، لا يفتأ يرسل إشعاعه السلبي، منتجاً قوىً هزيلة، ينخر في عظامنا الشابة، يحكّ -بحدّة-جدران عروقنا، ليجعّد جباهنا الوضيئة قبل أوانها، إنه الحزن الدفين، إنه "جرح المعنى". أن تركض اللحظات داخل كيس عمرك، ترهقه كِبَراً وتجعّداً، أن تسوق اللحظات مواكب الأحداث، أن يغطي الزمن مكر "الصُّدَف" يأتي المباغت، يأتي "الحدَث"، يحمل ذلك الموكب المشؤوم كل كل الأحداث والآلام، إنه الغموض النازف الذي يكبّ أحزاننا التي لا تعلّل لينكأ جرح الوجود. منذ أن وضع أوّل إنسانٍ يده على خدّه ثم بكى، وهو يئنّ حزناً وغموضاً ويحفر في جوف "المعنى" إنها الغاية، إنها الـ"هناك" الشيء البعيد الناتئ المنفصل الذي يحنّ إليه الوجدان كما يحنّ الرسغ إلى العظم. هناك لحظة واحدة سوداء مسمومة إنها اللحظة التي تأتي ثم لا تلد لحظةً أخرى، إنها اللحظة التي تسوقك إلى الانطفاء إنها لحظة "الموت".

2-
عِرْق الزمن المتدفق غموضاً يشلّ شكل "الفِعْل" تغدو الخطوات كسولة هزيلة غير مبالية، خطوات كثيرة ومتتابعة لا تعتني بمداها ؛ إلى أيّ أرضٍ تقود. إنها خطوات سريعة ومتنوّعة وعالية الحركة لكنها إلى يباب. ينتج تدفق الزمن كسل الفعل الوجودي الغائي، ليؤسس للعبث الكبير. إن الزمن المتوالد عبر تسيير مواكب اللحظات. الزمن الذي لا يكلّ من إرسال رموز العبث. إن سمّ العبث كامن مع كُريّات الزمن السوداء. أن تبحث عن عرقٍ آخر داخل كتلة بشرية غير العِرْق الأخضر أن تبحث عن شكل الزمن داخل العِرْق، لكنّ الزمن لا ينكشف إلا عبر تجاعيد الجسد، أو عبر تسلسل الأحداث. وكل حدثٍ ينتج تاريخه، يكوّن صلابة تأريخ غير مترابط أو مدروس، تاريخ متفجّر يتشظّى عبر شقوق الزمن. يتسلل الحدث الصدفوي منتجاً عبثيته بين انتظام سيْر اللحظات. إنه يستغْفلُ البُرهة الافتراضية الذهنيّة التي تفصل بين اللحظة والأخرى، ليخربط اللحظات، ليفكّ ارتباطها، ليؤسس لانتظامٍ عبثي دُسّ في سير الزمن. هناك حيث الشقوق والنتوءات المهُملة تكمن مشكلة الزمن ومن ثمّ مشكلة الانتظام ومن ثمّ إشكالية المعنى على نحوٍ أكمل وأشمل. إنها الرضوض التي تحدثها الأحداث المستترة المستغلّة للفجوة الزمانية الإفتراضية بين اللحظة وأُخْتِها. العبث يسكن الفجوات، يرنّ موسيقاه الصاخبة العابثة عبر غفلَة تسللت بين انتظام لحظتين.
3-
هناك حيث الفراغ، حيث الركض الناجز، حيث التحرّك السريع نحو المجهول، نحو صناعة مسيرةٍ أخرى لأحداثٍ يستبطنها الزمن: يتخلّق فعل التحرّك، إن فعْل التحرّك يجسّد الخوف الكينوني من "شبح الزمن" إنه الركض خوفاً من سلطة الزمن، من سطوة المكان المتزمّن الملتصق باحتواءِ أحداثٍ جافّةٍ مفاجئة مُرهقة للعقل عصيّة على التفسير.
ما العقارب الراكضة المصوّتة داخل دائرة الساعة؟
صوت هذه العقارب التي تعزفها الساعة، صوت ركض هذا العقرب وهو يهرب من خطٍ إلى آخر من ثانيةٍ إلى أخرى، صوتٌ مهول، إنه صوت الزمن. صوت يرسم مساراتنا الغامضة، داخل صوت الزمن تُنسج التجاعيد على جباهنا المحبطة، صوت الزمن يصبغ البياض على أهداب عيوننا اليائسة، يرسم الوجع على منابع ابتساماتنا المنطفئة، إنه الدمّل الذي يكسر قهقهات الفرح ويجفّف منابع الأمل. نحن نقلّد العقارب نتحرّك نهرب. نتلهّى بالحركة نركض باتجاهٍ عكسي نحو الزمن. ندقّ طبلة الوجد والأمل في طرقات الغموض والتعثر، ونحن نسير باتجاهاتٍ متعاكسة، ننتظر ذلك الفجر البعيد، الفجر المحجوب الذي لن يأتي. فالزمان كتلاتٍ لحظية وحدَثيّة متفجّرة والفجر ليس حدَثاً إنه الحلم البعيد الذي لا يأتي، إنه لعبة الطفل وخيال الأمّ النائية عن ابنها، وأمل الشاب الراكض على أرصفة الحياة، ودمية الفتاة الحالمة على سرير الوجع. إن الفجر البعيد لا يأتي به الزمن، إنه ليس حدثاً.. ليس شيئاً.. ليس زمناً.. إنه مجرّد هيكل نرسمه كالحلم بطيننا الرطب، إن الفجر مجرد اسم دوّن على أوراق التقويم.

فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com