أصداء

عقل الجائزة: البوكر مثلاً.. حرائق الثقافة وروائح البلاد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الرواية العربية خارطة أخرى للنشر والتقييم

الضجّة الصاخبة التي أثارتها جائزة البوكر للرواية العربية العام الماضي لم ترافق، من قبل، أيّة جائزة عربية في الشعر والرواية على السّواء. إذ لم يسبق للعرب أن نجحوا في اختراع جائزةٍ مُقنعة تفلح في اجتذاب الشروط المُحققة للنجاح، شرط الاستقلال عن المؤسسة السياسية الرثّة يتقدّم دائماً، وهو الدافع الأهم لتوفّر الشروط الأخرى، شرط الكفاءة، مثلاً، على صعيد لجنة التحكيم، وتالياً، ربما، شرط النزاهة. جائزة صدام، جائزة مُبارك، ومثلها الجوائز التقديرية الممنوحة في غير بلدٍ عربي عن وزارة الثقافة، هذه الجوائز حملت، دائماً، رائحة غير طيّبة يمكن لأيّ أنفٍ لم تغرّه النيران المُشتعلة عن شمّ رائحة الجسد المُتفحّم في الأقبية المُظلمة والسجون المُتّسعة، باستمرار، في الجغرافيا الواقعية لبلاد العرب. حرائق الثقافة صيغة أخرى لا أظنّ أن أحداً من المُتأنّقين، قد فكّر بها، وهو يصعدُ، مع آخرين، إلى المنصّة ليُعلن اسم الفائز بجائزة الثقافة في أيّة بلادٍ عربية. الراحل "يوسف إدريس"، مثلاً، كان أول من حصل على جائزة صدام للآداب. حضر إلى بغداد نهاية الثمانينيات وسط حفاوة ملحوظة من السلطة، آنذاك، مُمثّلةً بالحرس القديم من رجالات وزارة الثقافة. أشكّ أن "إدريس"، وهو القاص المحترف ذو السمعة الطيّبة، قد فكّر بأحدٍ آخر غير المتجمهرين حوله. هكذا قال لشابٍّ ناحل انتحى به جانباً وعاتبه على مجيئه إلى بلادٍ تحترق رويداً رويداً، مُخبراً إيّاه أن هناك رائحةً أخرى تختلف عن العطور التي ضجّت بها القاعة التي شهدت فوزه بالجائزة، وأُناساً آخرين لا تتلاءم مؤخّراتهم مع المقاعد الوثيرة في قاعة الحفل. آخرون إلتقاهم "إدريس" فيما بعد على عُجالةٍ من أمره وأمرهم؛ فقد ذهب هو إلى بلاده، فيما ذهب أولئك الشباب إلى جهنّمٍ حمراء لم يعشها "إدريس"، ربما يكون قد سمع بها وكتب عنها، جهنّمٌ تتسع لكل الأسماء والصيغ: الحرب، القمع ومن قبلهما المنفى والقائمة باتّساع. المؤكّد أن "إدريس" الذي هزّ رأسه، وهو يقول "لم أكن أعرف!!"، كان قد نسي الوجوه الصفراء، ترك قصصهم عن القمع والحروب الباذخة والموت المجاني الموزّع بعدالة نادرة على الجميع وغادر، حمل حقيبته المُعبّأة بقيمة الجائزة (ثلاثون ألف دولار) وأبقى لنا الرائحة النتنة.


"لم أكن أعرف!!" صيغة بالغة الإيجاز تختصر المسافة الشاسعة بين قيمة الجائزة ورائحتها. أغلب الظن أن هذه الصيغة تحضر، دائماً، في مُخيّلة المُثقّف العربي وهو يتسلّم جائزته في بلدانٍ احترفت القمع. هكذا يبدو أرشيف الثقافة عندنا مُمتلئ بقصص مُتشابهة، قصّة "فتحي غانم"، مثلاً لا تختلف كثيراً عن قصة "يوسف إدريس" سوى أن الأول رضي أن تُنتزع الجائزة من العراقي المرموق "فؤاد التكرلي". كان "غانم" صديقاً شخصياً لصدام. قصة أخرى مُشبعة برائحة نتنة أسرف لاحقاً "يوسف القعيد" بسردها، وأكملها، دون قصد، "عبد الإله أحمد" العضو الثاني في لجنة التحكيم، آنذاك، بعد سقوط صدام والبعث.


ولكن ما الجائزة، وما قيمتها؟! سؤال يقفز الفائزون عن شقّه الأول لبداهته، فيما تتعدد إجاباتهم عن الشق الثاني. وفي طليعتها أن الجائزة تتضمن تكريماً للفائز، بل واعترافاً صريحاً به كأديب مُكرّس في مجاله. صاحب "النمور في يومها العاشر" قال يوماً إن الجوائز تأتي في غير محلّها. وهو يقصد أن الحاصلين عليها هم الشيوخ من الأدباء. وبعبارة أقرب إلى الواقع، أنه يتحدّث عن المال المُرافق للجائزة. هو بيت القصيد، وهو، كذلك، قيمة التكريم. ولا بأس طالما أنه سُنّة الثقافة وجوائزها في العالم أجمع، الشعوب المتحضّرة قبل المتخلّفة تأخذ بها، لنتذكّر "نوبل" الأرقى عالمياً فرقاً عن أُخريات، منها جائزةٌ تُمنح في الغرب لأسوأ نص أدبي تبلغ قيمتها عشرون ألف دولار "تُعادل قيمة جائزة الشعر في القاهرة!!". إذن للمال قيمة استثنائية في أيّة جائزة عربية أو عالمية. وإن اقتربنا أكثر من واقع الجوائز العربية، نكون إزاء حقيقة بسيطة يعرفها الجميع، تقول إن حجم الجائزة يُقاسُ، غالباً، بمقدار المال الممنوح "تبدو جائزة نجيب محفوظ للرواية استثناءً فريداً يستحقُّ الثناء!!". ويزيد من أهمية المال وحضوره في الجوائز العربية الواقع الاقتصادي الرّث للمُثقّف العربي، هو بحاجة دائمة إلى نوعٍ آخر من الرعاية، بدأتها الدولة القومية في عهد "عبد الناصر" وهي الآن بيد المؤسسات الخاصة كما كتب "محمد بدوي". المال الذي شتمه ذات يوم الراحل الكبير "السيّاب" بصيغة لافتة "المال شيطان المدينة"، ربما يكون المحور الأهم والمسكوت عنه، أيضاً، في مُجمل الصراعات الصاخبة بين المُثقّفين العرب. مال الجائزة ليس غيره هو ما يُغري الفائزين بالمديح، ويُثير في الخاسرين شهيّة الشتم. لا توجد صيغة ثالثة، فإما أن تكون فائزاً أو أن تكون خاسراً، ثنائية تحكم الداخلين في دائرة الجائزة، وربما من في الخارج منها كذلك، وتُنسيهم، إلى حين، معايير أُخرى لا بُدّ منها في أيّةِ جائزة، نخصُّ منها معيارين شغلا النقاشات الثقافية الكبرى في العالم العربي حُقباً مُتتالية، الأول أخلاقي والآخر ثقافي. الغريب أن المعيارين يتحكّم بهما، في العميق البعيد، مال الجائزة، حقاً أنهما يظهران بصيغتين مختلفتين، لكنهما، في النهاية، يرتدّان إلى أصلٍ واحد، فمن يملك المال هو الذي يُسمّي أخلاقيات التحكيم، تاركاً للجنة إمكانيات شتّى للإجابة عن السؤال المُلغز: لمن نعطي الجائزة، أو ببساطة مُحيّرة، من يستحق الجائزة؟!


"البوكر"... وهي أرفع جائزة عربية للرواية "لماذا لا نُسمّي الأشياء بأسمائها ونقول إن البوكر هي الجائزة الأغلى على صعيد الرواية!!". هذه الجائزة أرادت فضّ الاشتباك المُدمّر بين إرث "الجائزة" الأخلاقي، ربما، و"معايير" ها المُرتبكة في العالم العربي، بأن هربت إلى الأمام، فقد تخلّصت، بلباقة لافتة، من تعلّق الجائزة عندنا بالدولة - السلطة، والأخيرة لا تمتلك أيّة شرعية سوى منطق القوة والعُنف. حدث هذا عندما تركت تمويل الجائزة إلى مؤسسة أهلية خاصة تُعنى بشؤون الثقافة، وهي مؤسسة الإمارات. إذن... الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح، تحرير فكرة "الجائزة" عندنا من هيمنة "الدولة - السلطة" وانحيازها المُعلن ضدّ من يُعاديها ومُناصرة من يؤيّدها. حقّاً إنها تظلُّ خطوة أولى في طريق وعر وطويل ولا بُدّ أن تلحقها، بالضرورة، خطوات عديدة، تنتهي باجتراح مؤسسات ثقافية راسخة لا تكون خطاً خلفياً للدولة مثلما هو حال الثقافة ومؤسساتها في الغرب. وفي هذا الصدد نُلاحظ أن خطوة مؤسسة الإمارات ليست جديدة كليّاً، فقد سبقتها مؤسسات خليجية أخرى. لكن الجديد، بل المأثرة التي تُحسب لهذه المؤسسة، أنها ربطت جائزتها باسم ثقافي عالمي طارت شهرته بعيداً حتى وصلت إلينا أخيراً، وهو جائزة "البوكر" البريطانية العريقة في الرواية، وعمدت إلى اعتماد شروط النُسخة البريطانية من الجائزة، وأهمها أن تتولّى دور النشر وحدها مهمّة الترشيح لنيل الجائزة. وهي خطوة أخرى بالاتجاه السليم أيضاً. ولندع، هنا، خُزعبلات يحلو لبعض مُثقّفينا أن يُردّدها من حينٍ لآخر كأن يصف "البوكر" العربية بأنها "استعمار ثقافي" لمجرّد أن اثنين، أو ثلاثة، من أُمناء الجائزة هم من الأجانب البريطانيين. ولا أدري لماذا نحنُ مُعقّدون من تقييم الأجنبي لنا، وتالياً، لأدبنا، ثمّ أليست الرواية، وهي مادة الجائزة، وليدة المُخيّلة الأوربية، ألم نفشل، قرناً كاملاً، في اختراع جائزةٍ تواكب بآليّاتها ما حققته الرواية العربية من إنجازاتٍ لاقت استحسان العقل الأوربي الاستشراقي؟!


نعم... هي خطوة في الاتجاه الأسلم، يُعزّزها اعتراف الأجنبي "الأوربي غالباً" بترسّخ ظاهرة الرواية عندنا ونُضجها، ومن ثمّ، ازدهارها بدليل موافقته، بل وتبرُّعه باسم أهم جائزة عالمية في الرواية بعد "نوبل"، وإن كانت الأخيرة غير مُختصّة بالرواية فرقاً عن الأولى. وفي الحقيقة إن البوكر للرواية العربية تستحقُّ نقاشاً أكثر جديّة يقفزُ بعيداً عن ترّهاتٍ من قبيل أن رئيس لجنة التحكيم المانحة للجائزة، بطبعتها الأولى، لا يظهر للملأ بصيغة رسمية، فهو يرتدي الحذاء الرياضي مثلاً. والأحرى أن نُجادل في المسؤولية الأخلاقية - الثقافية المُلقاة، حتماً، على عاتق لجنة التحكيم، وبضمنها، طبعاً، المُجادلة على أهليّة الرئيس، ليس لناحية مظهره الصادم، أو لأنه مسيحي، أو كونه غير أكاديمي كما كتب "خالد الحروب" مُدافعاً، إنما أن نُجادل، وهو الأهم، في أهليّته ككاتب رواية لم نقرأ له سوى واحدة، وكناقد لها مُتمرّس في دراستها، وهو أمرٌ لا يدّعيه الرئيس وليس ضمن اهتماماته، على الأقل نحن لم نقرأ له كتابةً في إطار نقد أو مراجعة الرواية. من المؤسف أن أموراً كهذه، غالباً، ما أُحيطت بسياجٍ صلد من الخصومات الشخصية المُضيّعة لجوهر القضية، وهي أن هذه اللجنة تُشرف على أهمّ جائزة للرواية العربية، وأن من مهام عملها، بل من واجبها، أن تقول للعالم إن القائمة القصيرة تتضمّن أفضل ما كُتب ونُشر من نصوص الرواية العربية في الأعوام الثلاثة الماضية (الدورة الأولى)، والنصوص الأفضل هذا العام وكلّ عام إن استمرّت الجائزة، وأن الفائز بالبوكر هو، بالضرورة، أفضل روائي عربي. فهل فكرت لجنة التحكيم بهذا الأمر؟! لا أدري، لكني أزعم أن مسألة الأفضلية، على الأقل إعلامياً، هي أمرٌ حاصلٌ لا محالة؛ لأن فكرة الجائزة تقوم، بالأساس، على فرضيّة المسح الواسع لنصوص الرواية العربية.

"البوكر"، بهذا الوصف، خارطة أخرى للرواية العربية تتولّى رسمها جهتان: دور النشر، ولجنة التحكيم، فيما لا دور للكاتب غير أن يجلس في بيته وينتظر معرفة موقعه على الخارطة المُفترضة. هذه هي الحقيقة ولا شيء سواها، إن البوكر تُعيد رسم الخوارط وتحديد المواقع! حقيقة صادمة ولا شكّ، ولكنها، ويا للمفارقة، حقيقة معروفة وربما لأجلها أُثيرت الضجّة. لنتأمّل الآن واقع هذه الخارطة، أو بأدق، مساهمة دور النشر في رسمها. أغلب الروائيين العرب أبدوا امتعاضهم من احتكار دور النشر للترشّح إلى الجائزة. هو حق شخصي للكاتب أن يعترض طالما أن مصائر رواياته قد أصبحت بيد الناشر صاحب الحق الوحيد في اختيار النصوص للتنافس على الجائزة. ولكن في الاعتراض جانباً آخر يسكت عنه حتى كتّاب الرواية أنفسهم، نجده في تخوّفهم المشروع من استبداد "الناشر" العربي بحق النشر، ولاحقاً، حق الترشيح للجائزة، جاعلاً من الكاتب، وهو المُنتج الحقيقي للرواية، لعبةً تتقاذفها أهواء "ناشرٍ" مشكوكٍ بانتمائه الأصيل للمهنة. والنتيجة ستكون، حتماً، خسارة الرواية التي وُجِدت الجائزة، أصلاً، للاحتفاء بمُنجزها، وضياع قيمة الجائزة.


"الناشر" مصطلح عربي حديث لم يجد طريقه إلى الاستعمال في عصور ازدهار التأليف عندنا، والغالب فيه أنه ترجمةٌ لكلمة "Publisher" الإنكليزية. ومثلما يحدث عندنا غالباً عندما نستورد "بضاعةً" من الغرب، فقد أفرغنا الكلمة من سياقها الثقافي - المعرفي، وعدنا بها إلى "الأصل" فيما استعمل العرب من اصطلاحاتٍ دالّة، الأشهر فيها كلمة "الناسخ". ورغم أن الكلمتين تُظهران تنافراً واضحاً في الدلالة اللغوية ما بين "النشر" و"النسخ"، فإنهما يُحيلان، ويا للعجب، إلى أصلٍ واحد لم تُغيّره "الطباعة" كما لم تمسّه بشيء التغييرات الثقافية الكبرى في القرن العشرين، إن "الناسخ" ومثله وريثهُ "الناشر" ليس سوى بائعٍ آخر للكتاب. خلطة لا أعجب منها تشتبك فيها الأدوار وتضيع في معمعتها أصول المهنة ما بين "مكتبةٍ" غائبة و"ناشرٍ" يعتقد أن عليه أن يتقمّص دور الغائب. والمُحصّلة أن أصبح لدينا "ناشر" يجلس في "دُكّانـ"ـه وينتظر من يشتري منه الكتاب. هكذا ضاعت "المهنة" وتبدّد معها دور "الناشر" كصانع للثقافة. وهو الأصل في نشر الكتاب وتداوله بين الناس. في الغرب الذي استوردنا منه مظاهر "المهنة" مات دور "الرقيب" السياسي، وربما الأخلاقي، ولقد خاضت مجتمعاته معارك دامية لهدم الأسوار وطمر التابوات. قصة نعرف تفاصيلها أكثر من الغرب نفسه، وهي، بالتأكيد، لا تتلاءم مع قصصنا الكبيرة منها أو الصغيرة على السواء... ولا بأس، لا بأس أن نتذكّر أن حكايات الغرب المُسلّية في ليالينا التعيسة قد صنعها، أو بعبارةٍ أكثر لياقة، قد شذّبها الناشر الرقيب لتبدو عندنا في مُنتهى الجمال والتماسك. تلك حقيقة لم نُدركها بعد، نحن المهووسون بحريةٍ لم نعش أدنى تفاصيلها: حقيقة ناشر الكتب عندما يكون الرقيب الوحيد على ما يصدر عنه من كتب. مُفارقة أخرى لم نعهدها من قبل، أن تؤدي الرقابة دوراً مهماً في صناعة الثقافة!! نتحدّث عن "الناشر" كمساهم جدّي في إنتاج النص الأدبي بدرجةٍ رئيسة، والنصوص الأخرى أيضاً عبر وظيفةٍ أهملتها، بتعسّفٍ مُفرط، دور النشر العربية قاطبةً، يُسمّيها البعضُ عندنا بوظيفة "المُراجع الأدبي" ترجمةً للكلمة الإنكليزية "Editor". وهي ترجمة غير دقيقة لوظيفة غير موجودة، مُطلقاً، في الثقافة العربية، وبالأخص في أعراف ودهاليز نشر الكتاب عربياً. هذه الوظيفة أدّت في الغرب دوراً عظيماً يحمده دائماً أغلب الأُدباء والكُتّاب هناك. أمرٌ كهذا لم يدر في خلد أي كاتب رواية عربي، أن يتولّى "موظّف" مغمور، لم يُعرف عنه امتهان "حرفة الأدب"، تصحيح وتشذيب نصّه الأدبي، وقد ينتهي الأمر برفض النص جملةً وتفصيلاً. هي سابقة خطيرة، أغلب الظن أن الأدباء العرب سيتّفقون، يميناً ويساراً ولا فرق، على شجبها، واصفين إيّاها بـ"الاعتداء الصارخ" على حرية التعبير.يُصدر الكاتب روايته، فيما تتولّى دار النشر تكليف "ناقد" بالكتابة عنها في صحيفة عربية مرموقة. هكذا تكتمل الدائرة، يُصبح الكاتب روائياً مُكرّساً، وببساطة تبيع الدار ما لديها من نسخ الرواية. لنتحدّث عن مواصفات الرواية الناجحة التي بالإمكان ترشيحها للبوكر، عدد الطبعات مثلاً "سيهزُّ كثيرون رؤوسهم إيجاباً!! "، عدد المقالات المكتوبة عن الرواية "سيهزُّ صموئيل شمعون رأسه فرحاً؛ لأن روايته (عراقي في باريس) قد حققت رقماً خُرافياً بعدد المقالات المكتوبة عنها!!"، ولكن ماذا بشأن الترجمة إلى اللغات العالمية؟! هي إحدى مواصفات النجاح ولا شك. وهي، كذلك، المعيار الأكثر جديّة لكفاءة الرواية وأصالة كاتبها؛ ليس لأن الأدب العربي، وفي طليعته الرواية، بحاجة ماسّة للانخراط بمسارات الآداب العالمية، وليس، كذلك، لأننا مُصابون بعقدة "الخواجه"، إنما لأمرٍ آخر تكشف نهاياته عن فضائح ثقافية مُدوّية. فالترجمة، ببساطة، ستُظهرُ أن النصَّ، إمّا أنه غير صالح للنشر، أو أنه ترجمة قبيحة لنصٍّ روائيٍ غير معروف عالمياً، أو أنه بحاجة إلى إعادة صياغة جوهرية. هي المصائر غير المُعلنة للرواية العربية. قلّة أخرى محترمة، ولا شك، تنجو من مصائر الترجمة. وفي الظن أنها المُستحق الوحيد غير المُتوّج للبوكر، بل إن جائزةً عالمية محترمة كهذه لم تعطِ "امتياز"ها سوى مرتين وفي مكانين حققت فيهما الرواية إنجازات كبيرة الرواية "الروسية والأفريقية"، قد وُجدت، أصلاً، لتكريم هذه القلّة المحترمة، ولكن المُفارقة "العربية" أن قوائم البوكر غالباً ما تخلو من أسماء القلّة. كثيرون يضعون على الأغلفة الخلفية لرواياتهم جُملاً برّاقة من قبيل أن هذه الرواية، أو غيرها، قد تُرجم إلى لُغاتٍ عالمية عديدة، وهو يحبك الصياغة فلا يذكر اسم الدار ولا مُترجم الرواية. "علي بدر" مثلاً، كتب على غلاف روايته "حارس التبغ" الموجودة، حالياً، في القائمة الطويلة للبوكر، والمُرشّحة، بقوّة، أن تنتقل إلى "القصيرة"، إن روايته "بابا سارتر"، وهي التي قدّمتهُ، بقوة، إلى المشهد الروائي العربي، قد حصلت على جوائز كثيرة، وتُرجمت إلى لغاتٍ عالمية عديدة. لم يذكر "بدر" لغةً بعينها، إنما هي "لغات عالمية عديدة". صياغة محلية تجد رواجاً عربياً ملحوظاً، أن تذكر نصف الحقيقة، وتترك القارئ "يعثر" على الآخر مُخبّئاً في مكانٍ مُتوارٍ، موقع "جهة الشعر" مثلاً، أو في أحد أعداد مجلة "بابيبال" المُختصة بترجمة الأدب العربي"ترجمت المجلة فصلا من رواية الوليمة العارية". ترجمت زوجة "بدر"، وهي العربية العراقية المختصّة صاحبة المؤهّل العالي بالأدب الفرنسي، قسماً مهماً من "بابا سارتر"، وتولّت "بانيبال" الترجمة الإنكليزية "هناك ترجمة ألمانية لم تُنشر حتى الآن!!". وفي الحالتين لم يأخذ مترجم "أوربي" على عاتقه قراءة النص العربي ونقله إلى اللغة الأخرى "من الضروري أن نأخذ بالحُسبان أن (بانيبال) تعتمدُ، غالباً، مُترجمين عرب، وهم الذين ينقلون النص العربي إلى اللغة الإنكليزية!!". أفلت النص حتى الآن من القراءة الأجنبية، أقصد من ترجمته،وبضمنها طبعا مراجعته،بعقل ومُخيّلة "الأوربي" صاحب اللغة العالمية. ولا ندري ما الذي سيبقى من النص فيما لو حدث هذا الأمر؟! الترجمة قراءة أخرى للنص، انتقالٌ شائك من مُخيّلة ثقافية كاملة إلى غيرها مختلفة عنها بالتأكيد.

وقد أزعم أن الترجمة تؤلّف مادةً بحثيّةً مُهملة بتعمّد، ربما، أتحدث هنا عن ترجمة الرواية العربية إلى اللغات العالمية وبإشراف مترجمين أوربيين، أو على الأقل من الأبناء الأصليين لتلك اللغات. ماذا يحدث عندها؟ في بالي، الآن، روايتين صدرت ترجمتهما بلغاتٍ عالمية، الأولى لاسم راسخ في الرواية العربية، لا أشكُّ مُطلقاً أنه لو أدرك "البوكر" لأخذها من أوّل جولة، هو "عبد الرحمن منيف"، فقد تولّت دار نشر أمريكية معروفة ترجمة روايته ذائعة الصيت "مُدن الملح"، والنتيجة أن أُختصرت الرواية ذات الأجزاء الخمسة إلى ما يزيد عن الثلاثمائة صفحةٍ بقليل. آلاف الصفحات أُهملت حقيقة صادمة ومُخيّبة للآمال حقاً. رواية أخرى لاسم معروف كذلك، وإن ليس برسوخ الأول، هو العراقي "نجم والي". حذف المُراجع الألماني صفحاتٍ تزيد عن العشرين من روايته "صورة يوسف"، قال له: إنها زائدة، وتركها تصدر عن دار نشر ألمانية معروفة أيضاً. "والي" أعاد تصحيح النسخة العربية بطبعتها الثانية (عن دار ميريت) حسب الترجمة الألمانية فرقاً عن الطبعة الأولى (عن المركز الثقافي العربي)، وحدث الأمر نفسه مع روايته السابقة "تل اللحم". بإمكاني أن أُورد أمثلةً أخرى تكشفُ في جانبٍ منها عن ثراء وقوة الرواية العربية المُحتفى بها، فيما يُشكّل الجانب الآخر "مذبحة" عربية كُبرى لأسماءٍ شغلت مكاناً آخذ بالاتّساع في تاريخ الرواية العربية دون أن تُخلّف وراءها نصاً يستحق الترجمة!! الترجمة "مصيدة" لا أظنُّ أن الكاتب العربي قد فكّر بها، وإن استعملها كثيراً للمُباهاة، لكنّه، أبداً، لم يُفكّر جدّياً بمصائرها. ومثلهُ، تماماً، الناشر العربي الذي لم يتوفّر عمله، حتى الآن، على معايير حقيقية بإمكانها أن تفرز الغث عن السمين. ألم نقل إن "الناشر" في الغرب هو صانع آخر للثقافة، وبالتحديد عندما يؤدّي دور الرقيب الذي يمنع وصول "الهُراء" إلى عقل ومُخيّلة القارئ الأوربي. بالتأكيد لا نحتاج، نحن العرب، إلى صيغة أخرى من الرقابة؛ لأننا مُشبعون حدّ الثمالة بأصنافٍ شتّى منها ليس آخرها أن العربي، أقصد الكتاب منه، قد صنع لنفسه شبحاً اسمهُ "الرقيب" الديني، والسياسي، والجنسي، وكل ما يخطر على البال وما لا يخطر، رقيبٌ يحملهُ مُرغماً أينما ذهب!! إذن... عمّاذا يكتب الروائي العربي؟ سؤال نجد إجابته في عزوف دور النشر العالمية عن ترجمة الرواية العربية. حقّاً، لماذا ترفض هذه الدور الترجمة، بل إن السؤال الأصعب هو لماذا تُترجم رواية تصدر عن ثقافة مُزدحمة بالممنوعات؟! ألم نقل إن الترجمة مصيدة أخرى للرواية وللناشر العربي على السّواء!


يُهمل الجميع هذا السؤال، بمن فيهم لجنة التحكيم السرية حتى الآن. أعضاء اللجنة مستعدون للإجابة عن سؤالٍ آخر، يتعلّق بالمعايير المُعتمدة لديهم في اختيار روايات القائمة القصيرة، وتالياً، اختيار الفائز منها بالبوكر. سيقولون، عندها، بصوتٍ واحد: إن هناك معياراً واحداً يتضمن تفاصيل عديدة، إنه النص ولا شيء سواه. النص الجيّد يفرضُ نفسه حكاية عربية أخرى تُشبه، إلى حدٍّ بعيد، حكاية لجان النشر في الدور العربية الحكومية أو الأهلية ولا فرق.أسطورة النص الجيد صيغة مُماثلة تختبئ وراءها تفاصيل كثيرة، منها ما هو مزاجي خاص بذائقة المتلقّي المختلفة، بالضرورة، عن سواها. وهي مسألة شخصية أبعد ما تكون عن الحصر والتبويب، ومنها ما يمكن ضبطه وتصنيفه ضمن أبوابٍ بعينها. في طليعتها قوة النص وثراؤه. نص الرواية ولا غير، نصٌّ امتلك تاريخاً حافلاً بالتحوّلات والانقلابات الكبرى. لكنه ظلَّ، في النهاية، نص سردي. إذن، السرد هو الحقيقة الكلية في الرواية الكلاسيكية منها والحديثة، أو حسب الموضة، الجديدة. الرواية سرد بديهية يعرفها الجميع، مثلما يجهل كثيرٌ منهم التعامل معها. إذن، نحن نتحدّث عن قوّة النص السردي مُمثّلاً، هنا، بالرواية. ويجب أن نُضيف لازمة مُحدّدة ضرورية للغاية، تقول اللازمة: إن هذا السرد، عفواً هذه الرواية تتحدث عن مجتمعاتٍ مأزومة سياسياً، ومُحطّمة اجتماعياً، ومسجونة بألف جدارٍ وجدارٍ صنعتهُ التابوات وأنظمة التحريم. ببساطة مُسرفة هذه هي الرواية العربية. حقيقة أدركها جيداً الشيخ الجليل "نجيب محفوظ" وعمل جاهداً على ترسيخها في كل ما أصدر من روايات، كتبها تاريخاً، ورمزاً، وضمناً. بعدها جاءته "نوبل" صاغرةً. الستينيون، بدورهم، وهم الجيل الصاخب والناقم على فشل مشروع الدولة الوطنية - القومية، أدركوا مُبكّراً هذه الحقيقة، وقد نقول إن جانباً رئيساً من مشروعية الرواية الستينية بعد محفوظ، نهض على تفهّمٍ عميق لأزمة مجتمعٍ كامل بضمنه، طبعاً، أزمة الدولة الفاشلة. الرواية، بهذا الوصف، هي الابنة الشرعية لمجتمعٍ مأزوم على حافة الانتحار. هو مصير الرواية خارج القارة العجوز في أمريكا اللاتينية، والهند، وأفريقيا، وعندنا نحن العرب. دائماً ما كان ظهور الرواية خارج أوربا يُشيرُ، ضمناً، إلى ظهور وتشكُّل الدولة والمجتمع معاً، لكن القارئ الكفوء لنصوص الرواية العربية الرئيسة "محفوظ بتحوّلاته الكثيرة، المُدوّنة الستينية المصرية، فرمان، التكرلي، إبراهيم عبد المجيد، الرواية اللبنانية بعد الحرب تحديداً، رواية المنفى العراقية، ورواية المنفى العربية بعامّة، وقريبٌ منها الرواية في شمال أفريقيا" يجدُ حضوراً كثيفاً، وربما مدمراً، لصياغات التنافر الاجتماعي - الثقافي "الحرب، الدكتاتور، القمع، أنظمة التابو المتعددة... الخ"، وكأنّ الرواية عندنا أرّخت لظهور وتشكّل المجتمع، وهي الآن تشهد موتهُ. السرد العربي مُمثّلاً بالرواية هو سرد الآباء المؤسسين في بدايته، ثمّ صار سرد الأبناء الناقمين. لا أظنُّ أن أحداً من أعضاء لجنة التحكيم لجائزة البوكر بطبعتيها، يستطيع إنكار هذه الحقائق، وبعضها مُثبّت في كُتبهم، محمد برادة مثلاً، وبأقل منه فيصل درّاج، العضوان في لجنة الطبعة الأولى، وهما يؤكّدان أنه المسار الأكثر رسوخاً في تاريخ الرواية العالمية خارج أوربا.

وبالتأكيد إن تجذّر الرواية العربية ومساهمتها الفاعلة فيه هو الموجب لإيجاد جائزة بقيمة "البوكر". لكن السؤال الصادم لأعضاء اللجنة، والمدافعين عن "البوكر"، وبضمنهم كاتب هذه السطور، هو: أين هذه الحقائق من قوائم البوكر؟! إنصافاً لا بُدّ من القول، إن أعضاء اللجنة، ومثلهم آخرين في أيّة جائزةٍ عربية يعملون في حقل مزروع سلفاً بأصنافٍ شتّى من المُحاصصات: حصة النفط، ومثلها للمؤسسات الثقافية المُهيمنة، ولا تقل عنهما حصة الصحف العربية الكبرى، هي حقيقة يعرفها أصحاب الشأن، لا يقلل من شأنها عدم الاعتراف بها. ربما لأجله اوجد القائمون على الجائزة، بجانب الفائز، خمس حصص أخرى لاسترضاء أصحاب الحصص السالفة. نقول ربما، ولكن الأكيد إن الصيغة السداسية تتضمن مسحا أولياً لنصوص الرواية العربية. وان جمعنا الأمرين، المحتمل والأكيد، نكون إزاء صيغة متوازنة، إلى حدٍّ ما، ثلاث حصص يقابلها ثلاث أخريات، وبالطبع "البوكر" من نصيب الأخريات. هكذا جرى الأمر في الطبعة الأولى، والظاهرة انه يسير، في الثانية، بالوتيرة ذاتها. في الأولى كان الفائز "بهاء طاهر"، وهو روائي مكرس صاحب منجز يستحق الكثير من الاهتمام، والآن يوجد"محمد البساطي"، وما بينهما وجدت أسماء الحصص، مثلما وجد الآخرون. كان من الضروري فوز "مصري" بالجائزة بطبعتها الأولى، دون أن يعني هذا الكلام تشكيكاً بقيمة "طاهر"، مصر، أولاًً، ثم يأتي بعدها الآخرون، ربما يأخذها هذا العام الليبي "إبراهيم الكوني"، ولا اعتراض لا على فوز"المصري"المستحق، ومثله فوز "الكوني" أو غيره، إنما على الصيغة المتبعة ضمنا دون إعلان طبعا. وفي الحقيقة إن هذه الآلية تتضمن تدميراً منهجياً للجائزة ولقيمة الرواية العربية أيضا. ولنأخذ القائمة الطويلة المعلنة هذا العام، ماذا نجد فيها؟ إنها، بإيجاز، خارطة "قومية" مفترضة للرواية العربية. نعثر فيها على أسماء تعود لأهم البيئات العربية المنتجة للرواية، ولا ضير، إن كانت تستحق، بالفعل، أن تصل إلى القائمة، وهي الأفضل، بالضرورة، من غيرها هذا العام. ولكن، أهي حقا كذلك؟!

القائمة تتضمن أسماء مزمنة على لوائح الترشيح لكبريات الجوائز العربية، منها "إبراهيم نصر الله"، "إبراهيم الكوني"، "ربيع جابر"، وتقترب منها، إلى حدٍّ ما، أسماء أخرى من قبيل "محمد البساطي" و"سالم حميش". وبالمقابل هناك أسماء أخرى تظهر للمرة الأولى من قبيل "علي بدر"، "يوسف زيدان"، "فواز حداد"، "عز الدين شكري"، "وإنعام كجه جه". لندع هؤلاء جميعاً، ربما لفرصة قادمة، ولنسال اللجنة التي وضعت هذه القائمة: حسنا أيها السادة هل قرأتم، بالفعل، رواية"حارس التبغ" لعلي بدر؟! اشك.. المصيبة أن هذه الرواية التي لا اشك لحظة واحدة إن أي مراجع أدبي سيرفضها، جملةً وتفصيلاً، قبل أن يصل إلى الصفحة المائة لتناقضاتها العجيبة على صعيد الزمن وبناء الشخصيات، هذه الرواية، تماما مثل صاحبها، غير مصنفة ضمن نظام المحاصصة الثقافية، إنما هي، للأسف، ضمن حصة النصوص الممتازة. لنتخيل الآن، إن استطعنا، أي ظلم تلحقه "البوكر" بالرواية العربية؟! ربما علينا أن ننتظر جائزةً أخرى، أو لنقل طبعة أخرى من البوكر، لنعرف الخارطة الحقيقية للرواية العربية!!

حمزة عليوي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
بوكر ليست بريئة !
س. -

على الرغم من الايجابيات التي عددها الكاتب لجائزة البوكر العربية الا إنها ـ برأيي المتواضع ـ ليست بهذاالخلو من أمراض الثقافة العربية. لا تتوقع أن يتم منح هذه الجائزة يوما ما الى كاتب غير نشط إجتماعيا وعلاقاتيا مهما بلغ من الابداع. هناك مجموعة من الكتاب والناشرين تكافح ليل نهار وبمختلف الأساليب لكسب هذا العضو أو ذاك من أعضاء لجنة التحكيم في الجوائز العربية بما فيها بوكر. لا أقول ان هذه السلوكية خطأ أو صواب وإنما أريد التنبيه الى أنها موجودة وعادية. فقد يرى الكاتب أو الناشر أن القيمة الفنية العالية للرواية المعنية غير كافية لأن تشتهر وإنما لابد من نشاط إجتماعي معين ومن ضمنه العلاقات مع لجان الجوائز ومع المؤسسات الاعلامية، وهي ظاهرة ليست جديدة فهي امتداد لما ذكره الكاتب من تعامل الكتاب المصريين (مثالاً) مع المؤسسات الثقافية ـ المالية لنظام صدام. في النهاية شكرا للكاتب على تناوله هذه الظواهر وبأسلوب جيد.

قلة ذوق ثقافية
سلمان أحمد -

هذا المقال مكانه هو صفحة ثقافات...ونشره على صفحة رأي لا ينم ذوق!!!!