عودة الخليج، عصر الحداثة المخضّبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1-
على هامش مؤتمر فكري أقيم مؤخراً في دبي، كانت الحوارات الجانبية ساخنة، الصورة لم تفارق مخيلتي، ثلة من كبار المثقفين العرب يتكئون على أرائك إماراتية يناقشون مصائر العرب، بعد قرنٍ من مشاريع تكدّست داخل المكتبات العربية تحدثت عن كل مفردات التنوير والإصلاح والنهضة بكافة أشكالها، لكن "دبي" هذه المفردة الغائبة تماماً عن كل تلك المشاريع والحسابات، خرجت فجأة كعروس البحر، متبخترة بجسدها البض وبقوامها الأخّاذ قاهرةً بشبابها عواجيز العواصم والمدن الأخرى، لكن "دبي" نفسها كانت هي الصدمة في آنٍ واحد، أحاديث تضمنت كلمات كثيرة عن "دبي" كنت أستحثّ هؤلاء المفكرين بأسئلتي عن "موقع دبي من إعراب مشاريعهم كانوا يشيحون بوجوههم، كانوا يعتبرون هذه "شماتة" بأفكارهم، ومشاريعهم، وتوقعاتهم، لو سألت أي مثقف في الستينيات عن أن دبي ستكون هكذا مع فاتحة القرن الجديد، فستكون أضحوكة العالم. لكن هكذا نبتت دبي كالحلم، لكنها ليست كذلك بالنسبة لسدنة الحداثة وحراس الشّعر وعبدة القضايا.
2-
كادت أن ترتفع رجله صوب وجهه من شدّة الارتخاء والدّعة والبحبوحة وهو يجلس متمتماً بعبارات سريعة وحادّة، عن هذه المدينة المتبخترة الفارهة، معلناً أن مدينة دبي مجرّد شبكة من البنايات الشاهقة، هكذا ببساطة، وأن الأزمة المالية ستكشف عوارها، ثم امتدّ حديثه الصادح معلناً -بعد أن سألته بشماتةٍ عن مصائر هذه المشاريع التي تكتب كل يوم- أن ثقافة الخليجيين "ثقافة موْلات" وأن النهضة لا تأتي هكذا، ثم بدأ يسرد مفردات "الفقعنة" من فقع يفقع فقعاً، معلناً أن دبي ليست سوى فقاعة استهلاكية.
لكن تلك العبارات لن تنهي تنامي تحوّل الخليج إلى أن يكون "عملة التطوّر الصعبة"، هل هي صدفة أن تكون أهم مؤسسات الترجمة، ومؤسسات الثقافة، ومراكز الأبحاث والدراسات، وموجات الإعلام والإنتاج، ومهرجانات الفن والسينما في الإمارات؟ لم تعد إجابة "المال النفطي" جديرة بالمعالجة هنا، لأن كل دولة تمتلك أموالها، ولم تصل إلى ما وصلت إليه هذه المدينة التي تحوّلت إلى "قِبلة" لكل مستجدات العصر في العالم العربي، ابتداءً من المستجدات الإلكترونية وانتهاءً بالمستجدات الإعلامية والفنية.
3-
مسرحية كون الخليجي مجرّد شخصٍ أصيب بـ"الجدري" وبأنه مجرد رجل صحراوي خارج العصر والحياة أنهتْها هذه الثورة، ولعلّ هذه الصرعات النهضوية الجديدة -التي جاءت خارج سياق كل المشاريع الثقافية والتنبؤات الفكرية الاستهلاكية العتيقة المليئة بالثرثرة واللت والعجن- استفزّت البعض، فمن قائل بأن مشروع دبي هو نفسه المشروع الذي تخيله رفيق الحريري قبل اغتياله ثم أخذه الخليجيون منه (وهذه مقولة لمستشار مالي لرفيق الحريري) ومن قائل بأن هذه الصرعة تعكس بدائية الخليجيين في رؤيتهم للحضارة والحداثة، لكن المعادلة متخلفة جداً، لقد أرهقت هذه الصرعة وأعجزت "سدنة الحداثة" وصعاليك الفلسفة وبعض كتاب افتتاحيات الصحف الثورية الصغيرة المجمّدة والمهمشة، وبعض بلاعيم الأيديولوجيات الطافحة في بقعة مليئة بالدم والفقر والبؤس والضنك والكآبة والخراب.
4-
لماذا عجز المثقف العربي عن استيعاب حداثة الخليج؟
حداثة الخليج -ربما- لن تأتي وفق نموذج مسبوق، إنها "حداثة مخضّبة" ستأتي بوشمها الخاص ربما خارج إطار التلاسن مع إسرائيل حول "مصدر الحمّص" أو حول من هو الأسبق باكتشاف "الفلافل" ستأتي الحداثة كما هو "الخضاب" الخاص الذي يصبغ زينة عرائس الخليج، حداثة مستوعبة لتجارب العالم، حداثة تجمع بين الشماغ والعقال وبين المستجد الحديث وبين عادات لن تضر أحداً، إنها الحالة التي خرجت عن أفكار المثقف العربي، الذي خلع ذات مساء- وبعد أن حكّ أذنه اليسرى- رداءه الشعبي، ولبس اللبس الحديث، ثم كتب في نقد الفكر العربي بعد أن تثاءب قليلاً، إنها معادلة صعبة، ومختلفة بالمرّة.
إن الخليج يجب أن يخرج عن الاهتمام القديم بالقضايا التي تخصّ البلدان الأخرى، فما قدمه من دعم للقضايا العربية في فترة مضت تكفي وزيادة، ذلك أن المرحلة الإقتصادية المقبلة ستكون مرحلة "السياسة" وليست مرحلة التهريج الإعلامي، إنه بالتأكيد ليس عام "المؤتمرات الصحافية".
في المقابل كل ماحدث من طفرة في الخليج، سواء في الرياض، أو دبي وأبو ظبي، أو المنامة، أو الدوحة، أو مسقط، ليس سوى نقطة واحدة وخطوة أولى في طريقٍ مليء بالمخاطر، كما أن التجربة الخليجية ليست متساوية، وربما يأتي النمو الإماراتي والقطري في المرتبة الأولى، وأظنّ أن الصرعة القادمة ستكون من "الدوحة" حيث تتنفس الآن الدوحة مستعدة للركض والمنافسة على الطريقة الماراثونية. لكننا أيضاً لم نعد كما كنا في السابق نحن نتحسّن كثيراً.
5-
من هنا ندخل على آمالنا من "قمة مسقط" هذه القمة التي نتمنى أن تكون قمة القمم، فمن جهة لدينا الخطر الإيراني المحدق، فمفاعل بنوشهر أقرب من الكويت منه إلى طهران! ومن جهةٍ أخرى لدينا الخطر الاجتماعي، فالمسالخ التي تحدث في البيوت بسبب "العنف الأسري" يجب أن يكون أولوية، كما أن "الثقافة" يجب أن تكون ماثلة أمامنا، تدني مخرجات التعليم وسوء المناهج وتفاهة العقول التي تفرزها المدارس يجب أن تكون محطّ أنظار القادة، كما نتمنى أن نحصل على إجابات صريحة وواضحة عن أثر الأزمة المالية على الاقتصاد؟
وأخيراً: فإن الحركة السياسية والاجتماعية والفنية أهم من الصخب والصراخ الفكري والثقافي مهما بلغ عمقه، ولئن كانت الثرثرات التي يتفوه بها صغار طلاب الفلسفة وبعض المنتمين إلى التيارات النقدية الفكرية لن تكون مؤثرة ولا مستوعبة، لأن آراء المفكرين المنغلقة والتقليدية والمتحجّرة حولتهم إلى ديناصورات متحركة من المهم أن تعتني بالحوار الشبابي والطلابي، وأن تترك تلك السدنة إلى ذمة التاريخ فهم مجرد نقاد سببوا الكثير من "الصداع" وثرثروا بما فيه الكفاية، وآن الأوان أن تفتح الآفاق العملية والحوارية والإعلامية الخارجة عن ثوابت "السدنة" وأن نتأمل في المدن تلك العرائس الخجولة وهي تدشّن حداثة الخليج المخضّبة.
فهد الشقيران
كاتب سعودي.
التعليقات
غريب
د- سمير صحافي -يا فهد تحليل جميل لكن ما سر الحقد الشديد على الشام والسخرية من مواجهة سطو اسرائيل على الحمص؟؟؟؟ هل هذا امر يستحق سخريتك؟؟ ماهذا الحقد على الشام يا عرب