متعة اليأس!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1-
في تقرير تلفزيوني تحدثت العجوز بوجه يشرح عمق المأزق الذي تغصّ به فهي زحفت على أقدامها نحو "البقاء" وأخذت تجتثّ آثام الجوع بمعول الإرادة نطقت -تلك العجوز- بكلام لم يفهمه حتماً المراسل، الذي استمرّ بركضه الأعمى وحماسته المخجلة، هذا المراسل البائس لم يمنح الكلمات التي فاهت بها العجوز أيّ اعتبار سوى أنه تركها وذهب إلى صبية سذّج يهتفون بهذر سياسي قبيح. ابتداءً لم تحفل العجوز الرزينة التي حملت على ظهرها سنواتها السبعين ونقشت على وجهها تجاعيد حرث الحياة سقماً ومرضاً دفئاً وشتاءً باللقاء التلفزيوني بل زجرت المراسل الذي لن يأخذ منها سوى "الضربة" الإعلامية التي يحلم كل يوم أن تأتيه كعروسٍ تخرج من لجج البحر، وبعد لأيٍ وإقدام وإحجام منحته العجوز من وقتها "الثمين" بضع ثوان قالت له فيها، "ماذا تريد" ثم سألها عن أحوالها فقالت بهدوء "انت ما تقرأ الأخبار" ثم هتفت بكلمة تهزّ كل سامع "الأبواب مسكرة والخبز طول عمره ما كان سهل"، ارتمى هذا المراسل البائس وركض ركض الأطفال إلى مشاركٍ آخر فهو لم يأبه لشيء همّه الأول مكافأة يأخذها على التقرير المتهافت. بينما هي تشرح بعمق أزمتها الشخصية بكلمات معدودة، تلك الكلمات تشرح أيضاً-بنفس الدقة- مأساة كل مواطن يتنفّس داخل العالم النامي الذي يئنّ من الفقر والبطالة والذي تتجه كل مؤشراته إلى الانهيار، وكل أرقام هذا العالم تنذر بالكارثة.
2-
ارتمى الإعلام في حضن ""الهشاشة" فبات يرضع من ثدي الإعلان ويسير كالثور على وقع سوط "الشركات". تحوّلت آلية صناعة "الماركة" فبات الإعلان يصنع الماركة عبر الإلحاح الدائم، فالماركة لا تصبح كذلك إلا عبر الإلحاح الإعلامي على كونها كذلك بغضّ النظر عن "الجودة" التي-كانت- معياراً لرفع المنتج من كونه "سلعة" إلى أن يصبح "ماركة".
3-
أصرّ على أن "الخليج" -برغم النشاط الاقتصادي الذي ينتابه الآن- لا يزال في بداية الخطو، هذا مع استهجاني لنقّاد الخليج من العروبيين عبّاد سفارات الدول المستبدة والعسكرية الذين يقتاتون ويأكلون الخبز من خلال شتم الخليجيين فهذه مهنة قديمة منذ بدء المد القومي، لكن هذا لا يعني أننا لا ننتقد التجربة الخليجية الضعيفة من جهة الفقر المدقع في التطوير الثقافي. وإذا كنت قبلاً قد تحدثت عن التطوّر الاقتصادي الذي تشهده "دبي" وأنها باتت قبلة المهرجانات ورجال الأعمال والمشاريع وأنها البقعة الأنشط على المستوى الاقتصادي، إلا أنني أصبت بالصداع من كثرة الإنصات للذين يتحدثون عن "دبي" من دون أن نمارس قراءة نقدية جريئة لذا سأتطرق إلى سياق آخر ربما يستفزّ بعض الذين يدافعون عن دبي بشكل صبياني وكأنها مدينة "معصومة.
إن أحداً لا يختلف على جمال البنايات الشاهقة في الخليج سواء في المنامة أو في دبي أو في والرياض ولكن هذا لا يعني أن كل مدينة فيها بنايات جميلة أنها ذات "ثقافة" متطوّرة وخارجة من أسر القيود التي تلفّ مظاهر التفكير ومن ثم الحياة الحياة، الانسداد الفكري في الخليج ليس سراً وهو التحدي الأبرز الذي لم نواجهه بجرأة حتى الآن، ولم نتجه إلى نقده بشكل مباشر وواضح. وإذا كان الصحافي الراحل سمير قصير-والذي أحيل إليه للمرة الثالثة عبر مقالاتي هنا وعن عمد- قد تطرّق إلى تلك التجربة وحفر في المخابئ الثقافية التي تحتاج إلى شجاعة ورؤية تماثل الرؤية الاقتصادية اللافتة فلأنه أدرك الدور الثقافي الذي يجب أن يحضر في أي نية تحضّر اقتصادي أو تطوير سياسي، ومن هنا يأتي دور الكاتب أن ينتقد فنحن "نقّاد" ولسنا مجرد مشتركين في برنامج "شاعر المليون".
دبي مدينة معزولة ثقافياً عن المحيط الذي نمت داخله، وأغلبيتها من "العمالة" وهي تغرق بالأنشطة الاقتصادية المتنوعة، لذا أسميتها بـ"الورشة الجميلة". ازدحام هائل وفي أغلب الأشهر تمتلئ دبي بالعمّال والتجار، يأتون من كل حدبٍ وصوب لإبرام الصفقات وإنجاز الأعمال. غير أن الحركة الاقتصادية التي تمت على مدى السنوات الماضية كانت حركة خارج نطاق التفكير بالبنية الفكرية التي يحملها ذهن المواطن الإماراتي أو الخليجي، ذلك أن النهضة ليست مجرد استقدام عمالة من أجل إقامة بعض البنايات أو الإشراف على بعض المشاريع، إنها عملية معقدة تحتاج إلى رؤية متكاملة إن بناء عقل الإنسان أشد تعقيداً من بناء ألف أرض، إننا لا يمكن أن نغيّر البنية الفكرية الخاطئة التي يختزنها الإنسان عبر مشاريع اقتصادية كثيرة هي أصلاً نتاج تفاعل اقتصادي مع الأيدي العاملة الأجنبية، إن تغيير الآلية الفكرية التي يفكر بها الإنسان المسكون بالهوامات الذهنية والخرافات والأباطيل لن يأتي بلحاظ عين مع أول نهضة عمرانية، إنها عملية شديدة التعقيد أن تنظر إلى الفرق الهائل بين المستوى بين المساحة التي يتحرك فيها الإنسان فكرياً هناك وبين المساحة الاقتصادية الحرة. سمير قصير نفسه هو صاحب أدق نقد لعلاقة النهضة الاقتصادية بالتغيير الثقافي في الخليج كتب مرةً: (في دبي حيث ناطحات السحاب تتكاثر ضمن هندسة تماثل هندسة شيكاغو كان من شأن الجهد الجبار المبذول في سبيل التنظيم والتحديث.. إلا أن هذا النجاح الباهر وهذه الفخامة التي تذكر البعض بولاية كاليفورنيا لا يخلوان من هشاشة تنذر بالخطر وذلك بدءاً ببنية السكان.. إن عملية التحديث تبقى وهماً.. فسيطرة التقاليد تعيق أشكال التحول المجتمعي) تلك كانت ملاحظة على الهامش أن نفعلّ الحوار الثقافي الداخلي في الخليج، كان بإمكان دبي-وهو ما يبدو الآن مع مشاريع المعرفة المعتمدة من قبل محمد بن راشد مؤخراً- أن تصبح جوهرة خليجية تقود حملة التغيير الثقافي وأن تؤثر في بناء سياج ثقافي هام يساهم في تأسيس ثقافة حقوقية للطفل والرجل والمرأة وأن تكون منارةً لتأسيس ثقافة إنسانية متآخية بعيداً عن التعصّب القبلي والرجوع إلى العادات والتقاليد التي تسممّ الأجواء الخليجية بشكل ينذر بالخطر. ولست أدري أي نهضة يمكن أن نخدع أنفسنا بها وأبجديات التفكير مفقودة إنني آسف على تفاؤل ضمنته مقالاتٍ كتبتها عن تطوّر ثقافي توهّمت وجوده في الخليج، هل يمكن أن نستفيد من "التجربة الفارسية" في مجال النشاط في "الترجمة الفلسفية" والتفاعل الثقافي مع العالم كله؟ خاصةً وأنها اللغة-أي الفارسية- تتجه إلى رسم معالم حيوية في مجال الإنتاج الفلسفي وهي أنشط بقعة فلسفية بعد أوربا وأمريكا، تلك رؤيتي وأعرف أنها ستستفزّ بعض أشباه المشاركين في برنامج "شاعر المليون".
4-
اليأس، له نكهة خاصةً حينما تعرف أن أفكارنا ليست في بعض وجوهها مجرد أحلام وأن التفكير قد يكون حلماً-وفق التفكير الصوفي- من هنا نعلم أن لحظة السلام لا توجد فقط في "الموت" كما يتوهم بعض أنصاف الفلاسفة بل توجد أيضاً في "اليأس" إنها اللحظة الأبهى والأكثر إشراقاً وهي الحالة الأكثر جمالاً واطمئناناً. لم أجد أفضل من الكاتب الليبي "الصادق النيهوم" حينما كتب (ما أبدع مشاعر اليأس عندما يتعلم المرء كيف يحبّها، إنها تستطيع أن تعطيك كل ما ترغب فيه، تعطيك لحظة السلام التي يلهث العالم وراءها حينما يتخلص المرء من أوهام الآمال المضحكة يجد كل ما يبحث عنه داخل لحظة واحدة من اليأس) في اليأس ينمو الألم الروحي الذي لا يوجع ولكنه يُقلق الألم الذي لا ينزف دماً، وإنما ينزف حباً ؛ "الاشمئزاز" هو بوابة اليأس معه نصل بالضبط إلى اليأس الباطني حينما نشعر أننا بدأنا نشمئز-حتى- من الاشمئزاز، نقترب من لحظة تجلي اليأس. وفي اليأس لذة لو علم الراكضون وراء العالم ما فيه من استرخاء لجالدونا عليه بالسياط فخذوا كل شيء واتركوا لنا- أنا والعجوز السالف ذكرها-"روح اليأس" لنصبح مجرد متفرجين بحب على عالم يذهب بسرعة جنونية نحو الهاوية:
(سأعضّ شراييني كالمراهق..
سأمدّ عنقي على مداه
كشحرورٍ في ذروة صداحه
وأطلب من الله أن يبيد هذه الأمة) (محمد الماغوط).
فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com