أصداء

التنوير الأوروبي: ولادة عسرة من رحم المعاناة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يؤكد الباحث البلجيكي البروفيسور ( رولان مورتييه)، فيما يرويه عنه الأستاذ(هاشم صالح) في كتابه ( مدخل إلى التنوير الأوروبي) على أن القرن الثامن عشر الميلادي هو أول عصر في التاريخ يشعر بذاتيته وكيانيته ووحدته. كما أن فلاسفته كانوا يشعرون بأنهم مكلفون بتأدية رسالة مهمة للبشرية، هي التنوير.

وشيوع مصطلح التنوير يرجع لذلك القرن بالذات، وعنه تمخضت صورته ووضحت معالمه. ولأول وهلة، كان استخدام هذا المصطلح يوحي بضده التي جاء ليكافحه وهو الظلمات. فالتنوير لا بد وأن يأتي ليبدد الظلمات، ولو لم يكن هناك ظلمات لما كان هناك حاجة إلى التنوير. فبضدها تتميز الأشياء.

ولهذا المصطلح أصل ديني جاء في الديانات السماوية الثلاث. حيث نجد في القرآن الكريم ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) وكذلك( ليخرجكم من الظلمات إلى النور). مثلما نجد في الإنجيل أن المسيح عليه السلام يصف نفسه بقوله:( أنا نور العالم، من يتبعني لن يمشي أبدا في الظلمات وإنما سيكون له نور الحياة). كما نجد في سفر التكوين ما يلي:( ثم وجد الله أن النور حسن وفصل بين النور والظلمات).

مع ذلك، فالتنوير الأوروبي كان يهدف إلى تحرير المصطلح من حمولته الفوقية ليكون بمثابة إعادة الاعتبار للعقل، بتنصيبه حكما يرجع إليه فيما يخص العلوم الطبيعة والإنسانية، بعد أن كانت تحكمها الماورائيات الميتافيزيقية، مما نتج عنه قناعة تامة بعجز الإنسان عن (عقل) مسبباتها وصولاً إلى القوانين التي تتحكم فيها ومن ثم بقاؤه أسيرا لجبريتها.

وعلى ما يبدو، فإن أول من استخدم مصطلح التنوير بالمعنى الفيزيقي الحديث، هو رائد العقلانية ألأوروبية الحديثة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت( 1549 ـــ 1650)، عندما تحدث عن النور (الطبيعي) باعتبار أنه يعني" مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق العقل فقط". وهذا التعيين (الطبيعي) للتنوير، يعتبر، على ما يبدو، أول محاولة جريئة لنقل المصطلح من ميدان النقل إلى ميدان العقل.لكن ديكارت لم يكن يستخدم مصطلح التنوير كسلاح ضد الدين، بل كان يستخدمه لإعادة الاعتبار للعقل ليكون مسئولا عن ميدانه( الدنيوي)، وهو دور كفلته له الأديان السماوية في تجلياتها الأولى. فقد أكد في كتابه( مبادئ الفلسفة) على أن " ملكة العقل التي وهبنا الله إياها والتي ندعوها بالنور الطبيعي لا تلحظ أي شيء إلا وهو صحيح فيما تلحظه". وهذا يعني أن الدين لا يمكن أن يكون ضد استخدام العقل في المجال الطبيعي الدنيوي البحت. ولهذا الاتجاه شاهد من الإسلام ممثلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنتم أعلم بشئون دنياكم) وبقوله، بلفظ آخر من ألفاظ الحديث: ( ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم بها). ولم يصطدم الدين بالعقل إلا عندما أرادت الأيديولوجيات التي تتلبس بالدين، وفقا لأجندات ذرائعية، إقحام الدين في تنظيم الأمور الدنيوية البحتة التي يرجع أمر تنظيمها للعقل والخبرة الإنسانية فقط.

ولعل أول إشارة أُلتقطت من مصطلح التنوير الديكارتي كانت عن طريق رجل دين كبير هو( مالبرانش)، الذي استخدم مصطلح التنوير للحكم على "مقدس" مسيحي راسخ منذ القدم هو: مصطلح الخطيئة، الذي كان الإنسان المسيحي يرزح تحت هوله منذ القرن الرابع الميلادي، وهو يعني أن الإنسان ظل حاملا لجزء من خطيئة أبيه آدم عندما أكل من الشجرة المحرمة. فهو يقول مثلا في كتابه ( البحث عن الحقيقة): " ينبغي على الإنسان أن يحاكم كل شيء طبقا للأنوار الداخلية بدون الانصياع إلى الشهادة الخاطئة والمختلطة لأحاسيسه وخيالاته". وعلى هذا الأساس، أمكن للعقل المتحرر أن يسأل السؤال التالي:ما ذنب الإنسان في أن يتحمل ذنبا لم يفعله؟ أليس آدم عليه هو من أكل من الشجرة المحرمة؟ فلماذا تتحمل ذريته من بعده ذنبا لم تشارك فيه؟ هذا فضلا عن أن آدم تاب من خطيئته فغفرها الله له حين أنزله الله إلى الأرض. ومثل هذا الحكم العقلي المنطقي موافق لقوله تعالى في القرآن( ولا تزو وازرة وزر أخرى). ولعل هذا ما يؤكد مرة أخرى على أن إعادة الاعتبار للعقل لا يصطدم مع الدين في تجلياته الأصلية.

ما أن جاء القرن الثامن عشر، وتحديدا من النصف الثاني منه، حتى تلقف الفلاسفة التنويريون حصاد بذور العقلانية الديكارتية، ليتحول التنوير إلى حركة فكرية شاملة يقودها تيار ضخم من الفلاسفة الذين راحوا يحاربون مثبطات العقل الإنساني بمنطق التنوير الداعي إلى تخليص الفكر الإنساني من الخرافة والدجل وادعاء العلم بالكشف والذوق وتحرير العقل الإنساني من سطوة الكنيسة الكاثوليكية، بحيث مدوا تساؤلات التنوير لتصل إلى حمى الـ"مقدس" المسيحي. وقد تولى هذه المهمة الكبرى فلاسفة وعلماء توزعوا على مستوى القارة الأوروبية، من لوك ونيوتن وهوبز وبركلي وهيوم في انجلترا، إلى دالمبير وديدرو وفولتير وجان جاك روسو في فرنسا، إلى إيمانويل كانط في ألمانيا مؤسس المذهب النقدي في أوروبا، والذي طور مبدأ أو نظرية " الدين في حدود العقل" والذي أكمل به مسيرة الإصلاح الديني التي بدأت في القرن السادس عشر على يد (مارتن لوثر). لقد طور (كانط) المبدأ العملي لنظرية الأخلاق بقوله" إن قيمة الكنائس والمعتقدات الدينية( الشعائر الكنسية) تكون بمقدار ما لها من قدرة على هذا التنوير الذي يسمو بالإنسان ليجعله على رأس هرم الأشياء، ولعلنا نتعرض لذلك في مقال قادم. عون الإنسان على الرقي والتطور الأخلاقي" وهكذا يمكن القول بأن هذا الفيلسوف أول من " مَدْيَن" الأخلاق بطريقة واضحة صريحة. ويبقى جديرا بالذكر أن نستعرض موقف الأصولية المسيحية من من التنوير والعلم الأوروبيين، ولعله يكون موضعا لمقال قادم.

يوسف أباالخيل

foltair89@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف