السياسة: من الاستعباد، إلى الاستخراف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1-
ماكس فيبر رأى أن السياسة قد تتحول لتصبح مجرد "طفرة خصامية" وهذا ما نشهده في التعاطي السياسي العربي الآن حيث العراك الدائم والملاسنات المستمرة، وإدمان المؤتمرات الصحافية والمشاركات الإعلامية. مما أدى إلى تضخّم إخباري في الإعلام. صارت الأخبار تأتينا من حيث لا نحتسب، وكل خبر يجب ما قبله من سوء ما نبشّر به من تفجير أو قصف أو اختطاف. بقعتنا هذه مليئة بالحركة -ليست إلى الأمام- نرصد هذه الحركة في تركيا، والعراق، والأراضي الفلسطينية، ولبنان، وسوريا، واليمن، وإيران. نعيش حالة من الانسداد السياسي بين معسكر "الممانعة" الذي يدعم الميليشيات في الخليج وبعض الدول العربية، وبين المعسكر الواقعي الذي يلعب -وفق رأيه-مع أقل الخسائر ومع التنمية الاقتصادية بعيداً عن أي شعار فكري أو أي نهج حزبي سياسي.
2-
غسان تويني، شاهدته في 15 شباط على إحدى الشاشات وهو يسرد بتهدج وسط غرفة ساكنة، دخان سيجارته -التي لا تفلت من يده- يتصاعد بلكنة احتجاجية، تحدث بهدوء بعيداً عن السياسة ليسرد ذكرياته مع بعض الذين قضوا في تفجيرات لبنان. ذكر من عرض ما ذكر أن "الخُرافة دخلت حتى على السياسة" فباتت العقول السياسية تحركها "الخرافة" أن يصدّق البعض وهمه. من بين تلك الخرافات السياسية التتلمذ على التقارير والتصريحات الغربية وبناء المواقف عليها، كما حدث ويحدث الآن من انتشار لشعاراتٍ مثل: "طمس اسرائيل" "أبدية الحرب" "الفوضى الخلاقة" "الشرق الأوسط الجديد" بينما هي مجرد حروف تضمنتها بعض الدراسات.
3-
كتب نيتشه مرة (يتضح يوماً بعد يوم أن تعاطي السياسة شيء معيب).
يتحدث العربي في كل مكانٍ عن "السياسة" وعن "الانتخابات القادمة" ولا عجب فثقافة العربي تخمّرت داخل السياسة.
بينما يتجاهلون صور البؤس البشري العربي:
-ملايين الأطفال في الشوارع بلا مأوى.
-ازدياد حاد في عدد السكان العرب فبقعتنا تشهد طفرة تناسل غير مسبوقة.
-عمائر ترجّ من تكوّم سكانها فوقها، كائنات تحكّ لحومها بالجدُر وتنام على الممرات.
-انخفاض دخل الفرد. وغلاء المعيشة. وارتفاع مهول أجرة السكن.
-انتشار للأمراض وضعف في الوعي الصحي وطفح ينتشر لأنواع العدوى.
-جهل مريع وتضاؤل ارتباط التعليم بسوق العمل وانتشار حاد للبطالة ترتب عليه انتشار الجريمة والتفسخ والارتزاق.
-بؤس حياتي وقهر نفسي وانتشار الانتحار وضعف الإيمان بالحياة، واختراق الإرهاب للبؤساء لتجنيدهم.
-هجرة العقول الجيدة.
-تحوّل بعض البقع إلى ثكنات عسكرية، أو ملاجئ تنتظر الموت، أو بؤر للأمراض والجراثيم.
4-
لم تستطع "السياسة" التي نتعاطاها منذ قرون أن تحلّ أي إشكال! منذ أن سقطت بغداد السقوط الأول عام 656 هـ ونحن في حالة من "التيه". ارتباك وجودي حاد. واستنفار بشري هائل. تخرج قاطرات بشرية من حصونها كل يوم تذهب بحثاً عن "لقمة" فلا تجد سوى "السياسة" التي تتضمن كل شيء إلا "السياسة". انشطار ذاتي يعيشه كل عربي وشعور بالقهر. ملايين من الكائنات البشرية تشعر بالعوز. تشعر بالإعاقة، بعد القدرة على إتمام الحياة. لكن هذا يتطلب أيضاً من المواطن نفسه أن يضرب عن "التقاليد" فيكفّ عن الإنجاب المنفلت، وأن يتدبّر عيشه وفق واقعه مع مطالبته بحقه.
السياسة انشغلت بما هو أهم. بالمفاوضات. بعملية السلام. بالملف العراقي، واللبناني، وفي كل يوم يبرز للساسة ملفات تؤجل ملف "المواطن" المعلّق على الرف منذ قرون. ويظل المواطن العربي لأجيال قادمة، لا يملك سوى نعمة أنه على "قيد الحياة" لأن الخُرافة السياسية تطورت، باتت السياسة حالة من "الاستخراف" وهي مرحلة تأتي بعد مرحلة الاستعمار والاستعباد.
فهد الشقيران
كاتب سعودي.
shoqiran@gmail.com