إسرائيل لا تستثني الشعراءَ من حربها على غزة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الشعب الفلسطيني شعبٌ يمتلك إرادةً ليس بحجمها، مهما فعلَتْ، أيّ قيادة. بل إنه منكوبٌ بالقيادة! أتذكر أنني عبّرت لنفسي عن المعنى بكلمات صامتة لحظة زيارتي، بيت الشاعر عثمان حسين في منطقة تسمى "الشوكة"، وتقع على أطراف مدينة رفح.
بيت الشاعر لا يبعد كثيرًا عن معبر أو ثكنة "كِرِيْمْ أبو شاليم" أو "كرم أبو سالم"؛ حيث اختطف الجنديّ الإسرائيلي الشهير "جلعاد شاليط" قبل حوالي سنتين من هناك. وبإمكاني، لولا خطورة الوضع الأمني، قياس الأمتار القليلة التي تفصل برج الاحتلال العسكري عن بيت الشاعر؛ بخطواتي.
زرتُ عثمان حسين قبل أيام قلائل، أي بعد مرور يومٍ واحدٍ على خبر اعتقاله. حيث تمكنّت قوة إسرائيلية خاصة قوامها 300 جنديّا من محاصرة البيت عند الواحدة ليلاً.. ويعلم
أمس واليوم تحديدًا، وأنا أتابع، بعين دامعة، ما يجري لأهلنا في مخيم جباليا، شمال غزة، أجريت اتصالاً، من خان يونس، بعثمان حسين؛ سألته عن الظروف الأمنية حول البيت؛ فقال: الوضع جدّ مربك وخطير، والآن على مقربة من البيت خمس آليات من وحدة السلاح الهندسي ربما ترسم فكرة اجتياح المكان هذه الليلة، فهم بدؤوا العمل بذلك من شمال القطاع، أي من جباليا، والخطة تتدحرج إلى الجنوب حيث رفح، بدءً من منطقة "الشوكة"!
في ضوء ما تقدّم وما يحدث، حاليّا، في قطاع غزة من مجازر إسرائيلية بحق المواطنين، ورغبة في معرفة الاستعدادات النفسية واللوجستية لشاعر، هو رب أسرة على أيه حال؛ طلبت من عثمان حسين أن يرسم صورة قلمية لقراء إيلاف، لما عاناه في رحلته الثالثة الجديدة إلى المعتقل الإسرائيلي، في هذا الوقت الفلسطيني العصيب، فمدني بهذا الاعتراف:
أعترف أن هذه المرَة كانت الجرعة أعلى، خلافا للرحلتين السابقتين. ففي الرحلة الأولى، اقتادني الجنود من البيت إلى سلم المدخل في مؤخرة "الميركافا"، حيث أنستهم في رحلة عودتهم إلى معسكر كرم أبو سالم الحدودي، على مدار ساعة ونصف، الوقت الذي استغرقته الرحلة لقطع مسافة لا تتجاوز الألفي متر، وذلك بقصد التمويه كان ذلك بعد ظهر أحد الأيام الأولى من اخطتاف شاليط،، وخلال رحلة العودة لم يتوقف طاقم الدبابة عن التهام أكياس الشيبس وشرب الماء والعصائر بشكل هستيري، كانت يداي مقيدتان وغير معصوب العينين، تبادلنا حديثا متقطعا وبصعوبة بالغة كنا نسمع بعضنا، رغم أني أجلس بينهم وذلك نظرا للضجيج الهائل الذي تحدثه الدبابة أثناء سيرها فوق الرمال الناعمة في قرية الشوكة شرق رفح، الامتداد الطبيعي والجغرافي لصحراء النقب.
وفي الرحلة الثانية، والتي جاءت بعد استلام باراك حقيبة وزارة الحرب بأسبوع، أخرجني الجنود مع ابني محمود الذي لم يتجاوز السادسة عشرة، مقيدين ومعصوبي العيون. اقتادنا الجنود إلى شاحنة عسكرية من نوع MAC وطلبوا من المعتقلين مقيدي الأيدي ومعصوبي العيون الصعود إلى سطح الشاحنة بمساعدة جنديين يوجهانهم إلي كيفية الصعود بألفاظ نابية ، وبعد عدة محاولات فاشلة ، يضطر الجنديان إلى حمل المعتقل من فخذيه ورميه على سطح الشاحنة كنفاية ما أو كأي شيء. لقد كنت قلقا على محمود حيث إنها الرحلة الأولى له، مع أنني كنت واثقا من شجاعته وسلامته النفسية.
الجرعة الزائدة في هذه الرحلة عن سابقتها تتمثل في قيام رجال الأمن (الشين بيت) بإجبار المعتقلين على خلع ملابسهم حيث أوقفونا عراة تماما لإجراء بعض الفحوصات الأمنية بعد وصولنا إلى معسكر كرم أبو سالم مباشرة. كأن يجبر المعتقل على الانحناء إلى الأمام ليقوم رجل الأمن بإدخال العصا السحرية كاشفة المعدن في مؤخرته وبين فخذيه، فربما يكون أحد المعتقلين الذين سحبهم الجنود من فراشهم قد خبأ معدنا متفجرا في مؤخرته، لعل وعسى. بعد ذلك أجبرونا على ارتداء أفرهول أزرق مصنوع من ورق مخلوط بمادة بلاستيكية خفيفة، ليتم عرضنا فرادى على ضابط الأمن، حيث يقوم بتجديد وتوسيع قاعدة معلوماته الأمنية عن منطقتنا، هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل.
وقبل أيام كانت الرحلة الثالثة، حيث استيقظنا فجرا على أصوات الجنود الذين حاصروا البيت وما هي إلا لحظات حتى اقتحموا البيت بجاهزية عالية، لمواجهة أسامة بن لادن الفلسطيني وهو نائم بين بناته الخمس. حشرنا الجنود في غرفة المكتب، لحظتها شاهد احد الجنود صورة صغيرة معلقة على الجدار، سألني: لمين هذي الصورة وقبل أن أجيبه خطف ابنتي الصغرى التي لم تبلغ العام من عمرها ورفعها إلى أعلى قابضا عليها من صدرها كتهديد لكي أجيبه، صرخنا جميعا باسم صاحب الصورة الذي لم يعرفه وكرر السؤال مرارا وهو يرفع الطفلة بهمجية لا توصف. ثم صعدوا إلى غرف النوم وناموا في أسرتنا ببساطيرهم (أحذيتهم) ناموا في كل مكان يصلح للنوم، وبعد ساعة من استراحتهم ، اقتادوني مع محمود مقيدين ومعصوبي العيون إلى كرم أبو سالم مشيا.
قلت في بداية حديثي أن هذه المرة كانت الجرعة أعلى، كان الجندي يجرني من المربط البلاستيكي الذي يقيد يدي من الرسغين بأحكام شديد، معصوب العينين، مشيا باتجاه كرم أبو سالم. قطعنا الطريق إلى المعسكر أثناء خروج قرص الشمس الأحمر من الأفق البعيد، رأيته من تحت اللثام حين رفعت رأسي إلى الخلف لأتحقق من الوقت.
حاولت رصد أحاسيسي وانفعالاتي وأنا مجرور كدابة تجاوزت الخامسة والأربعين من العمر، ولم أفلح. كانت الانفعالات حادة ومتناقضة ومتداخلة، شعرت بحالة تشظي في بعض اللحظات، وفي لحظات أخرى فقدت إحساسي بالجسد والزمن معا، شعرت وكأنني ذرات رماد متطايرة تشكل كيانا هلاميا يسبح في الفراغ. وفي كل مرة نصل فيها إلى كرم أبو سالم يمر المخطوفون بإجراءات أمنية خيالية تمهيدا لعرضهم على ضابط الأمن من (الشين بيت) ليسأل: أنت فتح ولا حماس، شو رأيك بالانقلاب الحمساوي على السلطة. وفي كل مرة أجيبه أنت تسحبني كالغنم من بين أطفالي مقيدا ومعصوب العينين لتسألني عن فتح وحماس، لعنة الله على البشرية جمعاء.