فضائح التكفير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1-
"تسمع بالمُعيدي خير من أن تراه" هذا المثل اللطيف أشعر أنني يوماً بعد يوم أكثر انسجاماً معه، فإذا كان الخلاف يفسد للود قضية كما قال العربي البائس، فإن "اللقاء" إذا لم يكن مرتباً قد يفسد للود قضية، مثلاً: تسكنك مؤلفات كاتب ثم تذهب للقائه، تظن أن التعاليم التي يكتبها قد تمثلها وسكنت أفعاله، ثم تتكسّر الصورة الذهنية التي كوّنتها عن المؤلف من خلال كتبه مع أول لقاء معه، لذا نحب -غالباً-"المؤلفات" ونكره "المؤلفين" وبدر شاكر السياب في قصيدة له عبّر عن غيرته من حب الناس لكتبه، ونفورهم منه، وهو شعور يسري لدى الكثير من الناس تجاه بعض المؤلفين، إنهم يطرحون تعاليم لا يقاربونها، ويمارسون العدوان الحيواني على من يود اللقاء بهم أو مناقشتهم حول ما يكتبون، هذا أحد أسباب عشقي للمثل اللطيف الذي ذكرته في فاتحة المقالة.
2-
السبب الآخر لإعجابي بهذا المثل العربي وجدته في "القنوات" الفضائية، وذلك خلال متابعتي لبرنامج يتعرض للفتوى الجائرة التي تكفر الزملاء: عبد الله بن بجاد، ويوسف أبا الخيل، جاء بعض الصحافيين ليحللوا المسألة لفت نظري أحدهم عبر احمرار وجهه وهو أحد الصحافيين الرماديين، الذين يخرجون في الفضاء لا من أجل الدفاع عن "المجني عليه" وإنما من أجل التشفي وتفريغ الغل والحقد، وكنت أتمنى على بعض الذين خرجوا في الفضائيات -سواء من الذين يدّعون أنهم يناصحون الإرهابيين، أو من الذين يدّعون وقوفهم على الخط الوسط من الذين يسيرون وفق تحرّك "الفرص" من الذين لا يحملون إلا مشاريع بطونهم وكروشهم حتى ولو على حساب ضمائرهم- كنت أتمنى أن يلزموا بيوتهم وأن يناموا مع أولادهم وأن يحفّظوا صغارهم "جدول الضرب" أو "أنشودة المطافي" بدل الخروج في الفضاء بهدف طعن زملائهم الصحافيين من الخلف.
الشاشة تظهر كل ملامح الوجه: بعضهم يحمر وجهه من شدة الحسد وإرادة الانتقام، وقد كنت أحترم بعض هؤلاء لكنني حينما رأيت مواقفهم التي لا تنمّ عن حس مهني صحافي هتفت: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" فالموقف البشري الطبيعي: أن أي صحافي يكفّر أو يهدد يتضامن معه -كل- الصحافيين، لكن يبدو أن "التشويه" الذي تحدثت عنه سابقاً وصل سالماً إلى الصحافة.
3-
من جانب لغوي تشكّل علاقة التحريض اللغوي بفعل القتل علاقة إشكالية حتى في أوربا ونعوم تشومسكي عالم الألسنيات وفلسفة اللغة تطرق إلى مسألة (التحريض الكلامي على العنف والكراهية) بشيء من التوضيح، إذ التحريض بحسب تشومسكي يختلف، فـ(هناك طور يتخذ مكاناً له بين التفكير، إلى ارتباط التفكير بمسألة ما، إلى المشاركة في أفعال إجرامية، لذلك مثلاً ثمة ضروب من القول لا يُمكن لأحد القول إنها تحظى بالحماية) ويضرب على القِسم الأخير مثلاً إذ يقول: (افترض أننا ذهبنا إلى متجرٍ ما وكان بحوزتك مسدس وكنا نخطط لسرقته، ثم طلبت منك أن تطلق النار وفعلاً قمت أنت بإطلاقه على صاحب المتجر.. هذا فعلٌ كلامي غير أن أحداً لا يؤمن بأنه فعل يستحق الحماية إن هذا الفعل أنجزته بصوتي لكنها مشاركة في فعل إجرامي) فـ (الفعل الكلامي يجب أن يكون حراً إلى أن يرتبط بفعل إجرامي وشيك الحدوث) فمسألة (التحريض) المتصل بالعنف (الإجرامي) ليست منفصلة عن العنف نفسه، والتكفير هو بمعنى ما رخصة قتل، وهو الذي نشهده الآن عبر تكفير الصحافيين والكتاب إنها علاقة وثيقة بين التحريض والعنف، بين التكفير والتصفية، يجب على المؤسسات الرسمية أخذ هذا بالاعتبار، ويجب على الصحافيين السذج من الذين رقصوا طرباً لفتوى تكفير مسّت زملاء لهم أن يعرفوا أنهم يوماً ما سيلقون -ربما-نفس الفتوى وأنهم سيكفّرون أيضاً ولكن الأسوأ أنهم سيكونون في ذاكرتنا مجرد "انتهازيين" يركضون إلى القنوات من أجل نهش فرصة ولو على حساب الصمت أو التأييد لتكفير علني مسّ زملاء مهنة حتى لو اختلفوا معهم في الرأي.
4-
(جوليا كريستيفا) المتخصصة باللغات تصف التطرف المتعجرف الذي يستغل الدين والوطن والعرق لإلغاء الآخرين بأنه (لا يمكن أن يفكّك بنصيحة أخوية جيدة) فهو تركيبة ذهنية واجتماعية معقدة تغذت من منابع كثيرة، وعبر بذرة خفية أنتجت ثمار الشوك التي تجرعها الصغار والكبار، لقد جعلوا مستقبل الأبناء والأجيال على كفّ عفريت. إن التضامن بين قوى التطرف ضد الصحافيين عبر تكفيرهم موقف جماعي ضد الصحافة، لتحويلها إلى مجرد مطويات لا تتضمن أي نقد أو تصعيد. كما أن تضامن بعض الصحافيين مع التكفيريين ضد زملائهم "فضيحة" إعلامية وسقطة تاريخية وهو أعنف موقف انتهازي يمكن أن يشاهده المرء في حياته، ماذا نجني من هذه الحفنة من المناصب والفرص حينما نطعن زملاءنا من الخلف؟ يا لها من ضمائر رخيصة تلك التي تشترى بكعكة! أن تقف ضد زميلك طمعاً في تبييض سمعتك لدى قوى الظلام، إنها الهزيمة الساحقة التي تطال النفوس أولاً، ستهتف بالتأكيد بعد أن تشاهد هذه النماذج السيئة والمؤلمة على الشاشة: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه".
فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com