دور الجامعة في التنوير الفكري

لعبت الجامعات واساتذتها في اوربا دورا كبيرا وعميقا في ترسيخ مفاهيم الدولة الديمقراطية. اي المفاهيم الفلسفية والحقوقية للدولة ووظيفتها وموقع الانسان فيها.هيجل في المانيا كان يحلل الدولة سواء علاقتها بالمواطن او بالمجتمع المدني. هوبز كان يصوغ فكرة الحكومة المدنية. لوك كان يعالج ويصوغ فكرة المواطن.الموسوعيون يبحثون في روح القوانين وفي العقد الاجتماعي بين الفرد والمجموع وبين المجموع والدولة. هربرت سبنسر بحث في(الفرد في مواجهة الدولة) و(مبادئ السوسولوجيا والاخلاق) حيث يتحد التطور بالتقدم في جميع المجالات.

انطلقت الافكار التنويرية في اوروبا من الجامعات. التجربة جديرة بالدراسة والمتابعة.اليوم يسعى العراق الى تاسيس نظام ديمقراطي فدرالي. لكن الارضية الاكاديمية والفكرية لهذا التاسيس معدومة او فقيرة.

ان دراسة تاريخ الافكار مهمة اساسية لبناء النظام الديمقراطي. فالتعليم صمم النظام السياسي الديمقراطي لاوروبا، ثم نفذه السياسيون وبنوه مضطرين لانه اخذ يلبي مصالحهم السياسية تجاه الوعي العريض باهمية التحول من الاستبداد والحكم المطلق الى الجمهورية ودولة المؤسسات وسيادة القانون. ان اجيال العراق الحالية تفتقر الى مثل هذا التصميم، لان النظام الدكتاتوري حجب جميع الافكار والمفاهيم المناقضة له. وتتوفر الان فرصة واسعة لوضع تاريخ الافكار، وتكوّن النظام الديمقراطي في متناول الاجيال الجديدة لبناء وحماية النظام الديمقراطي الفدرالي وتطويره ليصل اعلى درجة ممكنة من التكامل والترابط.

لم يكن تصميم النظام الديمقراطي عملا منجزا في مرحلة، او من خلال شخص او جهة. انه تصميم عدة اجيال من المفكرين والفلاسفة والاكاديميين في عدة دول مثل بريطانيا وهولندا وفرنسا والمانيا والولايات المتحدة.انه تصميم بدأ من واقع المجتمعات الغربية. من واقع الحكم المطلق، والتساؤل عن مداه وشرعيته وصلاحياته،كما هو الحال قبل عشر سنوات في عالم الشرق الاوسط السياسي والاجتماعي حيث بدأ مثل هذا التساؤل قبل ان يتوقف بعد الحرب في العراق، ثم انتهى الى المشاركة السياسية وتداول السلطة عبر الانتخابات وكرس دور المجتمع المدني ومؤسساته، استنادا الى سيادة القانون وعمل الدستور كمرجعية لحل المنازعات من خلال البرلمان او القضاء المستقل او الاستفتاءات العامة.

انطلق دور التعليم في اوروبا من الافكار التنويرية للفلاسفة والمفكرين، بدءً باسبينوزا، الذين تحملوا مسؤولية صياغة المفاهيم والافكار التي تقوم عليها الدولة باعتبارها تمثل مطالب المجتمع.كما تحملوا مسؤولية صياغة مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني. وهذا يعني ان التعليم لم يعد يهتم فقط بالافكار الدينية كما كان شائعا في القرون الوسطى، بحيث اصبح التصادم بين العلم والتعليم سمة القرنين السابع عشر والثامن عشر، ليصبح القرن التاسع عشرقرن حرية البحث والتعليم بلامنازع، الامر الذي مهد لقيام الديمقراطية الاوربية كما كرس الثورة الصناعية باعتبارها نتاج الترابط بين العلم والتعليم.
لاننسى دور الافكار الاقتصادية الليبرالية والصراع الفكري لدور الاقتصاد وطريقة عمله في الدولة او في المجتمع حين برزت افكار ريكاردو وآدم سميث،وآلن وغيرهم، لتسير ايضا من الجامعات التي انتبه ماركس الى دورها من خلال فيورباخ وهيغل والنشاط الفلسفي للجامعات الالمانية في القرن التاسع عشر حيث ظهرت وتفاعلت الافكار الكبرى.

لقد كانت تلك المرحلة مرحلة تقويض سيطرة الدين على التعليم ومحاصرة التطور العلمي الذي تحرر وقاد الى اكمال الثورة الصناعية والدولة المدنية.
لقد كانت النهضة الصناعية والتكنولوجية لاوروبا مرتبطة بنمو راس المال وعلاقة هذا النمو بتطور العلوم والتعليم. اي ان المصالح المشتركة للجامعات والتعليم ارتبطت بمدى استفادة الشركات الصناعية واستفادة الدولة في انشاء المرافق العامة من مواصلات واتصالات وكهرباء ومياه وبريد وغير ذلك. وارتبط انشاء هذاه المرافق بمدى قدرة التعليم على انجاز الحاجات الملحة التي تولت الدولة حمايتها من خلال قوانين تكرس وظيفة الدولة كحارس للمال العام ومشرفة على تبادل المصالح سلميا، بعد ان كرس التعليم مفهوم دولة المواطنة ووظيفتها في توفير الرفاهية للمواطنين.

ان كلا من الميادين الانسانية من سياسة وفلسفة وقانون،والميادين العلمية التطبيقية من فيزياء وكيمياء وبيولوجيا، ساهم في تكوين اهمية التعليم في بناء الدولة والمجتمع وتطورهما على الاساس العلمي القائم على الدراسات والتجارب والاكتشافات والبحث عن مصادر اقتصادية من خلال التعليم والعلم، سواء داخل اوروبا او خارجها، الامر الذي ساهم في توسع النشاط الاستعماري خارج القارة الاوربية للبحث عن مواد اولية واسواق في نفس الوقت.
ان انتشار الجامعات في دول العالم العربي والشرق الاوسط يقوم بدور مضاد للدور الفلسفي التنويري للجامعات الاوربية، حيث يتكرس التعليم وفق افكار ومنطلقات دينية متزمتة بحجة الدين والاصالة والتميز عن العالم المادي للغرب، ويصبح التعليم العربي عاملا مكرسا للاستبداد واحادية النظرة والموقف ومعاديا للحريات باعتبارها تحللا اخلاقيا واباحية اجتماعية وضلالا فكريا وفلسفيا، وهي الافكار التي قادها جيش الظلام في العصور العباسية المتاخرة التي انشأها الوزير السلجوقي نظام الملك من المعلمين والشرطة ورجال الدين وجعلها تحارب الفلسفة والافكار الواقعية.

لو انتقلنا لالقاء نظرة عامة على مستوى واتجاه التعليم في العراق خلال العقود الخمسة الاخيرة لوقفنا على الظواهر التالية:
اولا: شيوع العقائد الايديولوجية السياسية التي تدخلت في تحريف مسار العملية التعليمية اذ ظهرت التربية السياسية لايديولوجيا الحكم، فقام تحليل التاريخ على هذه الايديولوجيا التي ادعت الاساس القومي فوصمت كل حركة معارضة للحكم بوصمة شعوبية او فارسية.

ثانيا: تمجيد الحكم وقياداته حيث اصبح غسل الادمغة نظاما للتعليم منذ الابتدائية
ثالثا: عسكرة التعليم وتوجيهه لخدمة النزعة العدوانية القائمة على تمجيد الحرب والعنف وعبادة الفرد وخلق الاعداء
رابعا: خلق الكراهية بين الامم والشعوب ومكونات الامة القومية والدينية ومحاولة تزييف التاريخ والبحث عن اسس تاريخية لتغذية النزاعات المعاصرة
خامسا: الاستعاضة عن العلوم وافكار الفلاسفة والعلماء ورجال دين بخطب قيادة الحكم واعتبارها منهجا للتفكير والعمل.
ان مهمة اصلاح التعليم في العراق تاخذ مكانها في سلم الاولويات من قبل اساتذة الجامعات وكفاحهم من اجل تحرير التعليم من المنطلقات غير العلمية والتي تقيد حرية التعليم وتحوله الى منصة لاطلاق الوعي الاجتماعي، بدل تحوله الى اروقة للتعصب والارهاب الفكري. ان تحرير التعليم من الافكار المغلقة يقود الى انشاء المجتمع الثقافي والعلمي السليم القادر على التعامل علميا مع الظواهر الاجتماعية والفكرية، والقادر على ان يساهم في تكوين نخب متعلمة بشكل صحيح وموضوعي تساهم في انشاء مجتمع قادر بدوره على التعايش والتسامح والتطور وعلى دفع الدولة لتكون وظيفتها اسعاد مجتمعها ومواطنيها في القرن الواحد والعشرين.

نبيل ياسين