أصداء

يوم للرفض...

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إنّ قضيّة "المساء" في مواجهة "القضاة الأربعة" وتفاعلاتها، والتي انتهت بمحاولة القضاء المغربي تغريم هذه الجريدة الشابّة - العميقة في نضاليّتها الإعلاميّة /الثقافيّة- مبلغا ماليّا مجحفا يقدر ب 600 ألف درهم، قد يفتّ من عضدها، ويخلخل قدمها، لكنه قطعا لا يزحزح طاقمها عن مبادئه قيد أنملة، قلت إنّ هذه القضيّة لم تورّط فقط مؤسسة القضاء بالمغرب في اعتقال حريّة التعبير(إن لم نقل إدماءها)، وإنّما كشفت عن خوفها البارانويائي من "سلاح الكلمات" (كما عبر عبد الوهاب البياتي ذات قصيدة)، ورغبتها في مواجهة المرآة أحيانا "من الظهر"، وأحيانا أخرى "بالظهر"، وهو الأمر الذي يحيل بالمقابل - كتحصيل حاصل- على مصداقيّة "المساء"، واحترامها للحقيقة، والميثاق الأخلاقي والمهني، رفضها الاضطلاع بدور "حاطب الليل"، هذا كله وغيره يأتي طبعا بعد احترامها للقارئ الذي لم يعد غفلا( ولم يكن في يوم كذلك، اللهم إذا أرادت بعض الجهات أنّ تزجّ به في دار غفلون عنوة، وهذا شأن آخر)...
يبدو لي أنّ بعض المؤسسات في المغرب لم تستفد، أو لم ترد الاستفادة من دروس الماضي، ووقائع التاريخ، ولم تستضمر قاعدة "كلّ ممنوع مرغوب"، لذلك فالخطوة التي أقدم عليها القضاء في ملف "المساء" تثير الشفقة و الرثاء ثمّ الحوقلة،تأسفا على هذا الركن من الدولة(الذي يفترض فيه أن يكون ركينا)، رثاء مبعثه غباء الحكم، وخرقيّته، ورعونة من يعتقد بأنّ القوّة تستقيم من دون عدل، وهذا لعمري ما عزب عن بال "القضاة الأربعة"، و "خامسهم الذي أتى بعد رعب"( إذا جاز لنا التصرف في قصيدة الشاعر العربي محمود درويش)...


ما يهم في قضيّة "المساء" التي تحولت -في تقديري- إلى قضيّة رأي عامّ، ليس هو حجم المبلغ( وهي طبعا غرامة قاصمة للظهر، وليست قاصمة للقلم)، أو إغلاق جريدة، فأنا موقن أنّ طاقم المساء باحترافيته العالية، يستأهل الاشتغال في أقوى وأضخم المؤسسات الإعلامية العالميّة التي تحترم نفسها وقراءها على السواء، ولا أشكّ في أنّ العروض الاستباقيّة/التسابقيّة قد بدأت تنهال عليه بالفعل، وقد كانت كذلك حتى قبل أنّ يلتمّ أفراده تحت خباء "المساء"، لكن ماذا سيحدث بالمقابل؟


ما سيقع للأسف الشديد، هو أنّ المشهد الإعلامي الوطني، ومن ورائه القارئ المغربي سوف يحرمان من منبر رصين، كان قد بدأ يؤسس لثقافة إعلامية جديدة( جديدة ليس بمعنى أنه لم يتعارف عليها من قبل، إذ أنّ أسسها متضمنة في الميثاق المهني، لكنها غائبة على مستوى الممارسة الحقيقية)، وتعاقد أخلاقي عميق قلما نجده على المستوى العربي، وسنعود مرة أخرى لسياسة "دير عين دميكة"،و "هادوك ديالنا" وغيرها من الأمراض، وسنجد أنفسنا فجأة "يتامى الخبر" بمعناه الحقيقي، وشيئا فشيئا سنرجع إلى "تعليم الجهل"( على حد تعبير المفكر جون كلاود ميشيه في كتاب بنفس العنوان)، وتبليد القلب والعقل معا... إذن من الخاسر في هذه اللعبة اللئيمة؟


إنّ "ضربة لمعلم" التي نزل بها القضاء المغربي على جريدة المساء، لم تستهدف الجريدة لذاتها أو لأفرادها، وإنما هي ضربة تتقصد "الميتا- مساء" (أو ما وراء المساء)، أيّ المجتمع المغربي بمتعلميه وأمّييه ومثقفيه، وهي في العمق نسف لكل المفاهيم التي ظللنا نؤسس لها عبر عقود، إنّه لأمر بغيض حقّا، أن تمتهن مؤسساتنا كل هذا القتل، لكننا لحسن الحظ لازلنا شعبا قادرا على الرفض، نصرخ مع معين بسيسو في مسرحيته شمشون ودليلة:
" من يرفض يا أبتي لا يتكلم في عبّه..
أو يصرخ في جيبه..
ليكن يا أبتي يوم واحد
يوم للرفض...
يوم نرفض فيه هذا الجلد المهترئ.. لكي ينبت جلد آخر...
يوم نرفض فيه الصمت، ونرفض فيه الهمس...
ونقاتل من أجل الضوء الأخضر..."
"إنّ لنا قدر الأجراس
إن كفّت تقرع... ماتت..."

نافل القول، إنّ القضاء بإقدامه على هكذا "قتل رمزي"، قد ينال من أفراد بعينهم، أو مؤسسة إعلامية بعينها، كما حدث قبل ذلك في ملف علي المرابط، وأبو بكرالجامعي، وغيرهما، لكن هل ينال من "معنى" قد "أمسى" مثل الهواء بالفعل؟


سامي دقاقي

كاتب من المغرب

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف