الزّاعقون ضد هيفاء وهبي

1-
إذا رأيت البرلمانيّ وقد نزع مؤخرته عن الكرسي الفخم الذي زرعها فيه منذ تعيينه وهو يتجه صوب "المايك" يطلب الفرصة للإدلاء برأيه تأكد حينها أن كعب فنانةٍ قد أدخل الرعب في قلبه وهي تهمّ بدخول مدينته! حينها يخرج من سكونه الطويل ونعاسه المرهق، وينتبه فجأة ليحترف "الزعق". يزعق بأمّ صوته ويجأر بنفَسٍ طويل ضد إعطاء تلك الـ"فنانة" تأشيرة دخول، مع ذلك الحدث تستيقن أن أجسام البغال وأحلام العصافير قد دبّت إلى البرلمانات بسلام. تؤمن حينها أن هذه "الديمقراطية" ذات الزخم الدعائي الجميل يمكن أن تحوّلها ثقافة "المجتمعات الرخوة" إلى مجرد نكتة سخيفة يرقص على سماعها الساسة والمختصين، حينما يصل البرلماني بمخّه الرجراج -كجسده- ويحتل كرسيّ الشعب ليصبح همه الأكبر إعطاء أو منع "التأشيرة" حينما يفرّغ البرلمان من قضايا حقوق الإنسان، وتهميش وسحق وسلخ المرأة، وتعذيب الأطفال، والاتجار بالبشر، والفساد المالي والإداري، والقضايا الكبيرة التي يرزح تحت نارها البلد ليصبح-البرلمان- مجرّد منبر خطابي لنشر المواعظ والحِكم والقصص القصيرة المؤثرة وغير المؤثرة، حينما تنحدر البرلمانات إلى أماكن باردة للتثاؤب والنعاس، إلى أماكن عريضة وطويلة لدلع اللسان بأمور سطحية سخيفة، وتهمل قضايا الإنسان الأساسية، حينما يتحول البرلمان من مكان شعبي تمارس فيه أدق الأدوار الاستشارية إلى مكانٍ لنقد الأغاني والكليبات العربية! حينما تنحدر البرلمانات إلى هذا المستوى تتساءل! أيّ عقول هذه.

2-
تستنفر الآن البرلمانات المحتلّة من قبل بعض من استغلّ الدين للترويج لنفسه، واستغلّ الدين أيضاً للهجوم على خصمه، واستغلّ الدين أيضاً لتهشيم مشروع منافسه، واستغلّ الدين لترويع الناخب -وإن سراً أو ضمناً- بخطورة مصيره إن لم ينتخبه هو فهو صاحب المشروع الحقيقي، يبثّ الرعب-كل الرعب- في قلب الناخب أنْ انتخبني وإلا فإن اللعنة ستحلّ عليك وعلى أهلك، هذه اللغة لن يطلقها -بالطبع- مباشرةً، ولكن حينما يخرج المارد الباطش إلى حملته الانتخابية، ويبتزّ الناخب بهيئة تدل على النقاء والصلاح يفرّ المواطن إلى الصندوق لينتخبه خوفاً من إثم يلحقه، أو لعنة تطارده هو وعائلته مدى حياته، هذا هو الابتزاز الديني الذي يمارَس من أجل احتلال البرلمانات وتحويلها إلى منصّات للخطابة والاستعراض اللغوي والشكلي، لذا ينتشر الزّعق الآن في البرلمانات العربية!

3-
ولكن ماهو الزعق؟ ما هو تعريف الزعق؟ هو: صوت يخرج من أقصى البلعوم يمرّ بالحلقوم إلى أعلى اللسان، ثم يقوم اللسان بجرّ الصوت إلى الخارج لتبرز العروق اللسانية والحلْقية مع شدّة الصدح بالرأي، الرأي الذي يخرج عن طريق تقنية "الزعق" البرلمانية رأي فارغ عادةً، فالزعق في بعض وجوهه مجرّد صوت مزعج وحادّ يخلو من المعاني المفيدة، والمعاني الجيدة لذا يمارَس الزّعق على عدة هيئات، أشهرها حالة "الزعق" البرلمانية التي تأتي على الشكل الآتي؛ يخرج البرلمانيّ من كرسيّه، ثم يتقدّم بنصفه الأعلى إلى من أمامه، ويرفع يده اليمنى إلى الأمام وغترته إلى الخلف، ليكون نصفه إلى الأمام ونصفه الأسفل في مكانه، ثمّ يتأكد من وجود "الكاميرا" ثمّ يبدأ بحفلة الزعق هو وكتلته النيابية حتى يرعب الخصوم ويلهب حماسة الناخب، ثم يهذر بكلام عريض لا معنى له، ثم يجلس على الكرسي ويمدّ تنهيدة طويلة، وفي بعض الأحايين يؤدي "الزعق" إلى اشتباك في الأيدي، وملاسنات بذيئة، بالتأكيد هي لا تعبّر عن وجهة نظر الناخب الكادح الذي ينتظر قرارات تخصّه هو وأطفاله وعائلته.

4-
أخيراً، فيا أيها السادة النواب، المواطن في البلدان العربية لا يريد الزعق والتثاؤب ومهرجانات الحسبة والخطبة، وإنما يبحث عن "دفاع" مستميت عن حقه لتثبيته من قبل الحكومة، ولا عجب أن تُحرج الحكومات أو تأسف لتصرّف بعض البرلمانيين الذين يمتلكون عقليات "حسبوية" أكثر من امتلاكهم للعقليات "البرلمانية" لذا يبتهج البرلماني بفرص الإدلاء بالرأي ليمارس الزعق والوعظ، بينما البرلمان يجسّد ذروة الحضارة البشرية حينما جعلت من هذا المكان الصوت أو المساحة التي يقف فيها الشعب أمام الحكومة، ولتسّهل إيصال صوت الناخب إلى كل العالم، بدل أن تتحول برلماناتنا إلى قاعة للصهيل والفحيح. البرلمانات الآن مشغولة بشرشف "أليسا" وبـ"واوا" هيفاء وهبي، وبـ"تأوهات" نانسي عجرم، وبـقصّة شعر" أمل حجازي، وبرقصات "ميريام فارس" بينما تقف الجماهير بالطوابير بحثاً عن "الخبز" ويأكل المواطن لحم "الحمير" و تبحث الأمهات عن أكلٍ لأولادهن في "سلة النفايات" ويسلخ الناس في المستشفيات تحت ذريعة "إجراء العمليات" والبرلماني العربي يحكّ مؤخرته على كرسيه وبين يديه ملفّ تأشيرة لفنانة، يلبس نظارته المقعّرة النازلة إلى قريبٍ من أرنبة أنفه، وقد لوى شفته السفلى من شدّة العمق والتركيز!

فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com