بيروت وحارسة الهيكل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"بارك بيروت، واحمِ حارسة الهيكل". هذا كل ما أستطيع قوله وأنا أشاهد بيروت على الشاشات غارقةً في النار والفوضى. لا أدري من أطلق على "فيروز" اسم: "حارسة الهيكل المقدّس اللبناني"، لكنني سمعتُ العبارة من ماجدة الرومي في أحد لقاءاتها، وأضافت الرومي: "ليس أي هيكل، لأنه هيكل مقدّس". لكن أبناء هذا الهيكل لا ينتمون إليه، يحبونه لكنهم يشبهون أسطورة الفينيق أكثر، كالشمس تموت نهاية كل يوم، وتعود لتولد في اليوم التالي، إنهم محكومين بالرحيل المستمر والانبعاث من جديد / بالهجرة عن الأرض التي يحبونها كثيراً. من هاجر منهم بجسده بقيت روحه في لبنان، أما من بقي جسده في لبنان فقد اختارت روحه أن تهاجر بعيداً، أبعد من أن تفكّر طويلاً إلى أي جهة تختار الانتماء، ولا أن تفرز الجهات التي ترتمي في أحضانها. حين أسمع خطابات السياسيين في لبنان فإنني لا أدين منهم أحداً، جميعهم على حق إلا بيروت، بيروت التي توشك أن تصرخ في وجوههم بغبن شاعر جاهلي: "وظلم ذوي القربي!"، لكنها لا تصرخ، من كانت المحبة بضاعته الوحيدة فإنه لا يجيد الصراخ.
الجميع على حق، حين تفكر كل طائفة في الأخرى فإن من حقها أن تحمي مصالحها، وحين يفكر كل عرق في التهديدات التي تحيط به من بقية الأعراق فإن من حقه أن يستعين بالخارج ليتسوّر في الداخل، متناسياً أنه حين يبني الأسوار من حوله فإنه لا يبدع إلا سجنه الخاص. هكذا إذن، هاجر فينيق بروحه إلى الخارج، ودائماً ما تكمن المشكلاتِ في الخارج. وفي وسط هذا العقوق لا زالت حارسة الهيكل المقدّس، منذ عقود، تغنّي لبنان، تحمله في قلبها وتصلّي، حين سُئلتْ: "لم تغادري بيروت في سنوات الحرب الأهلية، فماذا كنتِ تفعلين حين تشتد الاشتباكات؟" أجابت: "أغلق النوافذ، وأصلي". من يعرف شوارع بيروت يعرف قدسية هذه الصلاة، فالحياة في بيروت ثمينة جدّاً، لا يمكن أن تشعر بقيمة الحياة أكثر إلا حين تجد أن كل دقيقة مفتوحة على المغامرة والحرية والحب والخطر المحدق؛ وربما الموت المتربص. بضدها تتميز الحياة في بيروت. لهذا، كانت حارسة الهيكل تصلي داخل بيروت، أما عندما تقف على مسارح العالم فإنها تصلي بطريقة لا يفهمها كثيرون في الداخل اللبناني في حين يبكي لجلالها من بقيت أرواحهم في الداخل ومضوا بأجسادهم فقط إلى كل بقاع الأرض. تصلي على المسرح، فكل جمال هو شكل من أشكال الصلاة للرب، رب الجمال والمحبة والحرية والسلام، لا إله الحرب والدمار والضغينة.
***
عرفتُ صوت فيروز منذ الطفولة، منذ القرية ورعي الأغنام والمزرعة المحدودة التي تحفها الجبال الشاهقة، في هذه القرية الصغيرة بجنوب مدينة الطائف جاء صوتها المدهش لينثرني في عوالم لا أعرف ماهيتها، لكنه لامست روحي. عرفتها قبل أن أعرف لبنان، وقبل أن أرى بيروت التي حين جبتُ شوارعها للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب الأهلية أدركتُ سرّ أن يخترقك الصوتُ قادماً من بيروت كطائر الفينيق، إذ لا يبحث عن شيء سوى أن يغزو العالم بمحبته. كانت بيروت كأم قاسية على أبنائها في الداخل حتى تدفعهم إلى الخارج لتنشر رسالتها في العالم، وحين يغادر صغارها المرفأ تراقبهم بعين الرضا، لأنهم سفراء حضارتها العريقة، سفراء حضارة وليسوا دعاة حرب وفتنة، وهو دور لا يفهمه من بقي داخل البيت اللبناني لأنه لم يفهم سرّ قسوة بيروت فأوغل عميقاً في انغلاقه.
قبل أيام تابعتُ لقاء بثته إحدى القنوات اللبنانية مع سعيد عقل، أذهلني أن يكون قد وصل إلى هذه الدرجة من التطرف في الحب، وإن كانت محبته تنصبّ على دائرته الخاصة، فإنه لم يتعمد الأذى لأي شخص أو فئة أو طائفة أو عرق. حين أنصتُ لصوت فيروز يرتل: "من راكعٌ ويداه آنستا"، أدرك أن محبة الناس، ومحبة الآخر أياً كان، لا تبدأ إلا بعد أن يحب الإنسان نفسه. وسعيد عقل أحب دائرته الخاصة حتى فاض على مكة من شرفة رأى فيها قدّيساً راكعاً بجوار البيت العتيق يرتل المحبة بأسلوبه الخاص. وليس عقل وحده من اقترف الحب: "وأعز رب الناس كلهمُ؛ بيضاً فلا فرقت أو سودا "، فكثيرون فعلوا ذلك، وجلهم هم من كان يحيط بحارسة الهيكل كي يصنع منها رمزاً للمحبة كما تريدها بيروت: الرحابنة، جوزيف حرب، طلال حيدر، فيلمون وهبي، زكي ناصيف، نصري شمس الدين.. والقائمة تطول.
***
هي ذي حارسة الهيكل، وهؤلاء القليل الذين أحاطوا بها، هم من يفهم فلسفة بيروت جيدا، فيحلم بهجرة صحيحة على طريقة الفينيق، إذ ليس من الممكن الإخلاص حدّ الرعب لطريقة الشرق في النظر إلى التعدد، التعدد في جميع بقاع الدنيا سبب إثراء ودافع إبداع وخلق، إلا في الشرق الذي ينظر إليه على أنه سبب فرقة وضغينة ورصاص. الفينيق يهاجر بجسده، وتبقى روحه في قلب بيروت لتولد مع كل شمس، أما إن بقي جسده فإن على روحه أن تهاجر، لكن ليس على طريقة الخديعة والاستعانة بالخارج لجلب الدمار، بل عن طريق الحضارة والفن. هي ذي المعركة التي أخلص لها تاريخ لبنان عبر التاريخ، معركة الحضارة وليست معركة الفوضى والدمار. وقليل من أبناء الداخل اللبناني هم من يدرك هذه الرسالة، أما البقية، وهم الأغلبية، فقد فهموا الحرية والتنوع، التي لا تتوفر لكثيرين من حولهم، بطرقة خاطئة، فمزقوا قلب لبنان بالعمالة والانسياق لمغامري الشرق وقراصنته الذين يرون أن ذبح بيروت في كل مرّة يحقق مآربهم القومية، أو أحلامهم التوسعية.
***
مساء الأربعاء الماضي، حين وصلت فرقة فيروز من الشارقة إلى مطار مبتور عن أي وصول أو فرح بسيط بالإياب، أعلن الفرقاء حرصهم على سلامتها. من يمس حارسة الهيكل المقدس يقتلع أرز لبنان، ومن ينصب في طريقها خيانة فكأنه يخون إرث الفينيق. اجتمع الفرقاء على حارسة الهيكل، فقط لأنها من القليل جداً الذي هاجرت روحه بطريقة صحيحة عبر الفنّ، الصوت الذي يلامس الأرواح في ديار بعيدة فتتعرف إلى لبنان عبر صوتها. أخبرني أحد أصدقائي عن حرص صحفية أجنبية على المرور بمحل لبيع الأسطوانات الفنية في مدينة سعودية، وحين أخبرها أنها لن تجد ما تبحث عنه، فالأغاني الغربية قليلة هنا، أجابته أنها تبحث عن فيروز. قالت إنها لا تفهم اللهجة، ولا تتحدث العربية، لكنها تفهم صوت فيروز.
وفيروز تفهم رسالة بيروت، لكن أبناء بيروت لا يفهمون طبيعة الرسالة، لهذا لا يفكرون إلا في دوائرهم الضيقة ويحلمون بإبادة أي آخر لا يشبههم. بيروت التي أرسلت أبناءها إلى جميع جهات الأرض ليشاركوا في نشر حضارتها، وبيروت التي أخرجت فيروز شاهدة على قدرة الفينيق في إيصال صوته إلى أقاصي الدنيا، هي ذات المدينة التي تعجر اليوم عن إفهام ساستها أن المحكوم بالهجرة حين يختار هجرة روحه إلى الخارج لا يعني ذلك أن يتحوّل إلى مرتزق أو عميل، فهناك خيارات أبقى كثيراً من لحظة إطلاق الرصاص، إنها أنشودة الحب والسلام، ورسالة الفنّ الذي يذهب بعيداً ويعيش طويلاً، خيارات كثيرة متحضرة لا بد أن يقترفها أبداً: "لبنان الحضارة والشعب العنيد".
ليس هناك الآن، وأمام هذا الكمّ من الخراب المؤسف والمستمر، إلا صلاة واحدة: "بارك بيروت، واحمِ حارسة الهيكل". الهيكل المقدّس بإرثه الحضاري والتاريخي، والمسيّج بمحبة أبنائه الذين هم حراس قداسته بآدابهم وفنونهم الرفيعة لا بالأسلحة والحزن والدماء.
حامد بن عقيل.