ماركس ما بين النقض و وعي الضرورة 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
( الحلقة الثانية )
في الحلقة الماضية تم التركيز المقتضب على الإشكاليات الحرجة في الفلسفة الماركسية، تلك الإشكاليات التي وإن تضمنت شيئاً من النقض، أنصبت بالنهاية في جدلية الفكر الماركسي، لأنها أنطلقت بالأساس من الأدراك العميق لجوهر وروح تصورها، كما أنها تتوازت معه ليس على صعيد الذاتي المنغلق، بل على صعيد المحايثة الموضوعية لجدلية القوانين في الطبيعة وفي مبادئ المادة المدركة الواعية نفسها. فأي استبعاد لتلك الإشكاليات هو أستخفاف بالعقل الماركسي الطبيعي وحتى إزدراء للمنطق ولديالكتيك الفكر.
وإذا عرت تلك الإشكاليات أوجه المآزق في الفلسفة الماركسية، فهي، من جهة، أقل إحراجاً في حديتها وتنوعها من تلك التي تنبعث من كل، وأقول من كل التصورات الأخرى دون أستثناء، سواء كانت على شكل فرضية، أم على صورة نظرية، أم على شاكلة معتقد، أم على هيئة دين وديانة، أم على طراز طرح فلسفي أو فيزيائي رياضي. وهي، من جهة أخرى، تجابه خصائص ومزايا الفكر الماركسي، تلك الخصائص والمزايا التي تزداد ثقالة و صقالة مع نسق النطور والزمن الموضوعي والتي لاتتكور ولا تتمظهر إلا بعد الضنى والضنك والتأمل.
وقبل أن نسرد هذه المزايا لامناص من وضع بعض الأمور في نصابها الفعلي، لاسيما بعد أدراكنا العميق للممارسات اللاماركسية ~ للأسف ~ التي قام ويقوم بها الحزب الشيوعي السوري ( بكل أجنحته )، والتي أوصلت البلاد إلى هذا الواقع المزري. ولاسيما أيضاً بعد هذه الأرتباكات النظرية بخصوص المسألة الماركسية في مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني. الأمر الأول. ينبغي أن نتحاشى أستعمال العبارات التالية ( الأسترشاد بالماركسية لدراسة الواقع، الأهتداء بالنظرية الماركسية، هنالك توجه ماركسي، هنالك اسقاطات ماركسية... الخ ) لأن الماركسية هي وحدة مختبر كيميائي في وحدة الموضوع في وحدة التفاعل في وحدة العلاقة في وحدة النتيجة، ومن الأستحالة أقتطاع أبعاده، أو الفصل مابينها، أو الأرتكان إلى ظاهرياته الجزئية. وسنرى عند دراستنا لمزايا الماركسية كيف إنها تمثل الجزء الأول من القانون البيوفيزيائي العام ( قانون الكل أو اللاشيء )، أي هي كالنهر يسيل، شئنا أم أبينا، شاءت الأقدار أم أبت. فالمختبر قائم والطبيعة لاتلتزم إلا بقوانينها والوجود لايدرك إلامبادئه. الأمر الثاني. نجافي المنطق والحقيقة إذا قلنا ~ مقتبس من مشروع التقرير السياسي المشار إليه سابقاً ~ ( والمنهج الماركسي لدراسة الواقع، وصولاً للقوانين العامة التي تتحكم في مسار هذا الواقع، قادر على تجديد نفسه على الدوام، أنه منهج قابل للتعديل حذفاً وإضافة وفق ما تمليه ضرورة تجدد الواقع ). هذه كارثة في العلم الماركسي، ويحتاج الأمر إلى أكثر من مقال لأستظهار بطلانه وعطالته، لكن دعوني أركز على تاحيتين. الأولى أن المنهج الماركسي لابجدد نفسه على الأطلاق، أنه واحد ذو وحدة لأنه قانون الطبيعة، ومثله مثل كل القوانين في الطبيعة، يحافظ على وحدته رغم تغير وتبدل محتوى أطرافه، فعقد الزواج هو واحد لكن محتواه يتبدل من أحمد إلى عمر، من فاطمة إلى زينب. وكذلك المعادلة الرياضية ما بين المسافة والسرعة والزمن هي واحدة لكن قياسات أطرافها تتبدل حسب المختبر العيني. الثانية. ما هي هذه ( ضرورة تجدد الواقع) وهل أدرك الحزب الشيوعي السوداني ما المعنى الماركسي من هذه العبارة؟ إذا ما أستثنينا ضرورة ( وعي الضرورة ) التي لابد منها حين الأنتقال، ضمن التشكيلة التاريخية الخامسة، من المرحلة الأنتقالية ( الأولى ) إلى المرحلة الثانية ( المرحلة النهائية الشيوعية )، حيث يتم من منطق ومنطلق تلك الضرورة الأضمحلال النهائي لمفهوم الدولة، السلطة، القانون، والأنتفاء التام لمحتوى الصراع الطبقي، الملكية الفردية الخاصة، الأستغلال، الأستعباد، لاتوجد ضرورة إلا مسألة حتمية الصراع الطبقي ما بين الطبقة الظالمة المضطهدة ( بكسر الدال ) والطبقة المظلومة المضطهدة ( بفتح الدال ). أما ما تبقى من المسائل، كالوضع الخاص للدولة، كمسألة الفلاحين في الصين، كمسألة تطور الطبقة العاملة في بلدان الشرق الأوسط، فهي مفارقات في محتوى النظرية العلمية الماركسية. والمعيار الذي يحدد الجوهرهنا هو السمة السائدة التي بطبعها تاريخية والتي على ضوئها يكون التمايز ما بين المجتمع السوداني والأميركي، والمجتمع المكسيكي والهندي، والمجتمع البرازيلي والكندي هو تفارق في الدرجة وليس في المرحلة. الأمر الثالث. إن من أهم المعضلات التي تعاني منها الأحزاب الشيوعية الشرق الأوسطية وقوعها في مصيدة السياسة ولاسيما جنوحها إلى إستلام السلطة، وأصرارها على إقامة العلاقات. في حين أنبغى إدراك التصور الماركسي الذي يؤكد أن علاقات الأنتاج تفرز، من جملة ما تفرز، الوعي الموازي، والتركيز على أبعاد هذه المسألة بصورة تخمرية. لأن الطبقة المظلومة لاتعي تاريخانية ذاتها على طول الخط، ولأن التفاعل التطوري لايمكن إلا أن يكون في خدمة الطبقة العاملة. و بالتضاد عندما هرعت الأحزاب الشيوعية في المنطقة إلى ( المواقف السياسية ) أضطرت إلى التعامل معها مثل تيارات البرجوازية الصغيرة، وعندما هرولت إلى إقامة ( العلاقات ) تغافلت عن منطوقها الماركسي، الذي يضفي على مفهوم ( العلاقات ) نوعاً من ذهنية البنى الفوقية ( الرمال المتحركة الخادعة ) التي تقتضي بالضرورة، إلى جانب دور علاقات الأنتاج، وعيها الموازي. و عن غياب هذا الأخير نجمت معضلات لتلك الأحزاب التي بدلاً من أن تلتزم بالفكرة ألتزمت بالمواقف والعلاقات ورضخت لتبعاتها، وعوضاً عن أن تحث وتحض على تطور التاريخ نفقته، وتناست إن الجهة الوحيدة التي تخشى تطور التاريخ ماركسياً هي الطبقة البرجوازية وليست الطبقة العاملة!
إلى هذا وذاك، ما هي المزايا الجوهرية للفكر الماركسي؟ وهل صحيح أن الماركسية أستقت مرتكزاتها من المصادر النظرية التالية: الأقتصاد الأنجليزي الكلاسيكي ( دافيد ريكاردو، آدم سميث )، الفلسفة الألمانية الكلاسيكية ( جدلية هيجل المثالية، أنتروبولوجية فيورباخ المادية )، الأشتراكية الطوباوية النقدية ( سان سيمون، شارل فورييه )؟ أعتقد ان المسألة أبعد من هذا التصور، لاسيما إذا أدركنا أن ماركس وهيجل من أكثر الفلاسفة وعياً للاهوت المسيحي ولمنطوق دورة الكمال التاريخي للخطيئة، ولاسيما إذا أدركنا إن للماركسية مزايا شديدة الخصوصية. الميزة الأولى. الماركسية التي هي ليست تجربة، كما أنها ليست أنعكاساً للواقع، فهذه مسألة منغلقة وسطحية وتصح بصورة جزئية، هي الكلي النسبي الجامع المانع في وحدة المختبر الواحد، أو بتعبير غير فلسفي هي الواقع وميكانيزم تفاعلاته، هي الأشياء وقوى نموها، هي صيغ وصياغة الوجود ومبادئه وتطوره، لذلك هي تمقت التطبيقات الجامدة وتنفر من الأطروحات الجاهزة، لذلك هي تستميت في الدفاع عن تطور التاريخ ليس لأدراكه فقط إنما لتغييره على مستوى الدرجة والمرحلة. الميزة الثانية. هي ليست نظرية في علم الأجتماع وحده كما يعتقد البعض، أنها نظرية ومنهج في الطبيعة والوجود، في الفيزياء، في الرياضيات، في البيولوجيا. وهذه هي أهم مصادر القوة في الرؤيا الماركسية. لأنها لاتغلق على نفسها أبعادها في مرحلة معينة أو عند حد مرسوم، أنما كما أنها لاترنو أن تكون أنعكاساً للواقع تصيخ السمع إلى أكتشافات الفيزياء، البيولوجيا، الرياضيات، علم الفلك، لالتغير من طبيعتها كما توهم البعض، بل سعياً منها التقرب إلى وعي نسبية الحقيقة التي تتكامل وتغدو أكثر أشراقاً. الميزة الثالثة. هي لاتخضع لا للواقع ولا للموضوع، أنها العلاقة ما بين الأثنين، أي العلاقة ما بين الموضوع والواقع. وأرجو الأنتباه إلى أن هذه العلاقة تتفارق وتختلف عن تلك التي ما بين الذات والموضوع، ما بين الشكل والمضمون. فالعلاقة الثانية تحوم حول محور مكشوف ومخصص ولاتتجاوز أطرافها، في حين إن العلاقة الأولى، العلاقة المقصودة، تتجاوز أطرافها ولاتحوم حول أي شيء بل تصبو إلى التطور التصاعدي. وإذا رسمت العلاقة الثانية محوراً دائرياً / أهليليجياً مثل دوران الأرض حول الشمس، فأن العلاقة الثانية ترسم محور دوران الأرض في الفضاء. الميزة الرابعة. هي ليست نظرية لذاتها، بل هي نظرية في ذاتها. وما المقصود من ذلك هنا؟ الماركسية تستهدف الأتجاهات المتحركة مع الميكانيزم الراجح ونوعية السيرورة وكيفية الصيرورة و لاتحدد الأبعاد المستقبلبية الجامدة التي تهدم التصور الماركسي. ومهما كانت النتائج فأنها لاتنفلت من النسق الماركسي. أما في الحالة العكسية، أي فيما لو كانت نظرية لذاتها، لكنا إزاء نظرية مادية ساذجة أحادية الجانب. الميزة الخامسة. الماركسية لاتسعى إلى وضع تعريف نظري للمفاهيم التالية الحرية، المساواة، العدل. لأن هذه المقولات مثل غيرها هي جزء أصيل من أنساق تسير على هدى مستغرق في محتوى ومعنى وتطور الطبيعة والوجود.
بهذا، نكون قد بلغنا موضوع الحلقة الثالثة..
هيبت بافي حلبجة
heybat@maktoob.com
التعليقات
استغراب
مثقف مسيحي معتدل -استغربت من ان مراكس واعي للاهوت المسيحي , وكما تقول كونه يعلم بوجود الخطيئة منذ بداية الكون اي تاريخ قديم وتطور تاريخ الخطيئة موجود في الكتب السماوية التي لا يعتبرها مرجع لافكاره , واعتقد انك قصدت تطور الخطيئة من التاريخ حتى يومنا هذا تبعا لظروف العصر ومعطياته وهي التي يؤمن بها ماركس بتغير الامور حسب ظروفها وبالتالي فهو لا يمثل الواقع كونه متغير حسب تقلبات الطبيعة وقوانينها , وكذلك ليس بنظرية ثابتة صالحة لكل زمان ومكان , وبالتالي هو مختبر تجارب في سعيها الوصول للحقيقة وهو ما فهمته من هذا المقال , الا ان اللاهوت المسيحي فهو اي نعم واقع وملموس ولكنه غيبي وهذا طبعا حسب رايي , وبالتاكيد ليس نظرية ثابته لان اللاهوت غير محدود , فهل ماركس آمن به كونه ليس واقع كتعريفه كونه غيبي وليس نظرية ثابتة كونه غير محدود , وبالتالي حاول الوصول الى دمج ما بين الاثنين للوصول الى لاهوت متمثل بيسوع المسيح يمحي واقع الخطايا بتطوراتها التاريخية , انا اشك بايمانه بهذه الطريقة كون مبادىء اللاهوت مناقضة لافكاره , خاصة وان الاساس في فكره هو تفسير الامور المادية بجعلها البنية التحتية , ومن ثم الثقافة والتي جعلها بنية فوقية , وهذا منطلق الحاد في تفسير واقع المجتمع من منطلق مادي اولا اتمنى من الكاتب ان يعلق , وذلك حتى نستطيع ان نتفق على فكر موحد لمنطق ماركس في فهم تطور المجتمع , مع كل التقدير والاحترام
أتفق ولا أتفق
د. أحمد أبراهيم -على ما يبدو ان الكاتب يملك باع طويل في المسائل الفكريةوخاصة فيما يتعلق بالماركسيةلكن على ما يبدو لي ان ماركس نفسه لم يذهب هذا المنحى فهل هذا تطوير للماركسية اضافة الى ذلك لولا هيجل لما كان ماركس لما كانت المادية الديالكتيكية ولولا ادم سميث ما كان الاقتصاد الماركسي ثم لااعلم لماذا يتم التركيز على ماركس وننسى دور انغلز الذي حسبما اعرف له باع طويل وجهد دؤوب وكتابات رائعة في هذا المجال فلماذا يبخس الكاتب حقه هذا لذا اقتضى التنويه وشكرا اامل النشر
توضيح
الكاتب -إلى أخي ال(مثقف مسيحي معتدل ) المسألة في جوهرهاتكمن في أن ماركس وهيجل كانا على دراية فائقة بدورة الكمال التاريخي في اللاهوت المسيحي الذي يركز على أن الأنسان كان يعيش في وئام إلى أن حدثت ( الخطيئة التاريخية الكبرى ) حيث منذئذ يعيش الأنسان في حالة أغتراب ، إلى أن يأتي سيدنا المسيح ( عليه السلام ) لأنقاذ البشرية فهو المسيح ( مسيح الخطيئة ) وهو المفدى ، المخلص ، المنقذ . على أثر ذلك يعود التاريخ إلى وضع ماقبل الأغتراب ( الخطيئة ) . هذه الدورة كانت واضحة لماركس الذي طبقها على ( التاريخ ، المجتمع ،،الخ ) والمراحل الماركسية مابعد المشاعية يماثل مرحلة الخطيئة وتستمر حتى المرحلة الثانية في التشكيلة التاريخية الخامسة ( الشيوعية ) بعدها يعود التاريخ إلى سابق عهده ، وهذا ما طبقه هيجل على ( الفكرة ) .... وهذا صديقي الحبيب ليس له علاقة بإيمان ماركس بمحتويات اللاهوت المسيحي والأمور الأخرى التي أشرت إليها ...مع فائق التقدير والأحترام وشكرا..