صناعة المفاهيم: حيل أمريكا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لن يُخطئ المراقب للشأن الأمريكي -في جانبه الثقافي- أن الرئيس الأنيق جورج بوش اعترف بأنه مدين للمدرسة الفكرية التي تعمل معه، والتي طالما أفادته في إيجاد خياراته واتخاذ قراراته.. ولا يبالغ بعضهم إن قال إن هناك إدارة في البيت الأبيض تُسمّى "إدارة صناعة المفاهيم"! وللهِ ما أجمل هذه الإدارة التي تُساعد الإدارة الأمريكية للخروج من مآزقها، فالمراقب يدرك أن أمريكا دائماً تخرج من المأزق بصناعة المفاهيم!
وكما يتلكأ العرب باللغة من خلال الفرق بين "مطاردة" و"متابعة"، ومثلما خرج الخليفة معاوية من مأزق قتل عمّار بن ياسر، الذي جاء في الحديث النبوي أن عمّاراً تقتله الفئة الباغية، حين قال: (إنما قتله من أخرجه)، ويقصد بذلك الإمام علي بن أبي طالب الذي أخرج ياسر للقتال معه، الأمر الذي جعل عبد الله بن عباس يرد على معاوية بقوله: (إذاً الرسول صلى الله عليه وسلّم هو من قتل حمزة بن أبي طالب لأنه أخرجه للقتال)!
مثلما يحدث ذلك كله، وجدت الإدارة الأمريكية الحالية في صناعة المفاهيم مخرجاً لها في كل أزمة تواجهها!
إن العلاقة بين السياسة والفكر كعلاقة الرجل بظلّه، وهذا ما يحدث في المجتمعات الراقية بصورة عامة، "حيث لا انفصال بين ميدان السياسة وعالم الفكر على اختلاف مدارسه وتياراته، ولكن هذا ما يمتاز به المجتمع الأمريكي بنوع خاص، بدليل تكاثر معاهد البحث ومؤسسات إنتاجه وتداوله بصورة لا نظير لها في مجتمع آخر"!
وحتى يتضح المقال لابد من إيراد أكثر من مثال: عندما تورطت أمريكا في الفوضى العراقية، صاغت مفهوم "الفوضى الخلاقة"، وعندما صارت الصورة ضبابية، صاغ السيد هنري كيسنجر مفهوم "الغموض البنّاء"، وعندما نادوا بعملية السلام صاغوا مفهوم "السلام العادل والشامل"، ولا أحد يعرف كيفية العدل، ولا ميدان الشمول! ولا يغيب عن القارئ آخر المصطلحات، مثل مفهوم "الحرب على الإرهاب" و"محور الشر".. الخ.
من يذكر مفاهيم "النسر النبيل" و"عاصفة الصحراء" و"الخلايا النائمة" و"العدالة المطلقة" التي استبدلت بـ"الحرية الدائمة" عندما رفض المسلمون المفهوم الأول؟ ومن يقرأ الآن سيجد "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، و"النظام العالمي الجديد"، ولا يبعد عن الذهن مفهوم "صدام الحضارات"، و"نهاية التاريخ" و"عدالة بلا حدود"!
إن القضية ليست في تصويب هذا المفهوم، أو تخطئة ذلك، فهذه مهمة "المجانيّين"، أو لنقل من يبرعون في إبداء الرأي من غير أن يُطلب منهم، ولكن القضية هنا في فهم اللعبة، وفهم الأنظمة والعبارات والسياق والدلالات! وفي ظني أن مسألة إدارة "صناعة المفاهيم" في البيت الأبيض، ليست أكثر من "تنقيز بلوف" للعرب، فالإدارة تصنع المفهوم ويعكف العرب عليه تحليلاً ودرساً وشتماً ورفضاً! خذ مثلاً عندما أطلق الأخ المحترم فوكوياما -وهو من هذه الإدارة- مفهومه "نهاية التاريخ"، ترك العرب بعارين ومزايين إبلهم وصحرائهم وحلالهم، واتّجهوا إلى هذا الـ"فوكو" يشتمونه ويلعنون فكره، بل إن أحدهم وضع مقابلة أجراها مع هذا الـ"فوكو" في كتاب مستقل من شدة الفرح بهذا الرجل الذي "أنهى التاريخ"، وبدأ يحتلّ "بداية الجغرافيا"!
وهذا الموديل -أعني مفهوم نهاية التاريخ- قد شغل الجماعة العربية وعباقرتها من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي جعل الأستاذ المتألق وائل ميرزا يقول: (لقد أصبح صنماً يرجمه العرب كلما عنّ لهم الحوار مع الغرب).
يا قوم تفقّهوا في "مذهبكم السياسي" و"علمكم الحياتي"، قبل أن تخرجوا من الحياة خائبين، لم تقدروا حتى على فهم "مفهوم"، فضلاً عن الجرأة على صياغته أو اختراعه، وأنتم أهل صناعة الكلام وذوو الصناعتين "الشعر والنثر"!
أحمد عبد الرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com