أصداء

الإنسان.. وفصل الدين عن السياسة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبر التاريخ، دائما ما كان الدين تعبيرا عن القوة وممزوجا بالسلطة السياسية، ولم يكن ذلك عجيبا، بل العجيب أن يطالب البعض في الوقت الراهن بفصل الدين عن السياسة، وبالذات في المجتمعات المسلمة، الأمر الذي يتنافى مع المسار التاريخي للشريعة الإسلامية. فالدين يعتبر أحد القوى الكبرى المؤثرة في تطور وتغير المجتمعات على مر التاريخ، لذا كان اختلاطه بالسياسة أمر طبيعي. وقد كان للدين المسيحي قبل ظهور الإسلام تأثير كبير على امبراطورية الروم الشرقية بعد أن تبنى الانبراطور قسطنطين المسيحية دينا للدولة عام 313 وجعل الحكم سلطة سياسية بإيديولوجيا دينية. كذلك كان للدين اليهودي ملوك/ أنبياء مثل داوود وسليمان. فيما شكل نبي الإسلام دولة إسلامية، وأصبح الدين عاملا رئيسيا في توسيع الرقعة الجغرافية للدولة. غير أن الأمور تغيرت في العصر الحديث، وبرز فصل الدين عن السياسة، وتغيّر تأثير الدين على الحياة السياسية بل على مجمل مسائل الحياة.


وهنا نثير التساؤلات التالية: لماذا ظهرت العلمانية في العصر الحديث، وبرزت مسألة فصل الدين عن السياسة؟ وكيف حصلت على تأييد واسع من قبل الإنسان بحيث لم يعارضها أو لم تكن هناك حاجة إلى أدلة على ضرورتها وأهميتها؟ لماذا لم تكن العلمانية حالة طبيعية في الماضي؟ ولماذا كان المزج بين الدين والسياسة من القضايا الطبيعية "البديهية"؟ إن انجازا على صعيد الفكر والثقافة البشرية قد حصل ما أدى إلى ظهور تلك النتيجة.


لاشك أن البشرية حينما تنتقل من مرحلة ثقافية قديمة إلى أخرى جديدة فإن "بديهيات" المرحلة الماضية قد تصبح "غير بديهية" في المرحلة الجديدة، وستتحول قواعد وأسس المرحلة الماضية إلى استثناءات في المرحلة التاريخية الجديدة، وهذه قد تتحول إلى قواعد وأسس جديدة. ومع انتقال البشرية من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة الحداثة في هذا العصر، فإن الكثير من "البديهيات" التاريخية أصبحت استثناءات، في حين ظهرت "بديهيات" جديدة في الواقع الراهن كانت تعتبر في الماضي استثناءات.


إن الدليل على أن مسائل معينة أصبحت "بديهية" في الحياة العامة في عصرنا، هو أنها أصبحت تعتبر ضمن القضايا التي يطلق عليها بالقضايا الطبيعية، أي ما عاد الناس يعتقدون بأنها تتنافر مع الواقع أو أنها تحتاج إلى أدلة تثبت طبيعيّتها. ومن "البديهيات" الراهنة التي ارتبطت بالدين ولم تكن "بديهية" في الماضي، عدم قبول أن يكون الدين وسيلة للإستغلال في أيدي الساسة، وعدم جعله طريقا للثراء.
إن الصراع الذي نشب بين العلم والدين في العالم الغربي في القرون الوسطى كان له تأثير كبير على انتقال الإنسان من مرحلة ثقافية وفكرية معينة (قديمة) إلى أخرى (جديدة)، من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة الحداثة. فالصراع كانت له آثاره على العديد من القضايا والمسائل. والكثير مما احتوى عليه الكتاب المقدس لم يكن يتماشى مع العلوم الجديدة، وهو ما أدى إلى انقسام الناس في تحديد توجهاتهم: إما القبول بما يقوله الإنجيل والتوراة، وإما تأييد العلوم الجديدة. وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى حدوث زلزال عنيف في إيمان الغربيين بـ"حقيقة" الكتاب المقدس، الأمر الذي أدى إلى صعوبة عودة الماضي الديني المنهدم واستحالة إصلاح "الحقائق" المنكسرة. فالحياة الفكرية الثقافية انتقلت من مرحلة قديمة إلى أخرى جديدة، تهدمت خلالها "بديهيات" دينية وفكرية معينة وتم تأسيس "بديهيات" جديدة، وتبدّل الفهم الديني والعلمي القديم إلى فهم جديد، وتمّ بناء منظومة جديدة من "الحقائق" تتماشى مع الواقع الجديد بعد أن تم تجاوز "الحقائق" القديمة واعتبارها غير صالحة لكل زمان. بعبارة أخرى، كان الصراع بين العلم والدين صراعا بين "حقيقتين" (أذكته بالدرجة الأولى أفكار كوبرنيكوس وغاليليو حول كروية الأرض ونظرية التطور عند داروين)، وكل واحد منهما كان يدافع عن "حقيقته"، وقد صبت نتيجة ذلك في وعاء تطور العلم وإصلاح الفهم الديني. فالغرب أصبح يعيش راهنا في ظل دين لا يحتكر الحقيقة، وعلم لا يتسلط على الدين أو يسعى إلى إلغائه.


من النتائج المهمة التي أفرزها ذلك الصراع أنّ الإنسان أصبح محورا رئيسيا في جميع قضايا الحياة الحديثة، حيث مع بداية عصر النهضة أصبح احترام حقوق الإنسان ميزانا جديدا يستخدم كوسيلة لقياس جميع القضايا والمسائل، من سياسية وأخلاقية وفكرية ودينية. فجميع الأشياء يجب أن تقاس في إطار احترام حقوق الإنسان لا في إطار "الحقيقة". وحتى "الحقيقة" نفسها لابد أن تخدم الإنسان لا أن تضرّه وتقف في طريق تطوره وتقدمه. ففي عصر ما قبل الحداثة كان الإنسان مستسلما "للحقيقة"، في حين لابد "للحقيقة" في الوقت الراهن أن تستسلم للإنسان.
في الجانب الإسلامي لم تمض الأمور في هذا الاتجاه. فالنظرة الدينية الشمولية غير الإنسانية لا تزال هي المهيمنة. وسبب ذلك هو سيطرة التفسير المناهض للإنسان على الفكر الديني وعدم وجود رؤية واضحة لدى مدرسة التفسير الديني تجاه العالم الحديث والإنسان الجديد. فتفسير الدين لايزال غير حداثي ومناهضا لقيم الحياة الجديدة وحقوق الإنسان، بمعنى أنه لايزال يتبنى الرؤية التاريخية غير الإنسانية للحياة، والتي لا تهتم سوى بتركيب الماضي الاجتماعي الديني على الحاضر، وهو ما أدى إلى أن يصبح التفسير، ليس وحده بل والدين أيضا، غير إنسانيين.


إن معظم أركان المشكلة المتمثلة في أن الدين وتفسيره أصبحا غير إنسانيين، تقع على عاتق الفقه والفقيه. فكيف يمكن لعقيدة الإنسان وآرائه وخصوصياته وحقوقه الفكرية والاجتماعية أن تكون محل احترام وتقدير واعتراف، ما لم تتغير نظرة الفقه والفقيه تجاه الإنسان كإنسان، من أجل استبدال النظرة التاريخية الدونية إلى نظرة حقوقية حديثة تكون فيها حرية الإنسان وكرامته هي الأصل. فمثلا نظرة الفقه والفقيه إلى المرتد لا تزال نظرة قديمة، إذ هي مستندة إلى نظرة اجتماعية تاريخية الغائية، لا نظرة واقعية راهنة تعتمد الحرية والتعايش والتعدد والتنوع أساسا لتفسيرها. كذلك ينطبق الأمر على النظرة الفقهية إلى الكافر والملحد والمسيحي واليهودي، بل كذلك على نظرة الفقه السني أو الشيعي إلى بعض الطوائف الإسلامية كالمتصوفة والإسماعيلية والزيدية. فهل بعد ذلك كله يحق للفقيه التاريخي أن يدعي بأنه يحترم حقوق الإنسان؟


إن نظرة الفقيه إلى الإنسان يجب أن تتبدل، ومن شأن ذلك أن يساعد على الدخول إلى واقع الإنسان الجديد، كما سيسهل عملية تغيير أصول الفقه وأحكامه، من أجل أن يصار إلى احترام الدين أو التفسير الديني لحقوق الإنسان. وبغير ذلك، لا نستطيع إلا أن نزعم بأن ديننا الذي فهمناه من خلال الفقهاء والمفسرين هو دين غير إنساني.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
علم وعلم
خوليو -

مشكلة معظم المسلمين الآن هو ورود كلمة علم في كتابهم ، ولما ظهر العلم الحقيقي(ليس من إنتاجهم) الذي يعطي حجج مثبتة عن مفهوم الكون والوجود والإنسان، وجدوا أن هذا العلم-الذي من إنتاج الغير- لايتطابق مع ما وجدوه في كتابهم لمفهوم كلمة علم، وبدل أن يتخذوا قراراً مشابهاً لما اتخذه من قبلهم أصحاب الأديان الأخرى، ركبوا رأسهم وحاولوا ولا يزالون يتهمون التفسير والمفسرون، ولما لم يقدموا حجج تقنع طفل مدرسة ابتدائية من أهل العلم الحقيقي ، استنفروا وسموها صحوة وبدأوا بغزواتهم الفكرية والاضطهادية بدءاً بشعوبهم و من ثم أخرجوا سلاسلهم وقنابلهم بعد أن نفذ صبرهم في عدم اقناع البشرية (خمسة مليارات) بصحة تفسيراتهم مهما تفذلكوا ووضعوا كلمة علماء أمام اسمائهم، فبقي الماء ماء ( وفسر الماء بعد الجهد بالماء)العالم المتحضر اتخذ قراره وميًز الأسطورة من العلم الحقيقي قبل 200 عام، قد يلزمنا 200 عام من الأن لتفتح أجيالنا عيونها على العلم الحقيقي وسيقولون مساكين أجدادنا كانوا يتقاتلون على الوهم.

تحية لبداية جيدة
ناديا أبو الخـيـر -

خطوة جريئة من كاتب كويتي رغم الهيمنة الدينية , وخطورة قول الحقائق العلمية والتاريخية, في بلد إسلامي, يطبق غالبا الشريعة الإسلامية. إنها رغم كل شيء خطوة نحو الأمام.. ولو بعد سنين طويلة, سوف نصل إلى عالم النور كما وصل الآخرون. لأن الحقيقة كالشمس لا يمكن تخبئتها أبدا, سوى في عالم الظلام الأبدي!!!

كاتب في المفضله
متابع -

اتيحت لي اليوم ومن خلال ايلاف فرصة التعرف على الكاتب فاخر السلطان واعترف ان اسلوبه السلس وطريقته في التحليل قد ادهشتني وشدتني .....فرحت اقرأ له في مواقع اخرى للاطلاع اكثر على كتاباته .......فاخر السلظان له موقف ورأي في الكثير من القضايا التي تهم وطنه ومجتمعه الانساني الكبير ليس ضد الدين ولكنه ضد اولئك الذين يقحمون الدين في السياسه لاهداف شخصيه ضيقه ...موقفه من المرأه واضح وصريح والاهم من كل ذلك انه مع الانسان وحقه في حرية التفكير .

لافصل بين الدين والس
د.عبد الجبار العبيدي -

يبدو ان الذين يخوضون في فصل الدين عن السياسة في الاسلام،لم يقرؤا عمق العلاقة السرمدية بينهما،متأثرين بما حصل للدين المسيحي ابان العصور الوسطى ثم طهور الحركات المضادة لسيطرة رجال الدين على الدولة، وامور الحياة، كثورة لوثر وكالفن وغيرهما من رواد العلمانية في العصر الحديث.ان الدين الاسلامي بني على حقوق الانسان في كل مناحي الحياة ومن يدعي فصله عن السياسة فهو كالذي يدعي فصل الرأس عن الجسد،لكن من حق الناس ان تطالب بفصل رجال الدين عن الدين هؤلاء الذين احتكروا المعرفة بهم دون الناس ،واحاطوا انفسهم بهالة التقدبس الفارغة التي يرفضها الاسلام ،انظر ابة 174 من سورة البقرة واستندوا الى فتاواهم التي استخدمها السلطان ضد من يتطلع لحكم الدولة وحرية الانسان ، علما ان القرآن لا يعترف برجال الدين ولا يخولهم حق الفتوى نيابة عن الناس،ولا يميزهم بلباس معين.هنا تكمن المشكلة وليس في الدين الاسلامي الذي وضع الاسس القويمة للحياة العامة والخاصة دون ان يتدخل فيها.

كان المسيح علمانيا
ثائر البياتي -

اذا دام الصراع بين الدين والعلم ثلاثة قرون في اوربا لكي يتغلب العلم على الدين وتتحقق العلمانية،فان ذلك الصراع لم يبدأ بعد في العالم الأسلامي. فالمسيح(ع) كان علمانيا، ابتعد عن السياسة، والمسيحية امنت بالمبدئ القائل: اترك ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. ولم تستغل المسيحية من قبل الدولة الا بعد ثلاثة قرون من ميلادها، فكان من السهل على المسيحيين في اوربا الأخذ بمبدأ فصل الدين عن الدولة، بعد ان عانوا كثيرا من مظالم الكنيسة ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى. اما النبي محمد(ص)، قدوة المسلمون، فهو النبي والحاكم والرئيس للدولة، وكذلك من جاء من بعده خلفاء الله في الأرض. أضف الى ذلك ان القرآن الكريم تدخل في تفاصيل الحياة الأجتماعية والأقتصادية للشخص( بصيغ آيات قرآنية قاطعة وواضحة) أكثر بكثير من الأنجيل. الأمر الذي يجعل صعوبة فصل الدين الأسلامي عن الدولة في فكر المسلمين، الا بعد ثورة اجتماعية عارمة، لا تقل عن ثورة النبي محمد (ص) ومجيء الأسلام قبل اربعة عشر قرنا. وشكرا لأيلاف