أصداء

لغز التسلح السوفياتي!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قبل أن يكشف كارل ماركس عن منهجه في قراءة التاريخ وتحليل مساره ومحطاته، كان التاريخ يتمظهر للعامة، بل وحتى للخاصة، على أنه سلسلة من الألغاز ينسجها ملوك وقادة الأمم وفقاً لرغباتهم التي لا يمكن التنبوء بها. ظهر كارل ماركس في أواسط القرن التاسع عشر ليقول للعالم أن التاريخ البشري إنما هو أشبه بعربة وقودها الصراع الطبقي الذي بدونه لا تتحرك على الإطلاق سواء إلى الأمام أم إلى الخلف. واعتماداً على منهج ماركس يمكن القول أن البشرية كانت قد عمّرت ربما ملايين السنين دون أن يكون لها تاريخ إذ كانت تعيش بدون طبقات خلال مرحلة الشيوعية البدائية، وهذا حقيقة تاريخية لا شبهة فيها ؛ ويمكننا القول أيضاً بأن البشرية سوف تعيش ربما ملايين السنين كذلك بلا تاريخ خلال مرحلة الشيوعية المتقدمة، بلا تاريخ يُعنى بالعلاقات بين الدول وبين الجماعات أو الطبقات، كما التاريخ الذي تعرفه البشرية اليوم. ولمن لا يوافق على هذه الحقيقة نقول أن التاريخ، إذا جازت التسمية، حينذاك سيُعنى فقط بالعلاقة بين عناصر الطبيعة فقط، وما البشرية إلا أحد هذه العناصر.

بشيءٍ من صلف الغباء وبكثير من الإنتصار لملوك السياسة وملوك المال يصنعون التاريخ وفقاً لأهوائهم، لم يقبل بعض المؤرخين المنهج الماركسي في قراءة التاريخ وتحليله وظلوا يقاربون التاريخ باعتباره سلسلة من الألغاز؛ ومنهم من جنح لإخفاء الصراع الطبقي بصراع الحضارات. للأسف الشديد فقد تقدم اليوم منهج مؤرخي السلطان على المنهج الماركسي وما ذلك إلا لأن البشرية قد تراجعت خلال الربع الأخير من القرن المنصرم عبر انهيار العوالم الثلاث التي ورثتها عن الحرب العظمى الثانية. ما يزيد في أسفنا أن " الشيوعيين " الذين انتصرت فيهم أصولهم البورجوازية الوضيعة قد تخلوا أيضاً عن المنهج الماركسي وانتصروا إلى المنهج المثالي، منهج الألغاز أو منهج مؤرخي السلطان فعجزوا عجزاً فاضحاً عن تعليل انهيار المعسكر الإشتراكي والمشروع اللينيني، وقد أهملوا إهمالاً تاماً القاعدة الذهبية الماركسية التي تقول أن التاريخ إنما هو سيرة الصراع الطبقي في المجتمعات المختلفة.

اعتبر العالم بمختلف أطيافه المتعايشة أن انهيار المعسكر الإشتراكي، والإتحاد السوفياتي في المقدمة، إنما هو انعطاف حاد في مسار تاريخ البشرية بغض النظر عن اعتباره تقدماً من قبل الأطياف الرجعية أو تخلفاً من قبل الأطياف التقدمية. " الشيوعيون " من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة ما زالوا لا يعتبرون هذا الإنعطاف ناجماً عن صراع طبقي في المجتمع السوفياتي!! عامتهم يعلله بالبيروقراطية!! لم يسألوا أنفسهم عن المصالح التي تعبر عنها " البيروقراطية "!! لئن كانت البيروقراطية لا تعبر عن مصالح البروليتاريا فعن أية مصالح تعبّر؟؟ الأغبياء منهم يجيبون بأنها تعبر عن مصالح البيروقراطية ذاتها كيلا يعترفوا بوجود طبقة وسطى في المجتمع السوفياتي، طبقة تعادي بطبيعة إنتاجها البورجوازي الخدمي طبقة البروليتاريا، وهذا جواب يرتقي إلى قمة سلم الغباء. فالبيروقراطية السوفياتية المزعومة لم تمتلك مشاريع تجارية أو أية مصالح فردية وخاصة. لم يملك البيروقراطيون في الحزب الشيوعي وفي الدولة السوفياتية إلا معاشاتهم، ومعاشاتهم مهما ارتفعت، وهي لم تكن مرتفعة، لا تجعل منهم طبقة خاصة ؛ ما يؤطر الطبقة في إطار واحد ثابت هو وسيلة الإنتاج، وممارسة الحكم من المكاتب ليس وسيلة للإنتاج تتميز عن الأعمال الذهنية الأخرى مثل عمل المعلمين والكتاب والأدباء والعسكر وسائر المهنيين من شرائح الطبقة الوسطى المختلفة.

السؤال المانع القاطع في هذه المسألة والذي يتمنّع " الشيوعيون " من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة عن مواجهته هو.. ما هي الميكانزم التي تدفع بالبيروقراطيين إلى سدة الحكم والسلطة؟؟ سيعترف هؤلاء المتمنّعون بأن الحزب الشيوعي السوفياتي هو تلك الميكانزم التي دفعت بأولئك البيروقراطيين إلى السلطة ؛ وهنا يقوم السؤال الكبير الثاني وهو.. لماذا يدفع " حزب الطبقة العاملة " بأعدائه من البيروقراطيين إلى قيادته؟! وهنا سيطبق الشيوعيون من أصول بورجوازية وضيعة أفواههم عاجزين عن الإجابة!! بل وسيصمتون كذلك إزّاء سؤال آخر وهو.. لماذا تمسّك أولئك البيروقراطيون بالاستمرار في إنتاج الأسلحة بمقادير هائلة رغم أن زعيمهم نيكيتا خروشتشوف قد أكد لهم قبل أن يطردوه من قيادتهم في العام 1964 بأن الإستمرار في الإنفاق على التسلح من شأنه بعد وقت ليس بعيداً أن يسقط سراويلهم من على مؤخراتهم فتظهر عوراتهم الشائنة للعالم، بل إنهم طردوه شرّ طرد لأنه قال هذا!! في تفكيك هذا اللغز، لغز التسلح السوفياتي، تكمن القطبة المخفية.

كان العمال السوفييت يهرعون إلى الشغل بحماس منقطع النظير حتى عندما لم تكن أجورهم تمكنهم من تأمين احتياجاتهم وعائلاتهم إبّان الخطة الإقتصادية الجديدة (NEP) التي وضعها لينين 1922 ـ 1926. في العام 26 استعادت البروليتاريا صحتها قبل الحرب وظل ديدنها في الإنكباب على العمل خلال الخطة الخمسية الأولى فحققوا الخطة في أقل من أربع سنوات بدلاً من خمسة بالرغم من أن أجورهم ظلت محدودة دون الكفاف. في الخطة الخمسية الثانية 1932 ـ 1936 تجاوزت أجورهم حدود الكفاف حتى أخذت صحف العالم ومنها الصحف الأميركية تتحدث عن رغد العيش في المدن السوفياتية. بعد ستين عاماً من التنمية وفي ظل سلطة يوري أندروبوف تحول العمال السوفييت من الإنكباب على العمل إلى التباطؤ والهروب من العمل فأخذت الشرطة تلاحق العمال الهاربين وتعيدهم إلى العمل بالقوة بعد معاقبتهم. نستذكر هذه الحقائق التاريخية لنقول أن التنمية السوفياتية كانت تنمية اشتراكية لصالح البروليتاريا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ثم لم تعد اشتراكية في الثمانينيات بل وقبل ذلك في الستينيات والسبعينيات. شيوع هروب العمال من العمل في عهد بريجينيف ومن بعده أندروبوف دلالة على فقدان النظام لثقة العمال وهو ما يعني أن النظام كان يعمل ضد مصالح البروليتاريا، ويعني أيضاً أن النظام الذي انهار في العام 91 لم يكن النظام الإشتراكي بل هو النظام المعادي للإشتراكية.

نستذكر أيضاً أنه في كل عام من الستينيات والسبعينيات كانت وزارة الخارجية الأميركية تصدر بياناً خاصاً يندد بحجم التسلح في الإتحاد السوفياتي، وكان السوفييت يردون مواربة بأن موازنة وزارة الدفاع الأميركية تساوي مثلي الموازنة السوفياتية أو ثلاثة أمثالها. كان الأمريكان يفسرون ذلك بأن موازنة التسلح السوفياتية المعلنة لا تدل على حقيقة الأمر حيث أن الإقتصاد السوفياتي يخضع لتخطيط مركزي أولى أولوياته إنتاج الأسلحة وتجديد أجيالها وهو ما يأكل ضعف النسبة المعلنة في موازنة وزارة الدفاع أو أكثر ـ كان على الشيوعيين الحقيقيين السوفييت وغير السوفييت أن يتوجهوا بالشكر لوزارة الخارجية الأمريكية!! كان حكام الكرملين يغالون في توتير الأجواء الدولية تبريراً لاستمرارهم في إنتاج الأسلحة أمام الشعوب السوفياتية وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن احتمال نشوب حرب نووية حتى بلغ الأمر بالرئيس الأميركي رونالد ريغان وهو اليميني المتطرف والذي بدأ حياته السياسية جاسوساً على زملائه في العمل لحساب المخابرات ولجنة ماكارثي الشهيرة، بلغ به الأمر أن شجب الدعاية السوفياتية حول احتمال الحرب النووية متسائلاً بدهشة وباستغراب.. من هو ذلك المجنون الذي سيبدأ حرباً نووية ليبيد العالم وهو منه؟!!

لغز التسلح حتى الموت وقف أمامه العالم حائراً ليقول أن سباق التسلح هو ما قضى على الإتحاد السوفياتي ومشروع لينين الإشتراكي، وقد ذهب الكثيرون إلى القول أن القدرات السوفياتية أعجز من أن تسابق الولايات المتحدة في التسلح. كل هذا ليس صحيحاً على الإطلاق وما كان العالم ليقوله لولا أنه وقف عاجزاً عن تفسير لغز التسلح السوفياتي. لم يعنَ قادة الكرملين منذ خروشتشوف وما بعده في مسابقة الولايات المتحدة في إنتاج الأسلحة، وليس أدل على ذلك من أن الترسانة السوفياتية بعد الانهيار تبيّن أنها كانت تساوي ما بين 5 ـ 8 أمثال الترسانة الأميركية بما في ذلك ترسانة حلف الأطلسي. ثم لو عُني قادة الإتحاد السوفياتي بمسابقة أمريكا في إنتاج الأسلحة لما ملئوا العالم بكل صنوف الأسلحة ولما بلغت مبيعات الأسلحة بعهد بريجينيف 10 مليارات دولاراً سنوياً في حين لم تصل مبيعات الولايات المتحدة لسبعة مليارات خلّيك عن أن معدل سعر السلاح الأميركي يساوي 100 ضعف معدل سعر السلاح السوفياتي المماثل ؛ ومثالاً على ذلك فقد باع الإتحاد السوفياتي لإحدى الدول الشرق أوسطية في الستينيات كل عشر بنادق من نوع كلاشنيكوف بدولار واحد!! وهو ما يعني أن السوفيات كانوا يخصصون لإنتاج الأسلحة عشرة أضعاف ما تخصصه الولايات المتحدة بالحد الأدنى!!

في العام 1937 قام مارشال الإتحاد السوفياتي وقائد الجيش الأحمر آنذاك، ميخائيل توخاتشيفسكي، بمحاولة إنقلاب فاشله ضد الدولة والحزب كلفته حياته وكانت حجته للإنقلاب هو رفض ستالين الدائم منذ العام 33 زيادة موازنة وزارة الدفاع ومجمل النفقات العسكرية مبرراً رفضه بأن كل روبل ينفق على العسكرة إنما هو على حساب التنمية الإشتراكية التي هي سبب وجود الإتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي. لئن نجح الحزب الشيوعي البولشفي بقيادة ستالين في تحطيم إنقلاب توخاتشيفسكي ورفاقه ضد دولة البروليتاريا فإنه لم ينجح في مواجهة انقلاب القيادة العسكرية على الحزب عام 1954 حين استطاعت استبدال قائد الحزب مالنكوف الذي طالب بخفض النفقات العسكرية بخروشتشوف الذي وافق على زيادتها. ولم ينجح في مواجهة الإنقلاب الذي قام به المارشال جوكوف في حزيران يونيو 1957 ليثبت خروشتشوف أميناً عاماً للحزب ورئيساً لمجلس الوزراء بعد أن سحب المكتب السياسي للحزب الثقة منه وكان عليه أن يستقيل. وفشل في المرة الثالثة عندما قامت قيادة الجيش بإنقلاب على خروشتشوف نفسه في العام 1964 لصالح بريجينيف بعد أن طالب الأول بخفض النفقات العسكرية. لقد ظهر بوضوح تام في انقلاب آب 1990 أن الجيش عمل ضد الحزب وغلّب يلتسن يقود مجموعة صغيرة من الشباب الضائع على حزب له تاريخ عميق في الحياة السوفياتية تعداده سبعة عشر مليوناً!!

لقد استخدم العسكر كل أدواتهم العسكرية وغير العسكرية حفاظاً على جموحهم المتزايد في التسلح والإنفاق العسكري الذي اتسع ليشمل صناعة الفضاء فكان أن وصل الأمر إلى أن يدور حول الأرض 240 قمراً صناعياً سوفيتياً وهناك بالمقابل على الأرض 240 طابوراً أمام الحوانيت لشراء البطاطا أو بعض الأشياء الصغيرة كشفرات الحلاقة ومعجون الأسنان. تنتج الدولة السلاح عادة من أجل حماية الشعب والنظام وليس هناك من دولة على الإطلاق تقتل الشعب والنظام من أجل إنتاج الأسلحة إلا الدولة السوفياتية التي أضحت أداة بيد العسكر منذ مجيء خروشتشوف وحتى سقوط غورباتشوف ـ بل وحتى اليوم ـ فقد استمرت في إنتاج الأسلحة وزيادة النفقات العسكرية من أجل تحقيق هدفها البعيد وهو تفكيك النظام الإشتراكي كنتيجة حتمية لانتصار الطبقة الوسطى في صراعها الطبقي ضد طبقة البروليتاريا وهو ما حدث بصورة هزلية في العام 1991.

لغز التسلح السوفياتي جرى تفسيره من قبل العامة، دون استثناء الشيوعيين من أنصاف الماركسيين، على أنه سباق في التسلح مع الولايات المتحدة وهو ما أثقل على قدرات الإتحاد السوفياتي وتجاوزها ليؤدي إلى إنهياره وسقوط مشروع لينين. هذا تفسير غبي بمختلف مقارباته إذ ليس من عاقل يدخل في سباق ويستمر في السباق حتى بعد مشارفته على الموت ـ من طبائع الحياة في أي حيوان أن يتوقف عن المسابقة قبل الموت! ثم إن التسليح الألماني النازي عندما هاجم هتلر الإتحاد السوفياتي خارقاً بصورة فظة إتفاق عدم الإعتداء بين الدولتين كان أضعاف التسليح السوفياتي ومع ذلك استطاعت المصانع السوفياتية بعد سنتين من الحرب وتدمير معظم الأجزاء المتطورة من الاتحاد السوفياتي، استطاعت أن ترمي في المعارك لعام 1943 أسلحة تفوق الأسلحة الألمانية كماً ونوعاً علماً بأن كامل الموارد الأوروبية تقريباً كانت تحت السيطرة الألمانية. علوم الماركسية تقول لنا ليس من دولة على الإطلاق بإمكانها أن تسبق دولة البروليتاريا بالتخصيص في سائر الميادين، وإلاّ لما كانت دولة بروليتاريا.

بعد رحيل ستالين استولى العسكر على القرار الوطني في الإتحاد السوفياتي وقد لعبوا على الطموحات الذاتية لدى خروشتشوف الذي كان سكرتير الحزب المسؤول عن التنظيم. أستبدل الحزب بالجيش منذ العام 1954. والجيش هو بطبيعة عمله من الطبقة الوسطى، وهي الطبقة المعادية بطبيعتها للبروليتاريا وللإشتراكية. كان التزايد في إنتاج الأسلحة تعبيراً مباشراً عن تزايد دور وسلطة الطبقة الوسطى بقيادة العسكر في النظام السوفياتي ولم تكن قوة أميركا العسكرية واردة في برامج العسكرية السوفياتية. لم يكن هدف العسكر من إنتاج السلاح هو حماية النظام والمجتمع بل حماية الطبقة الوسطى وتدعيم نفوذها داخل المجتمع. خان خروشتشوف الحزب والدولة حين عارض مطالبة مالنكوف، الذي كان قد شغل مركز ستالين، في خفض الإنفاق العسكري وكانت معارضته هي الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يحل محل مالنكوف في الحزب والدولة. كان خروشتشوف يعي خيانته فظل طيلة ولايته 1954 ـ 1964 يجهد في تقليص دور وسلطان العسكر في النظام من خلال تقربه للغرب والهجوم الفظ والوقح على ستالين واعتماد سياسة ما سمّي آنذاك بالوفاق الدولي، أي ملاقاة الإمبريالية في منتصف الطريق، وهو ما شكل ردة بائنة على الثورة الإشتراكية، بالإضافة إلى كل الهرطقات النظرية التي لا علاقة لها بماركس أو بلينين من مثل التخلي عن دكتاتورية البروليتاريا أو الإنتقال السلمي إلى الإشتراكية. لا أدري إذا ما كان خروشتشوف يؤمن حقاً بكل تلك الهرطقات التي جاء بها لكن الثابت كما تأكد في النهاية أن خروشتشوف كان قد انحرف انحرافاً خطيراً عن الماركسية اللينينية وبظنه أنه من خلال ذلك سيتمكن من تقليص دور العسكر في النظام بعد أن ساهم هو شخصياً بدور رئيسي في تعظيم ذلك الدور الذي ما زال عظيماً حتى اليوم. خيانة أخرى مفضوحة اقترفها خروشتشوف بحق الحزب والدولة حين استعان بالعسكر من أجل استعادة مركزه في الحزب والدولة بعد أن سحب الحزب، ممثلاً بالمكتب السياسي، الثقة منه في حزيران يونيو 1957 لكنه ما لبث أن طرد قائد الإنقلاب المارشال جوكوف بعد أربعة أشهر فقط بهدف استعادة الحزب السيطرة على القوات المسلحة. في العام 1964 طلب خروشتشوف بقوة خفض النفقات العسكرية فرد الجيش بإزاحته ليستمر الحزب تحت سيطرة العسكر. بطرد خروشتشوف من جميع مناصبه تحقق انتصار الطبقة الوسطى النهائي والحاسم على طبقة البروليتاريا وعلى حزبها، حزب لينين وستالين.

بانتصار الطبقة الوسطى النهائي في انقلاب 1964 بقيادة الجيش وهو الفصيل الطليعي بين فصائل الطبقة الوسطى الأخرى انتصر نمط الإنتاج الخاص بالجيش ألا وهو إنتاج الأسلحة دون أدنى احتساب لما يجري في أميركا، سواء أنتجت أميركا أسلحة أم لم تنتج. واليوم والسلطة الحاكمة في روسيا ليست معادية للولايات المتحدة أو لغيرها من الدول وليس لروسيا أية استراتيجيا كونية فإن إنتاج الأسلحة ما زال يتم بذات الوتيرة بل بنسبة أعلى قياساً إلى مجمل الإنتاج القومي. ومن مهازل السياسة الخارجية لروسيا الإتحادية اليوم هي مصادقة الدول التي تشتري السلاح الروسي بغض النظر عن نظمها وعن سياساتها.

انتصار الطبقات الوسطى في العالم كله، بما في ذلك العالم الرأسمالي، وسيادتها المطلقة في مجتمعاتها يختلف كثيراً عن انتصار الطبقة الوسطى في الإتحاد السوفياتي. ففي حين تضغط الطبقات الوسطى دائماً في مختلف بلدان العالم بما في ذلك الولايات المتحدة لأجل تقليص نفقات التسلح ـ علماً بأن الحرب هي الغطاء الوحيد الذي تمتلكه الولايات المتحدة لعملتها الوطنية وهي الدولار ـ فإن العسكر وهم قيادة الطبقة الوسطى السوفياتية يضغطون دائماً وباستمرار من أجل زيادة نفقات التسلح من أجل التسلح بحد ذاته، لا ليحاربوا، وليس لأجل الأمن الوطني، بل لضمان سيادة العسكر في البلاد وتغليب نمطهم الخاص في الإنتاج.

انتقال صناعة القرار الوطني من الحزب إلى الجيش شكل كارثة لا نظير لها في التاريخ ليس على الشعوب السوفياتية فقط بل وعلى العالم كله أيضاً. ما يزيد من هول الكارثة أن آفاق التغيير في روسيا هي اليوم مسدودة تماما ً. فالعسكر يعارضون تطوير البلاد على نمط النظام الرأسمالي ـ وذلك غير ممكن حتى لو أرادوا ـ كما أن البروليتاريا السوفياتية صارت إلى تفتت بعد أن تم تغريبها طويلاً وأضحى من الصعوبة بمكان أن تستعيد وعيها ووحدتها وتمسك بقضيتها، قضية العودة إلى الإشتراكية. وصلت أحوال الشعوب السوفياتية حد الهوان وفقدان الكرامة والحس الوطني ومع ذلك لم تتحرك البروليتاريا السوفياتية التي قادت يوماً الثورة العالمية وقد غدت اليوم كما الجثة الهامدة. ليس هناك بقعة ضوء في نهاية النفق الذي ساق العسكر الشعوب السوفياتية إليه. جمود الحياة في روسيا قد لا ينتهي قبل أن يضع حداً للحياة البشرية على وجه الأرض.

ما نود أن نؤكده أخيراً في هذا السياق هو أن لغز التسلح السوفياتي الذي حيّر مختلف المحللين الاستراتيجيين وفسروه سباقاً مع الولايات المتحدة الأميركية في ميدان التسلح، إنما كان السلاح الأمضى في حلبة الصراع الطبقي، صراع الطبقة الوسطى ضد البروليتاريا السوفياتية وليس ضد الولايات المتحدة الأميركية. ما زالت العسكرتاريا الروسية تمسك بهذا السلاح لتعزز قيادتها للطبقة الوسطى حتى ولو على حساب هذه الطبقة، ولتحول أيضاً دون استعادة البروليتاريا السوفياتية لدكتاتوريتها المخطوفة.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الثورة اليهودية
يعقوب -

للتسليح السوفياتي لغز واحد فقط : الثورة الشيوعية هي ثورة يهودية الانسان آخر اولوياتها لانه حيوان خلق لخدمة اليهود اهم شئ بالنسبة لها المحافظة على حكم اليهود لروسيا ودعم اسرائيل بكل الاشكال وكل الحقائق التاريخية تثبت ذلك وكل النظريات التي يتحدث عنها الكاتب هي مغالطات ولف ودوران وليٌّ لحقيقة ثورتة اليهودية الشيوعية

الجهل بماركس
HAZEM -

لا أفهم كيف ندخل اليهود في نظرية ماركس المادية المنبثقة من فلسفة هيجل المثالية ، اليهود منذ هرتزل وتبشيره بالدولة الصهيونية نزلوا من رحم الأفكار إلي الواقع ، حتي أن الهجرة إلي فلسطين التي بدأت منذ أواخر الدولة العثمانية وعهد الانتداب البريطاني يسميها الاسرائيليون عالياه وهو مصطلح ديني يعني العلو إلي أرض الميعاد .. ما أقصده أن الصهاينة حولوا أفكارهم الدينية إلي واقع ونحن ينقصنا الوعي حتى أن فلسطينيين قبل العام 1948 كانوا يستغربون من هؤلاء البيض الذين يؤجرون منهم منازلهم تاركين أوربا! ، والآن لازالت مشكلتنا الوعي .. الوعي أن أفكارنا لا تنطبق علي الواقع من حيث أننا نسقط علي اليهود كل شيء حتى الثورة البلشفية ، ويستكمل الصهاينة مشروعهم الاستيطاني فارضين أنفسهم علي الأرض ، في حين أننا لا نفهم العالم ، وفلسفاته النابعة من لحظتها التاريخية ، مادام الثابت العدو عبر التاريخ هو اليهود

..........
مجيد برواني -

؛-1- دور القادة العسكريين في التنظيم السوفياتي محدد بدقة و إنحصر في الشأن المهني,و شواهده عديدة من أن نحصيها,أما إذا اردت الإستشهاد بوجود قادة عسكريين و أمنيين في المكتب السياسي للحزب الشيوعي فكانت بصفتهم السياسية,و ليس كقادة ميدانيين مباشرين لفرق و جحافل جيوش؛و إلا لكان وضع مهد الشيوعية في بؤس ميانمار -بورما- حاليا!.إسمح لي في عدم الخوض معك في مسألة قضية السلاح و التسليح و مختلف برامجه و تطوراتها,ذلك أن هذا الميدان الواسع و المتخصص يحتاج لدراسات وافية,وليس لبضعة جمل مبتسرة و تخريجات بئيسة.الماريشال توخاتشيفسكي و هيئة أركان حربه وقع ضحية لمكيدة مخابراتية تم نسجها بدهاء في الفرع ’’الشرقي’’ لسلاح الطيران الألماني,بلع طعمها ستالين كطفل غر ,فأعدمه و صحبه,و كانت توطئة لقطع رأس قيادة الجيش الأحمر,وهي من أبسط مبادئ فن الحرب عند صن تزو و فون كلاوسفيتز,تمهيدا لشن حملة ’’برباروسة’’ الهتليرية صيف 1941. أتفهم تماما دوافعك لكتابة هذا المقال,لأنه يعز عليك أن تعود روسيا,بعد أن تم تخريب قاعدة صناعاتها الدفاعية بمنهجية إبتداء من عقد التسعينيات,أن تعود لبنائها, بل و أحسن

اليهودية الشيوعية
يعقوب -

يقول الانجيل البلشفي : ( اننا نقصد أن نظهر كما لو كنا المحررين للعمال، جئنا لنحررهم من هذا الظلم، حينما ننصحهم بأن يلتحقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين. ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للانسانية)بروتوكولات حكماء صهيون البروتوكول الثالث