بطولة أوربا بهجة التنوير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1-
لم تكن بطولة كأس أمم أوربا مجرّد بطولة رياضية كما يعتقد البعض، بل هالني حجم البثّ "الرمزي" الذي غذيت به فاتحة البطولة، واستمرّ تمرير العلامات الكبرى داخل المباريات، وقبل شروعها، وأعني بها "الرموز الثقافية" التي تعبّر عن تخوم النبض الثقافي الأوربي، كنتُ في مكانٍ عام أشاهد مع صديقي المباراة بين "السويد، واليونان" وقبل المباراة ضخّت أوربا روحها، عبر الصخب والفرح والمرح، الذي جسّدته تلك التعابير على الوجوه والأجساد، كأني بفريدريك نيتشه، مُروّض العلم للبهجة، وأول فيلسوف يعيد الجسد للاعتبار الفلسفي كأني به يحضر بروحه الشيطانية على سقف تلك المباراة، وهو يبتهج بدعوة هو من أطلقها، أن يتسيّد الإنسان على الطبيعة بسوبرمانيته الفارهة، وأن يجثو على الأرض، وأن "يرقص" طويلاً.
دلالات تشرحها حركة الأجساد وسيْر مباهج الفرح و الكرنفالات التي لا تؤدي إلى شيء إنه الخليط من العبث واستخدام العبث والفرح بالعبث، تلك البطولة لم تكن تعرض لعباً وإنما تعرض بشكل رمزي تاريخ قارة أكلت بعضها بحربين عالميتين ثم تسيّدت الكون، وأجهزت على كل خلايا الاستبداد الديني، والسياسي، كأني ببهجة هذا الأوربي واضحة وهو يتمتع بحقوق هي أهم من كل متعنا التي نتباهى بها عربياً حينما يصبح للإنسان "كرامته" وأمنه النفسي والفردي.
2-
لم تكن الرياضة ترفاً، فحتى الفلاسفة الذين أيقظوا أوربا من سباتها العميق كانت لهم رياضاتهم المتنوعة، فكانط كان يعشق "البلياردو" حد الهوس، ومارتن هيدغر كان يحب التزلج على الجليد ويعشق كرة الطائرة (حسب ما يذكر عنه تلميذه هانز جورج غادامير) ولم تكن الفلسفة لتحجب هذا العشق الأزلي للرياضة، وتاريخياً عرفت الأولمبياد والرياضات الجسدية قديماً في اليونان (انظر السياقات في كتاب أمين الخولي-الرياضة والمجتمع) فكل رياضة هي عنوان اتصال وثيق بالحياة، ولا ننسى عشق ميشيل فوكو للعبة "التنس" لقد كان يتابع أخبارها أولاً بأول، ويحلل مجريات المباريات، واليوم نشاهد بعض هذا في تبتّل بعض فلاسفة فرنسا وتسمّرهم أمام الشاشات في بطولة كأس العالم لكرة القدم، وكم غمرهم الفرح حينما ضرب زيدان البرازيل برأسيته القاضية بهدفين جعلا من فرنسا بطلة لكأس العالم في منتصف التسعينات وكتبوا عن منتخبهم المليء بالسود بكل ابتهاج ورأوا في تشكيلة المنتخب علامة على "تنوع" المجتمع الفرنسي وثرائه. كما كتبوا أيضاً عن حماقة زيدان الذي ضرب برأسه خصمه الإيطالي. لقد قادت الرياضة الكثير من الفلاسفة إلى إدراك أبعاد "ثقافية" تشرح الأعماق المختبئة للوحدات البشرية، في الرياضة تجد المجتمعات فرصتها لعرْض علاماتها، ألم تكن علامتنا في كؤوس العالم فضائح ثقافية فاقت فضائحنا الرياضية؟ ألم يصبح بعض لاعبينا مسخرة أمام الصحافيين في كأس العالم الأخير؟ حينما تفوّه بعض اللاعبين العامة بأجوبة تدل على أنهم يظنون أنهم هم مركز الكون؟
3-
لقد سحرني مجرى افتتاح مباراة السويد واليونان، كما شدّني الجمهور اليوناني الذي تسمّرت وأنا أتابعه، كيف يبتهج كل هذه البهجة الخالية من الكدر والضيق؟ إن هذه البطولة الكروية ليست بطولة رياضية فحسب، إنها تشرح بالتفصيل ما عجزنا عن قوله، وما عجزت كتب رصد تاريخ التنوير عن قوله، إنها بطولة كبيرة في دلالتها وفي محتواها، بطولة تكشف بهدوء ثمن التنوير الذي بذل، ثمن العرق الذي بذله الفلاسفة والحكماء منذ القرن السادس عشر، تتذكر مع كل هذه البهجة الرؤوس التي تطايرتْ والأثمان التي دفعت، والأجساد التي أحرقت، كما تُذكّرنا بحماقات كثيرة الحروب العالمية الحرب الأهلية، الحرب الدينية بين الفرنسيين، لكن ماذا أنتجت تلك الدماء؟
لقد أنتجت كل هذه الصورة الباهرة التي يتحلّق أمامها أبناءنا في المقاهي والبيوت ويتابعون أدقّ التفاصيل عن هذه الرياضة التي تمرر علامات أخرى لم ينتبه لها المواطن البسيط، الذي يأتي ويتابع بكل أزيائه وأمراضه الثقافية وأدوائه الفكرية التي تملأ رأسه، ويظنّ أنها بطولة رياضية عادية! إنه استعراض كبير، لأحدث مظاهر الابتهاج والفرح التي لم يستطع العرب أن يفعلوا نفس ما فعلتْه أوربا إن أبناءنا لم يفعلوا شيئاً ليصلوا بثقافتهم إلى هذا المستوى من الجمال، قصارى ما فعله العربي أنه يتسوّل حكومته ليبصح شحاذاً في أوربا، أو دارساً تافهاً هناك، ثم يعود بأمراضه وقد تضاعفتْ ألم يملأ المرضى النفسيون، والسذج والمتدينون ضواحي أوربا؟ ثم ماذا؟ يريدون أن يغتالوا حتى التنوير الأوربي! من أراد أن يعرف أوربا حقّ المعرفة فلينظر إلى "البهجة" التي انطبعت على وجوه الجماهير وكأنها تغتبط بهذا المستوى المتقدم من الحرية الاجتماعية والدينية والسياسية، في هذه الملاعب تشاهدون آثار التنوير وقد سكن الأجساد والثغور والهواء، تشاهدون أرواح تلك الكيانات الكبرى -التي بذلت الغالي والرخيص من أجل رفع يد الاستبداد قارتهم وإحلال الحرية والقانون مكان التسلط والاستبداد والطغيان- وهي ترفرف فوق تلك الملاعب الغنية بالسكينة والطمأنينة والوقار.
فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com
التعليقات
لقد رأيت ما لا يري
حمبد -شكرا لقد رأيت ما لا يريد أن يراه العرب النائمون في سباتهم شكرا لك اخي