أصداء

خطى رؤوف عباس: سيرة ذاتية أم وصية أخيرة؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

فى يونيه الماضى رحل د. رؤوف عباس، المؤرخ والأكاديمى، الإنسان المستقيم والرجل المكافح، الذي صعد باجتهاده وعمله من قاع المجتمع إلى أعلى قممه العلمية. رحل بدون ضجة، كما عاش أثناء حياته، لايسمع به إلا الصفوة.ولم تعرفه دائرة أوسع قليلا من المصريين إلا من خلال كتابه: "مشيناها خطى"، الذي صدر فى نهاية عام 2004.


عبارة "سيرة ذاتية" تجدها مكتوبة على غلاف هدا الكتاب؛ ولكن هل هو كذلك فى الواقع؟
إنه كتاب صغير الحجم، لا يمكن أن تتسع صفحاته لتجربة حياتية بالغة الغنى والتنوع، امتدت على مدى خمسة وستين عاما. ولذا فلابد أن الكاتب كان انتقائيا إلى حد كبير. فبينما نجد أن النصف الأول من الكتاب يحدثنا بإسهاب عن الحياة الشخصية لرؤوف عباس الطفل والشاب، يتخلى النصف الثانى عن الاهتمام بجانبه الأسرى والاجتماعى، ويركز على ما لاقاه من تجارب فى حياته العملية و الأكاديمية.


وليس الكتاب من نوعية السير الذاتية التى يعرى فيها الإنسان نفسه ويكشف عن زلاته، كاعترافات جان جاك روسو، أو يزيح كل الأستار عن أسرار ونقائص شخصه وعائلته، كما فعلها لويس عوض. ولكن نجد أن الكاتب هنا لا يتحرج عن الاعتراف بفقره وبساطة أصله، والعاهة التى فى فكه، وعن كل الأمور التى لم يكن له يد فيها، ولكن عندما نأتى إلى المواقف التى تكشف عن معادن الرجال، نجده الإنسان الذي يتمسك دوما بالعدالة، ولا يتنازل عن حقوقه أو حقوق غيره، ولا يخضع للتهديد والابتزاز، أو كما جاء على لسانه: " ينفر عرقه الصعيدى عندما يحس أن هناك ما يمس كرامته". ولكنه يتدارك ما يمكن أن يؤخذ عليه من إغفال للجانب السلبى فى شخصه ومواقفه؛ فيقر فى نهاية الكتاب بأنه "لم يكن دائما حكيما خاليا من العيوب والأخطاء... ولكن حسبه أنه لم يتخد موقفا بدافع شخصى محض".


والكتاب مكتوب بلغة مباشرة بسيطة، خالية من أساليب البلاغة والتأنق اللفظى؛ فلا يمكن مقارنتها بالأعمال الأدبية المنمقة كأيام طه حسين مثلا.
وفى تصورى أن رؤوف عباس، فى كتابه هذا، لم يكن الإنسان الذي يتوق إلى التحدث عن دخائل حياته، ولكنه كان الأستاذ و المعلم الذي يبغى أن يلقى درسا بالغ الأهمية على كل من له آذان للسمع، ومن عنده قابلية للتعلم. كان المؤرخ الذي يستعين بتجارب الماضى، على مرارتها، ومن دروس التاريخ وعبره، عسى أن يستفيد منها أبناء الوطن فى إنقاذ مصر من الهاوية التى تتردى فيها.
إنه كتاب يذكرك بكتاب "رحلة عمر" للعالم الجيولوجى ( متعه الله بالصحة وأمد فى عمره) د رشدى سعيد، الذي تحدث فيه عن مأساة إهدار ثروات مصر، وبكتاب "وصيتى لبلادى" للراحل د إبراهيم شحاته، خبير الاقتصاد والقانون الدولى، الذي غطى موضوع الفساد وآثاره المدمرة، و بكتب غيرهما من المصريين المخلصين المحبين لوطنهم الذين قالوا كلمتهم ومضوا...


هؤلاء الأشخاص، خلاصة العقول وزبد المجتمع، آمنوا بأن تقديم الخبرات التى عاشوها، والتجارب التى مروا بها، لهى أوقع وأعمق تأثيرا من الأحاديث النظرية. إنهم لم يكتفوا بالحديث عن العلل والأمراض، بل امتلكوا من العلم والخبرة والإخلاص ما جعل ما يقدمونه من وصفات مجانية لعلاجها، هدية الأقدار لأبناء شعبهم المعذب التعيس. ولكن من يستمع ومن يهتم!!


يكشف د عباس فى كتابه عن السلبيات فى أوضاع الإدارة فى القطاع العام، وعن تحجيم دور نقابات العمال، كما وجد من خلال أول وظيفة عمل بها كمراجع حسابات فى إحدى الشركات المؤممة. ويقول: "تحولت معظم شركات القطاع العام إلى عزب لرؤسائها".
ثم يفرد مساحة كبيرة لاستعراض أوجه التردى فى الجامعة المصرية، والتدهور فى أحوال أساتذتها وطلابها على حد سواء؛ وهى التى استمات فى الالتحاق بهيئة تدريسها، اعتقادا منه (وهو الشاب الذي لايملك مالا ولا جاها) أنها "المؤسسة الوحيدة بمصر التى يحدد موقع الفرد فيها حسب قدراته العلمية". ولكن للأسف شاهد فى حياته الأكاديمية الطويلة صنوفا من خراب الذمم والانتهازية والشللية والتدليس، بالإضافة إلى التزلف والملق والجبن والنفاق، وكل ما يطيح بكرامة العلم و العلماء، ممن يفترض فيهم أن يكونوا معلمى الأجيال والمثل الأعلى للشباب.
طبعا لايمكن أن تخلو الدنيا من أصحاب النفوس المستقيمة والضمائر الحية (على ندرتهم) ولذا تضمنت شهادة د عباس الإشادة بسيرتهم العطرة. فعلى سبيل المثال يقول عن الدكتور إبراهيم بدران: "كان عالما جليلا منصفا، لايخشى فى الحق لومة لائم". ويذكر بكل إعزاز وعرفان النماذج الرائعة من جيل الأساتذة العظام الذين تتلمذ على أيديهم، ويدين لهم بالفضل فيما تعلم و فيما اكتسبه من فضائل.


ثم ينتقل إلى مصاعب العمل الأهلى فى مصر، والمعوقات التى توضع فى وجه الجمعيات الأهلية، و"الأتاوات" التى تفرض عليها فى مقابل تركها تعمل بدون منغصات.
ويتطرق د. عباس، فى أكثر من موضع، إلى أمثلة عايشها بنفسه، وسجل وقائعها بالأسماء الحقيقية لأبطالها، للتعصب ضد الأقباط. فيذكر أن بعض الأساتذة عارضوا باستماتة انتداب المؤرخ المرموق د. يونان لبيب رزق للتدريس بالقسم، وقال أحدهم لدكتور عباس (الذي كان مصرا على انتداب د. يونان لتميزه العلمى): "إن الله لن يغفر له هذا الجرم".


واعترض أستاذ آخر على تعيين طالبة قبطية - كانت الثانية على الدفعة- فى وظيفة معيدة فى قسم التاريخ الحديث، وقال صراحة: "إن القسم تخلص من هؤلاء قبل ما يزيد عن خمسين عاما". (وكان يقصد التضييق على د. عزيز سوريال عطية حتى اضطر إلى الهجرة إلى أمريكا التى رعت موهبته حتى أصبح من أكبر علماء التاريخ فى العالم، ولم ينسى وطنه وناسه، بل أهداهم موسوعته القبطية العظيمة). ولم يتم تعيين المعيدة إلا بعد أن هدد د. عباس باستقالة علنية مسببة: "احتجاجا على التمييز بين المصريين على أساس الدين".
وعندما طلب من الدكتور رؤوف عباس والدكتور عبد الملك عودة ترشيح أساتذة للتدريس فى "معهد الدراسات الوطنية" الذى كان الرئيس السادات يزمع تأسيسه، تقدم كل منهما بإسمين لأساتذة أكفاء، ولكن ترشيحاتهما لم تحظ بالقبول، لأن هؤلاء المرشحين كانوا أقباطا!
وحدث فى أحد السنوات أن اعتذر د. عباس عن وضع أسئلة الثانوية العامة فى مادة التاريخ، واقترح على المسئول اللجوء إلى صديقه د. يونان لبيب، فضحك الرجل قائلا: "هو سيادتكم مش عارف أن أهل الذمة ممنوعين من وضع الامتحانات؟". ونشر د. عباس وقتها خطابا مفتوحا لوزير التعليم فى جريدة الأهالى يتناول سياسات وضع أسئلة الامتحانات، ولكن الوزير رد عليه لائما لأنه "وهو المؤرخ، لم يتحر الدقة فى المعلومات التى وصلته"، واتهمته السيدة منى مكرم عبيد "بالعبث بالوحدة الوطنية".


ويحرص د. عباس على تأكيد أن وقوفه إلى جانب الأقباط فى المواقف السابقة هو "أمر يتعلق بالمبادئ لا بالأشخاص".
أما الجزء الأول من الكتاب و الذي يتناول طفولته المعذبة، التى لا يفوقها تعاسة إلا طفولة طه حسين، سجين محابس الفقر والجهل وكف البصر، فيجعلك تديم التفكير فى هذه الشخصيات الإعجازية... كيف تحملوا وهم الأطفال الصغار أحزان تنوء بها الجبال، وكيف تغلبوا وهم الشباب اليافع على صعوبات قاسية مؤلمة، وكيف اجتازوا وهم المعدومى السند والعزوة عقبات كئود!!


وبمعونة الله وحده، ومن سخرهم من مخلوقاته الفضلاء الخيريين، استطاع طه حسين و رؤوف عباس وأمثالهما، أن ينفضوا عنهم بؤس الأقدار، وأن يرتفعوا بفضل قدراتهم وعملهم وجلدهم وإصرارهم، ليصبحوا أعلاما تلقى التقدير والاحترام، وتقابل بالحفاوة والتكريم، ليس فى وطنهم وحده، بل على مستوى العالم المتحضر.
ولد رؤوف عباس لأسرة بسيطة، يعمل ربها عاملا فى السكة الحديد، وينوء كاهله بثمانية من الأبناء. واضطرته الظروف لأن يعيش قسطا كبيرا من طفولته وشبابه مع جدته لأبيه فى عزبة هرميس فى حى شبرا بالقاهرة. وكان درج بيت الجدة المتداعى بلا سياج، فسقط الطفل من الطابق الثانى، مخلفا هذا الحادث عاهة مستديمة فى فكه.
ويصف لنا فى الكتاب العزبة وسكانها وصفا حيا. مكان عشوائى يخلو من المياه النقية والصرف الصحى والكهرباء. ولكن سكانه الفقراء (مسلمين ومسيحيين) يتشاركون فى اللقمة البسيطة، وفى أفراحهم المتواضعة، وأتراحهم العديدة. النساء يرضعن أطفال بعضهن البعض، والأبناء الصغار يتجمعون للعب فى فناء كنيسة مار جرجس، حيث يتناولون جميعا القربان من يد "أبونا".
صورة يصعب تصديقها على ضوء ما نراه الآن. ولكن كان هذا فى الواقع هو الحال فى مصر أيام كان الدين لله والوطن للجميع. ولربما كان هذا هو السر فى أن ذلك المناخ المحب المتسامح قد أفرخ العديد من العقول المستنيرة والنفوس النقية والشخصيات المستقيمة، رغم الفقر والعوز ومشقة الحياة ونقص التعليم.


و من سوء حظ الصبى أن جدته كانت تحمل ضغينة لأمه، فانتقمت من الأم فى شخص الطفل البرئ، وسامته صنوف الإساءة والحرمان، و تلذذت بسادية غريبة فى إرهاقه وتحميله ما لا يطيق.


ثم عانى صورة أخرى من العذاب على يد شيخ الكتاب، الذي كان ينهال عليه بالضرب عندما يخطئ فى تسميع السور، أوعندما يتجرأ ويقول له أنه " لا يستطيع الحفظ إلا إذا فهم معنى ما يحفظ".


وعندما خيب رؤوف أمل الأسرة فى دخول الأزهر، وهو ما عبرت عنه الجدة بوصفها إياه: "خيبة الأمل اللى راكبة جمل"، أراد الوالد أن يدفع به إلى إحدى الورش ليتعلم صنعة. ولكن الله أرسل صديقا للأب، كان رغم بساطة حاله فنانا مرهف الحس، فاستطاع أن يتفهم الغلام، وأقنع الأب بأن يلحقه بمدرسة ابتدائية.
ورغم نجاحه فى امتحان القبول، ظل قبوله الفعلى مرهونا بإحضار كارت توصية من أحد الباكوات موجها لحضرة الناظر. وتدخلت عناية الله مرة أخرى، وجاء الفرج على يد عمدة قرية تصادف أن عرف بالمشكلة، فتطوع بإحضار كارت التوصية المأمول من البك صاحب العزبة فى قريته.
ومرت مراحل تعليمه المدرسى فى معاناة شديدة، بسبب الفقر الذى يقترب من درجة الجوع، وشح الحنان والرعاية الأسرية. ورغم ذلك قدم لنا جانبا مشرقا من حال التعليم المدرسى فى ذاك العصر، وكيف توفرت فى المدارس الحكومية العادية المجانية، سواء فى القاهرة أو فى الأقاليم، نخبة من المدرسين الأكفاء المخلصين، الذين كان لهم الفضل فى تميز تلاميدهم فيما بعد، وأنشطة مدرسية ثقافية وفنية ورياضية رائعة، لم يعد يوجد ما يقاربها حتى فى المدارس الخاصة ذات الأسماء اللامعة والرسوم الفلكية، ومكتبات فتحت للطالب النابه
الطموح، آفاقا واسعة مجانية للاطلاع والمعرفة.


وعندما نجح فى الثانوية العامة، كان من الطبيعى وفقا لصعوبة الظروف أن يكتفى بما حصله، وأن يبحث عن عمل لإعالة نفسه ولمساعدة أبيه، ولكن للمرة الثالثة يسخر الله له إنسانا بسيطا غريبا عنه، أثناه عن القبول بوظيفة تافهة بينما مجموعه يؤهله للالتحاق بالجامعة، وأقرضه الثلاث جنيهات الضرورية لرسوم التقديم، والتى لم يكن يملكها.


و هكذا وجد نفسه طالبا جامعيا، يعانى من شظف العيش، ويضطر للعمل فى الأجازات لتوفير احتياجاته الضرورية. ولكن ما جعل المستحيل ممكنا هو النظام الذي استجد مع ثورة يوليو، والذي سمح لغير القادريين بالحصول على المجانية فى التعليم العالى.
و هذا ما دعاه لأن يذكر دائما أنه لولا الثورة لما أمكن لأمثاله الالتحاق بالجامعة، ولما فتحت أمامهم أبواب الحراك الاجتماعى. ولكن انتفاعه الشخصى بما قدمته الثورة، لم يجعله يغمض عينيه عن سلبياتها، حيث كان يرى "البون الشاسع بين الشعارات المرفوعة وما يجرى على أرض الواقع". ولعل هذا هو ما جعله يعزف عن الانتماء إلى أى حزب أو تنظيم سياسى طيلة حياته.


وتمر به رحلة الحياة، فبعد وظيفة مؤقتة كمراجع حسابات، يحصل على الماجستير والدكتوراه، وينخرط فى سلك التدريس بالجامعة أستاذا للتاريخ. وأثناء ذلك، يتمكن من الزواج من زميلة دراسته التى أحبها، وينجب منها ابنه الوحيد.


وسنحت له الفرصة ليسافر فى مهمة علمية إلى اليابان، أتاحت له الاحتكاك بثقافات أخرى، والاستفادة من بيئة علمية مميزة. واستغل الفترة التى قضاها معارا فى الدوحة، حيث كان عبء العمل بسيطا، فى البحث والتأليف.


وتجاوزت إسهاماته أسوار الجامعة، فشملت مراكز الدراسات، ودار الكتب والوثائق، والمجلس الأعلى للثقافة، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية. وامتد نشاطه العلمى والأكاديمى إلى الخارج، فدعى لحضور مؤتمرات ولإلقاء محاضرات فى أوربا وأمريكا، واختير ضيف شرف فى المؤتمر السنوى لجمعية دراسات دولية مرموقة مركزها الولايات المتحدة.


ولم تكن كل هذه المراحل مفروشة بالورود، ولكنها كانت مملوءة بالتحديات. وجاء حديثه عنها حافلا بالمعلومات المشوقة و بالتفاصيل المثيرة، عامرا بالدروس والعبر، ومسجلا لمرحلة هامة من التحول الاجتماعى فى مصر، فى النصف الثانى من القرن العشرين.
وفى النهاية، نعود إلى الإهداء الذي كتبه د. رؤوف عباس فى مقدمة كتابه منذ ما يقرب من سنوات أربع:
" إلى الشباب... عساهم يجدون فيه ما يفيد
وإلى الذين يسممون أمامهم الآبار... لعلهم يتعظون"
فهل وجدت وصيته الأخيرة آذانا تصغى أو ضمائر تستيقظ؟!

ليلى فريد

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شكرا أخت ليلى فريد
كركوك أوغلوا -

لهذا البحث القيم ومصادره والمهم جدا ليس لمصر فحسب وأنما للعديد من الدول العربية التي فيها الأقليات أو ما تبقى منها بعد عمليات القتل والترويع والتهجير وخاصة في العراق , ولذا هؤلاء الذين يسممون الآبار .....لايتعظون !!!..لأن عقولهم مغسولة بالخرافة والشعوذة ؟؟!!..فلا مستقبل لهؤلاء غير الأنحدار في ظلمات وكهوف الماضي السحيق ؟؟!!..هنيئا للأخوان وأخوانهم وأخواتهم

Good Man.
فرانسوا باسيلي -

Good article about a good man - as usual from Dr. Laila Farid. Please also see my article about Dr. Abbas''s book published in Elaph here: http://www.elaph.com/ElaphWeb/AsdaE...5/11/105883.htm