مدّ اللسان الإنكليزي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في عصر العولمة، حيث تندلع التجاذبات الثقافية الكبرى لتعميم قيم بعينها، يُطرح السؤال المرتبط بالهوية على مستوى اللغوي أيضا، وترتسم شارات الاستفهام حول المحاولات الحثيثة للتأصيل لـ "لغة موحََّدة" تشكل ظهيرا لسانيا لثقافة عولمية أحادية القرن.
لا ريب أن اللغة الإنجليزية هي المعنية مباشرة بهذا السؤال باعتبارها اللغة الأكثر تداولا في العالم المعاصر؛ وبدرجة أخرى، تعتبر الترجمة معنية أيضا باعتبارها الآلية التي ابتكرها الإنسان لإرساء التواصل بين اللغات والاحتفاء بتعدديتها؛ هذا ناهيك عن كون سؤال اللغة الموحّدة هو واحد من الأسئلة المحورية للهوية باعتبار اللغة حاملا عضويا للثقافات، ومرجلا تنصهر فيه، لتتخذ تشكيلات تعبيرية تحاكي خصوصية المنتوج الذهني لأمة بعينها، في الأدب والفكر والفن.
إن احتمال سيادة لغة بذاتها باعتبارها "لغة العالم" يرجع، بالضرورة، إلى سيادة الثقافة التي تجسدها تلك اللغة. وهنا لا يغدو التعدد الألسني الصرف وحده مهددا بقدرما يصبح التعدد الثقافي العالمي هو المعني، وتصبح الثقافة العالمية أمام خطر ذوبان مخزونها العميم من المنتوج الإنساني الإبداعي والفكري، في الماضي والحاضر والمستقبل.
صحيح أن تاريخ الإنسانية لم يشهد في مرحلة من المراحل هيمنة مطلقة للغة على باقي اللغات البشرية، بحيث يبدو من هذا المنطلق أن طرح السؤال أعلاه غير واقعي تماماً، إلا أن الواقع الإجرائي الذي يدعم الاستقراءات التي تفيد أن لغة التخاطب العالمي المقبلة هي اللغة الإنكليزية ويؤشر إلى تسيّد اللغة الإنجليزية على غيرها من لغات العالم في الوقت الراهن، لا يتجلى فقط في تفوق الإنتاج العلمي والتكنولوجي الأميركي، وإنما أيضا في سيرورة الثورة التكنولوجية المذهلة، والممدودة، في مجال الاتصال وتقنياته، والتي تضمن التواصل عبر حروف الشبكة الالكترونية الضوئية في العالم بأركانه، وبسرعة لحظية. هذه الإمكانات لم تكن متاحة من قبل للغات التي هيمنت في مراحل معينة من التاريخ البشري مثل اللغة اليونانية واللغة اللاتينية.
أمام مدّ اللسان الإنكليزي المحقًق هذا، يصبح من الأهمية بمكان العمل على حماية التعدد اللغوي العالمي، أولا، والتنوع الثقافي الإنساني، تاليا، من حيث هو مصدر إثراء للتجربة الإنسانية برمتها. وما الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي الذي أطلقته منظمة اليونيسكو إلا خطوة في هذا الاتجاه حين وضع التنوع الثقافي والتنوع البيولوجي في الدرجة نفسها قياسا إلى الأمن الإنساني العام.
ومن هذا المنطلق تكون الترجمة هي الوسيلة الأنجع لتمكين التواصل بين الثقافات، وتعزيزالحوار بينها، وإثراءالثقافة الإنسانية الكبرى التي تنصهر في بوتقتها كل اللغات والثقافات. ويكون التلاقح بين عوالم الثقافات هو اللقاء الشرعي الذي سيثمر ثقافة إنسانية كونية مشتركة، تشكل هيكلا ثقافيا موحدا، لا على المستوى الألسني المنطوق وحسب، بل على صعيدي القيمة والفكرة أيضا.
مرح البقاعي
التعليقات
أين اللسان العربي؟
الشامي -تضع الأديبة والمفكرة البقاعي يدها على أحد مشاهد العجز العربي والذي يمكن اختصاره بأن العالم العربي بدون لسان أو معوق لغوياً إذا صح التعبير, فاللغة بدلالاتها المركبة هي وسيلة تعبير وآلية تفكير ووعاء ثقافي للاتصال مع الآخر وهي بتكثيفها مرآة تعكس ثقافة بعينها, أحيي الكاتبة على تلك الأفكار الأساسية التي تحاول رفع الفكر العربي إلى مستوى الحداثة وقيمها ومعاييرها وتأصيل ثقافتها وتقويم لسانها للحفاظ على الثقافة والتفاعل مع قيم العصر قبل الذوبان فيه...تحية كبيرة إلى الكاتبة المحترمة وإلى موقع إيلاف الذي يدفع إلىالواجهة الفكرية والثقافية برموز مفصلية في عملية المعاصرة
أزمة السؤال
عبد الرحيم الوالي -أثارني تعليق القارئ الشامي الذي عنوانه "أين اللسان العربي؟" في الوقت الذي يتحدث المقال عن احتمال قيام لسان ما باعتباره لسانا عالميا. ففي طرح هذا السؤال ما يوحي بأن اللسان العربي مفقود و هو ما يخالف الواقع تماما بالنظر إلى عدد الناطقين بالعربية و بالنظر إلى الإنتاج الفكري و الثقافي و الفني و الإعلامي الصادر باللغة العربية. و هو ما يجعله سؤالا استنكارياً بالدرجة الأولى لهذا الواقع باعتباره واقعا غير مرض للسان العربي، أو لنزعة "عربية" معينة، هي ذات النزعة التي يعبر عنها الفكر القومي العربي برمته في اعتباره كل ما هو "عربي" لا بد و أن يكون متفوقاً على كل ما ليس عربياًـ أي ما يدخل في خانة "الأعجمي". ربما كل من ينظر إلى الواقع بعين العقل ينتهي إلى أن هذا الفهم قد جلب ما يكفي من الدمار النفسي و المادي على الشعوب العربية. فالسؤال المطروح اليوم ليس سؤال هيمنة بقدر ما هو سؤال اندماج واع و فاعل في مسار الحضارة الإنسانية من قبل جميع اللغات و الثقافات الإنسانية ضمن مسلسل يكفل شروط الندية و المساواة لكل اللغات و الثقافات. و بالتالي فالسؤال المنطقي الذي يفضي إليه الواقع، و يفضي إليه أيضا مقال الكاتبة، هو: أين اللسان العربي من استيعاب باقي ألسنة و ثقافات العالم؟ و بالمقابل: أين اللسان العربي من جعل نفسه مستوعبا من طرف باقي لغات العالم و ثقافاته؟اللغة، بالضبط، موضوع أسال كثيرا من الحبر في تاريخ الإنسانية من أرسطو إلى اللسانيات الحديثة. و في اللغة تنصهر كل الحضارة الإنسانية إذ لا شيء تنتجه الإنسانية خارج اللغة حتى لو تعلق الأمر بأشكال تعبيرية أخرى مثل التشكيل و النحت و غيرهما. فكل ما يهدف إلى خلق الأثر في الإنسان يستعمل اللغة بشكل من الأشكال و يدفع إلى حوار داخلي أو خارجي يتم، في الحالتين، بواسطة اللغة. ف"كل فعل تحدث مهما كان داخليا يجد درجة من الإصغاء الاجتماعي" كما يقول باختين. و هذا يحدث ـ و سيحدث دائما ـ مع جميع اللغات الإنسانية و لا يقتصر على لسان دون آخر. إن لسان العالم هو كل ألسنة العالم و كل ثقافات العالم في نقاط التقائها و اختلافها أيضا