أصداء

العالم ما بعد أميركا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لم تكن رحلة كريستوف كولومبوس المشهودة ـ وقد قادت إلى كشف القارة الأميركية ـ سَفَرا في المكان وحسب، بل شكّلت نقطة انطلاق إلى عوالم زمن مغاير، زمن أسس لنشوء أمة على رقعة جغرافية قاريّة الامتداد؛ هي أمة تشكّلت من موزاييك بشري عماده كوكبة من المهاجرين الذين تحدّروا من قوميات وأعراق وديانات العالم كافة، أمة عابرة لحدود الثابت والممكن في حالة عامة من التناغم الاجتماعي (الهارموني) ومن التماهي في تيار الحريات الموصولة التي لا تنقطع إلا عند مفرق انتهاك القانون ـ الابن الشرعي للدستورالذي خطّه الآباء المؤسسون؛ الدستور الذي يقارب وثيقة تاريخية من أهم ما أنتجت وصدّرت الولايات المتحدة إلى الشعوب، والذي كانت وما زالت بصماته تظهر ساطعة على معظم دساتير الديمقراطيات في العالم؛ وقد خطّ توماس جفرسون واضع الدستور الأميركي، وواحد من المؤسسين للنظام الجمهوري الديموقراطي، على هوامش الدستور، في محاولة سابقة لزمنها تهدف إلى "عولمة" الفكر الديمقراطي الأميركي الأول: "من المستحيل أن لا نشعر بأن عملنا مسخّر من أجل الإنسانية جمعاء".

يرى فريد زكريا، الكاتب الأميركي من أصل هندي الذي يرأس تحرير مجلة نيوزويك أنترناشيونال، في كتابه الجديد "ما بعد العالم الأميركي"The Post American World، أن تشكل الدولة الأميركية هيّأ لمرحلة من التحول البنيوي الجوهري هو الأول من نوعه في صيرورة التاريخ الإنساني المعاصر؛ وأن هذا التحول شهد صعود القوى الغربية، الأوروبية بالأساس، باتجاه معارفَ وقيمِ ونظم جديدة. بيد أن هذه المرحلة انتهت مع بداية بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة في مستهل القرن التاسع عشر، وهو ما يمثل في نظر زكريا التحول البنيوي الجوهري الثاني في التاريخ العالمي الحديث. وعند هذا التحول الأخير تبدأ رحلة زكريا في كشف "العالم الجديد"، أي مستقبل العالم في ظل تحولات جوهرية جديدة برزت مقدماتها الأولى مع صعود نجم قوى تنافس الولايات المتحدة الأميركية على زعامة العالم.

رحلة كشف إحداثيات "العالم الجديد" سفر في الزمن يخوض زكريا غماره في محاولة للإجابة عن الأسئلة المطروحة، عرضا وعمقا، إثر حروب أميركا في العراق وأفغانستان. وهي الأسئلة التي طرحها عديدون قبل زكريا، وكانت محاولات الإجابة عنها تتراوح بين قائل بانهيار"الإمبراطورية الأميركية" كاعتقاد المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه "صعود و سقوط القوى العظمى" The Fall of Great Powers amp; Rise، وبين من يرى أن الولايات المتحدة الأميركية ستظل فاعلا أساساً في أي نظام دولي مستقبلي، كما يرى ريتشارد هاس في مقال نشره في دورية الشؤون الخارجية Foreign Affairs في عددها لشهري أيار وحزيران 2008 والمعنونة بـ "عالم بلا أقطاب" The Age of Nonpolarity.

يسعى زكريا بين دفتي كتابه الصادر في شهر أيار الفائت عن دار النشر W.W.Norton، إلى الإجابة عن السؤال عينه من خلال المقارنات المبنية على الإحصاءات والبيانات. وتعتمد رؤية زكريا على أن بعض الدول مثل الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا قد تمكنت من تحقيق نتائج لم تكن مرتقبة على صعيد النمو الاقتصادي. كما يرى أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة متفوقة في العمران من حيث المباني الشاهقة، حيث يرتفع أعلى مبنى في العالم اليوم في مدينة "تاي بي"، والذي سيفقد قريبا ريادته العالمية أمام "برج دبي" الذي هو قيد البناء حاليا. كما أن الرجل الأكثر ثراء في العالم هو مواطن مكسيكي، وأكبر مجموعة تجارية هي مؤسسة صينية. لكن كل هذه المقدمات لا تعني، بالضرورة، أن الولايات المتحدة الأميركية ستفقد زعامتها العالمية. والأمر الذي يرجح هذا الاحتمال، عند زكريا، هو أن القوى الصاعدة ضمن التحول العالمي الحالي ليست جميعها قوى معادية للولايات المتحدة؛ يضاف إلى ذلك أن الفضل الأكبر في صعود القوى العالمية الجديدة يعود، في جزء كبير منه، إلى السياسة الأميركية نفسها؛ و يورد فريد زكريا بهذا الخصوص أنه، خلال العقود الست الماضية، لعبت الدبلوماسية والسياسة العالمية للولايات المتحدة دورا كبيرا في نشر اقتصاد السوق، و تمكين الحريات السياسية، وتوسيع التجارة العالمية، وتطوير التكنولوجيا والاتصالات؛ هذا، بالإضافة إلى أن الإفادة من الخبرات والكفاءات الأميركية عالميا، وفي مختلف المجالات، قد لعبت دورا كبيرا في صعود عدد من القوى العالمية الجديدة.

ويشير زكريا في هذا الصدد أن المنافسة الحقيقية للدور الأميركي من طرف دول كالهند أو الصين تظل غائبة حتى الآن رغم تحقيق هذه الأخيرة معدلات نمو اقتصادي كبيرة في السنوات الأخيرة. ذلك أن عائدات النمو الاقتصادي في هذه الدول تذهب في معظمها إلى مواجهة التحديات التي يطرحها النمو الديموغرافي المتزايد فيها، وهو ما يحول عمليا دون توجيه هذه العائدات نحو التصنيع العسكري أو التطوير التكنولوجي، وذلك في الوقت الذي تظل فيه الولايات المتحدة متفوقة على القوى الثلاث التي تليها مجتمعة: ألمانيا وبريطانيا واليابان، علاوة على اتسام الاقتصاد الأميركي بالدينامية، وعلى كون الولايات المتحدة من أكثر بلدان العالم "شباباً" من الناحية الديموغرافية، وأعظمها استقطابا للأدمعة والخبرات والروافد البشرية من بقاع الأرض كافة. وإذا كان عامل النمو الديموغرافي يحول دون أن تلعب الصين أو الهند دور القوة العظمى التي تقود العالم، فإن اليابان يفتقر برأي زكريا إلى القوة البشرية اللازمة من حيث عدد السكان، ناهيك عن افتقاره إلى ثقافة سياسية تؤهله للعب دور من هذا القبيل. أما الاتحاد الأوروبي، في نظر زكريا، فتنقصه الوحدة القومية االلازمة للعمل القيادي الدولي، وهو لا يتصرف على الساحة الدولية كدولة واحدة. كما أن روسيا تواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلية تمنعها من لعب أي دور كقوة تقود العالم.

إضافة إلى هذه العوامل مجتمعة، يرى زكريا أن النظام العالمي الحالي سمح بظهور فاعلين جدد بأنماط مختلفة عن النمط التقليدي المتمثل في"الدولة القومية" باعتبارها الفاعل الذي ظل يحتكر مجال السياسة الدولية في الماضي. ويذكر في هذا الصدد نماذج الجماعات الإرهابية المنظمة، وكذا الشركات العملاقة متعددة الجنسيات. ولا تغيب عن زكريا تلك التحدّيات السياسية والدبلوماسية التي تواجه الولايات المتحدة، فالصين وروسيا أصبحتا فاعلان قويان في العديد من الملفات التي كانت حكراً على الولايات المتحدة لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وفي كوريا الشمالية وفي القضايا الإيرانية المعلّقة؛ لكن زكريا يؤكد أنه لن يكون هناك نظام دولي بدون الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأن دورها سيستمر في تحديد الأجندة الدولية، وترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات الدولية، وتعبئة الموارد، والقيام بدور الوسيط العالمي Global Broker، في عالم يحاول أن ينأى بنفسه عن مشهدية القطب الأحادي Unilateral Power.

وهكذا يرى زكريا أن الولايات المتحدة تحمل في جيناتها المؤسساتية ما يلزم من كروموزونات الصبا الدائم والحيوية السياسية الجاذبة، وأنها ما زالت منيعة عن الإصابة بوهن وترهل الدول الشائخة، وهي ستبقى تدير الدفة الدولية لزمن لا يستهان بامتداده في شريان عالم الألفية الثالثة.

مرح البقاعي

*كاتبة وباحثة أكاديمية أميركية من أصل سوري
marahbukai@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
عصام -

ليس في مصلحة احد ان تنهار امريكا لأن جميع دول العالم هي بحاجه لأمريكا والعالم بحاجه الى قائد ولا يوجد ولن يوجد اي دوله عندها المؤهلات لأن تقود العالم لا الآن ولا في المستقبل وجميع دول العالم تعلم ذلك

سنن الله في ارضه
عبد الجبار -

مهما تحدت الانظمة الوضعية ارادة الله فان هناك سنن الله هي الحاكمة على الوجود ومهما بلغت تلك القوى من سيطرة ونفوذ لا بد ان تزال كل تلك القوى عاجلا او اجلا خصوصا مع ارتكاب الظلم فالملك قد يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم

تعليق
عصام -

الى الأخ عبد الجبار الله لا يتدخل في امور الأنسان فقد اعطانا العقل المفكّر وحرية الأختيار وهذه هي خيارات الأنسان محكومه بتطوره وقدرته على تغيير الأمور

الرد على عصام
عبد الجبار -

كيف لا يتدخل الله وهو صاحب الولاية التكوينية والتشريعية في هذا الكون والله تعالى باعتباره هو خالق هذا الكون فلا يحق لاحد ان يتصرف الا بأذنه فلو كنت انت صاحب اختراع معين هل يجوز ان يتصرف احد بالاختراع الا بأذنك وهكذا بالنسبة للعلاقة مع الله تعالى

مقال ممتاز
طارق حجي -

مقال رصين - كعادة مؤلفتهالمتميزة - يقدم حقيقة كبري (قد يكرها البعض فى واقعنا العربي - ولكنها كبري الحقائق السياسية وهى أن الولايات المتحدة تملك كل عناصر بقائها كقوي عظمي أحادية إذ أن طريق منافسيها جد طويل ... وعلى العرب أن ينشغلوا بتطوير مجتمعاتهم القرون - أوسطية عوضا عن الإنشغال بكيل التهم لأمريكا ... وأن يعلموا أن كره أو حب القوي العظمي عبث مضحك : فلم ]كن أحد يحب أو يكره الأمبراطورية الرومانية وكذا الأمبراطورية البريطانية . وكاعادة ؛ تصيغ الكاتبة الموهوبة كل ما تكتب بلغة تقف على الحد الفاصل بين الشعر والنثر ... طارق حجي

Comparison/ Analysis
Mesnad Almutairi -

Zakaria tries to emphasize the stagnation of the US in everything (e.g. education, social life, industry) compared to the RISE of others such as China, India and probably Brazil. In case of china, for instance, in 1970 its annual imports of goods is equal to one day in 2004/5… The one exception he made is that the US still has the role in terms of military and politics

مشرف باكستان!
جيهان منصور -

المبدعة دائما مرح البقاعي، اصبت واصاب فريد زكريا، امريكا لايمكن ان تنسحب من ميزان القوة العالمية- وان اختلفت مع رأي زكريا في ضرورة وحتمية وجود اقطاب اخرى تعادل التوازن العالمي كروسيا والصين والاتحاد الاوروبي لمصلحة شعوب العالم وعملا بما سطره التاريخ عبر العصور فالاحادية القطبية لا يمكن ان تضمن تطبيق العدالة بين شعوب الارض- الا انني اعتقد ان قوة امريكا ترجع الى انها لم تقم على شخص او قائد، ان مات هو انتهى دورها ، فلم نسمع ابدا في امريكا شعارات مثل"بالروح بالدم نفديك يا كلينتون!" او" امريكا بوش!" او " كارتر كارتر لا تتنحى!" وكل الرؤساء يعيشون عيشة كريمة بعد انتهاء ولايتهم ويمارسون العمل السياسي والاجتماعي، وليس هناك ضرورة ان يموت الرئيس- ربانيا او قضاءا وقدرا!- ليترك البيت الابيض ثم يخلفه ابنه او احد اقربائه! ولكن عملية انتخاب الرئيس اشبه هنا بالمخاض الحقيقي عملا وزمنا ! كما ان امريكا هي دولة القانون - الاعمى بلا رحمة احيانا- لكنه يمتاز – بلاشك – بعدم التفريق بين الناس على اساس الغنى والفقر او المناصب فيتساوى جميع ابنائها امام القانون، كما انها دولة المؤسسات ومراكز الابحاث التي تشارك في اتخاذ وصنع القرار السياسي، دولة عمادها الاقتصاد- وهو ما ادركه التنين الصيني والدب الروسي والاتحاد الاوروبي العجوز وساروا على الدرب ذاته- اضافة الى ان للرأي العام الامريكي كلمة مسموعة يخشاها الساسة قبل العامة، وهناك قانون محاسبة وجلسات استماع في الكونجرس لكل افراد الادارة عسكريين ورسميين، وللكذب عقاب اكبر من الذنب نفسه، لذلك يتم اكتشاف الاخطاء ، الاعتراف بها، ومن ثم تصويبها علنا، و الاهم من كل هذا بل في اعتقادي انه السر الحقيقي لقوة واستمرار امريكا ان المواطن الامريكي يعي حقوقه تماما ويؤمن بالمطالبة بها بكل الوسائل الحضارية والسلميةالمتاحة، لذلك ياسيدة مرح لا يمتلك السياسيون في امريكا القدرة على اخفاء الحقائق ولي ذراعها للأبد وليس ادل على ذلك من استقالة اعتى وزير دفاع امريكي دونالد رامسفيلد بعد فضيحة سجن ابو غريب، فلولا المراقبة والمحاسبة والقدرة على التصويب لما حدث ذلك، ولعل عالمنا العربي يتعلم هذه المرة ليس من امريكا ولا من اوروبا ولكن من استقالة مشرف باكستان بعد 16 شهرا من التعنت نجح في اسقاطه الرأي العام والمعارضة مجتمعان! واختم بالقول الشهير للقائد

لنقلد امريكا
xebato -

حقيقة امريكا اليوم هي قلب العالم ومركز للتوازن السياسي والاقتصادي عبر الجغرافيا. وهذا يعطيها الريادة على الارض لان تكون الاقوى . الحضارة الامريكية قامت على مبادىء ويلسون في حقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.واليوم بعد ان وصل الامريكان الى قناعة انهم مع حلفائهم الغربيون قضموا اصابعهم ندما لانهم دعموا الحكام والانظمة على حساب الشعوب وبالنتيجة حصل الامريكان وغيرهم من صناع القرار على الارهاب الاصولي وتهديد مصالحهم من حول العالم.لن ننسى ان امريكا هي التي جلبت الخميني ودعمت صدام وغيره من الحكام. واليوم تمارس صبرا ايوبيا على الاسد ومبارك وصالح على حساب حق الشعوب في الحرية والاستقلال. لاندري لماذا؟مخطئ من يراهن على تبخر الامة الامريكية الديمقراطية .. فامريكا كيان مستمر .وبدلا ان نفكر بذلك علينا كشعوب تواقة لخبز الحرية والانسان ان نعمل لاجل ان نبني اوطانا عظيمة وقديرة على شاكلة امريكا. لا ان نصبح عبيدا لثقافة الطغاة ونحاول ان نميت امريكا. لن ننسى في قمة عربية ان القذافي كان يحمل بيده سيجارا امريكيا ويقول لمبارك: انظر انا ادخن سيجارا امريكيا. في كناية انه مع امريكا.لن ننسى ان امريكا حمت كردستان العراق ومنعت الجيش الصدامي من ابادة الشعب الكردي.وفي دارفور ايضا. واضطهاد الشعوب المستدام من قبل الحكام . لماذا لانفكر بحريتنا الذاتية ومن ثم الجماعية.الامريكيون تعذبوا لاجل ان يصلوا الى هذا الرقي. بينما نحن بقينا نغوص في مستنقعات العبودية والصمت.اعتقد ان امريكا ستصبح صديقة للشرق حين تقف الى جانب الشعوب المغلوبة على امرها. بدلا ان تغمض عينيها وتصافح ايادي الحكام الملوثة والدامية.دمقرطة العالم الشرقي يكون من الشعوب وبارادتهم . وامريكا اذا كانت صادقة في المشروع الديمقراطي عليها ان تعري الانظمة الشمولية وتقطع عنهم الماء والهواء.علينا ان نعمل لاجل مجتمعات حضارية وعصرية كامريكا.مرح البقاعي وضعت يدها على نزيف الجرح وتعمل لاجل معالجة آلام الشرق ومداواة المرض المستشري. لانها اكتشفت الحقيقة ونالت حريتها الذاتية باكرا.