أصداء

قف لنبكِ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إلى محمود درويش،
في موته الأخير..
إليه قبل أن "يشرب وجهه النسيان"،
وقبل أن تنتهي الأشياء إلى آخرها و"ينكسر الكلام"..
إليه ما قبل الكلام،
وما بعد الكلام...


كم ستبكيك القصيدة، وأنت الآن تغيب على يدين من موتٍ، من دون يديها، اللتين طالما كانتا من يديك، وفي يديك، وإلى يديك، وليديك.
كم ستبكيك تلك التي كنت "تحبها حين كنت تموت، وكنت تشعر أنك تموت حين كنت تحبها"، وكنت تحب أن تموتَ وتموت وتموت، كي تحبها "حتى التعب" وأكثر.
كم ستبكيك التي الآن "تشبه الكآبة" كرغيف المساء، أو "تشبه المدينة حين كنت فيها غريباً"، يوم تغيب في دمك "الغريب" الشريد، هناك، الذي قال لها، موتاً ما، باكياً: "إنّ ثلاثة أشياء لا تنتهي: هي، والحب، والموت".
كم ستبكبكَ التي "خارج ذكريات الله"، حين يتيه النوم بينكما، وحين لن تجد التي "نامت على زندك سنتين"، المأوى إلى يديك، كي "تنام وعين الله نائمةٌ عنكما".
كم سيبكيكَ الوقت، حين يفتقدك، ويُصبح على يدين من يقينٍ، بأنك خارجه، أو متأخر عنه، وأنّ لا وقت لمحمود، ولا محمود للوقت، ولا شعر للوقت، و"لا وقت للوقت"، و"لا وقت في الوقت".
كم سيبكيكَ الوقت، حين "لن يكون يدها كي تراه".
كم سيبكيكَ الوقت حين "يثمر تفاحة" لن تلتقيها.
كم ستبكيكَ الأرض، وأنت الآن، "تعود إلى الأرض"، للمرة الأخيرة.
كم ستبكيكَ القدس، حين تعبر إلى القدس وصلاتها العجولة، للمرة الأخيرة.
كم سيبكيكَ الزيتون، حين تنام بين يديه الغاربتين في "الأخضر الأخير"، للمرة الأخيرة.
كم سيبكيكَ "خبز أمك"، حين "تحنّ" وتصليّ إليه، للمرة الأخيرة.
كم ستبكيكَ "قهوة أمك"، حين تغيب في خطواتها التي كم تشبهك، للمرة الأخيرة.
كم ستبكيكَ "لمسة أمك"، وأنت تدوّنها، في دفاترَ من غيابٍ أكيدٍ، للمرة الأخيرة.
كم ستبكيكَ "فلسطين البروة"، حين تغيب على يديها، للمرة الأخيرة.
كم سيبكيكَ آخر البحر كأوله، وهو الآن "يموت فيك وفيها".
كم ستبكيكَ "أختك الشجرة"، وأنت الآن تتقاسمها، ما فاتكما من علوٍ، وانتظار كبيرٍ.
كم سيبكيكَ الحصان، و"أنت تركته، هناك، وحيداً".
كم سيبكيكَ القمر، حين يمتلئ بغيابك الفادح.
كم سيبكيكَ "النصف الفارغ من الكأس، حين لن تجد الشمس الطريق إليك لتملأه بها".
كم ستبكيكَ الأصابع، التي "هي الفرق بينك وبينها"، "بينك وبينك"، حين تغيب فيها، وتروح وتجيء، بين الزوال والزوال.
كم سيبكيكَ الحاضر، وأنت تغيب واقفاً.
كم ستبكيكَ الحياة، وأنت تموت واقفاً.
كم سيبكيكَ الغياب، وأنت تحضر فيه واقفاً.
كم سيبكيكَ الأمام والوراء، حين "لن يكون الأمام أمامك" ولا "الوراء وراءك".
كم سيبكيكَ الموت الفادح، الذي كانك وأنت في أوج حبها، حين يكتشفك كم أنك "بطيءٌ" إليه، وكم هو بطيءٌ، كأنه أنت إليك.
كم سيبكيكَ الدم الذي "كأنه وطنك"، حين تسكن الموت المجاور ل"قرميد حيفا".
كم ستبكيكَ السماء القتيلة، من أولها إلى آخرها،
والكتاب القتيل، والهديل القتيل، والأبجدية القتيلة، والجهة القتيلة، والصلاة القتيلة، لكأنك هي.
كم سيبكيكَ العابرون إلى الشعر، والخارجون والقادمون منه، والعائدون إليه، والساكنون فيه، والمسكونون به، والمهجّرون والمبعدون عنه، حين تنقص القصيدة، وتنقص الأبجدية، وتنقص الحروف، وينقص الكتاب، وينقص الوقت، وينقص المكان.
كم سيبكيبك "خارج المكان"، المنحدر "من هناك وهَهنا"، الذي هو "ليس هنا ولا هناك"، والذي دخل الموت قبلك و"وصّاك بالمستحيل البعيد، على بعد جيلٍ"؛ حين وصّاك بالتاريخ المستحيل، والجغرافيا المستحيلة، والكتاب المستحيل، والحروف المستحيلة، والوطن المستحيل، والأنثى المستحيلة، وأنت الآن داخلٌ في أوج مكانه المستحيل، وأوج "هناك" ه، و"هنا"ه، وفي أوج مستحيله الكثير، المتناثر، الممتد، من فلسطين تموت هنا، إلى فلسطين تموت هناك.
كم سيبكيك "الكردي الذي ليس له إلا الريح"، وأنت تركته الآن، وحيداً للريح: لميلادٍ وموتٍ من الريح، ووطنٍ من الريح، وجغرافيا وتاريخٍ من الريح، وحدودٍ من الريح، ويدينِ من الريح، وحنينٍ من الريح، وأبجديةٍ من الريح، ونبيذٍ وفودكا ومساءاتٍ من الريح.
كم سيبحث عنك الكردي، في "هويته التي هي لغته"، وفي "لغته التي هي منفاه"، وفي "منفاه" الذي هو الآن "آخر الفراغ"، و"آخر الجهة التي وقعت به"، وآخر الفودكا في آخر المساء، كي ينام فيه، مع الباقي من شماله، والباقي من كائناته، والباقي من "عبور بشروشه"، والباقي من "سديم أختامه"، والباقي من "دينوكا بريفا الآيلة إلى طعنةٍ هادئة".
وأنت الآن في طريقك إلى غيابٍ هو إلى الريح، ترى ماذا وصيت الكردي، الذي "لم يحلم بشيءٍ منذ حلّ الجن في كلماته"، والذي "ليس له إلا الريح تسكنه ويسكنها"، كما ليس له في المنفى، من وصيةٍ، لكرديّه، "إلا الريح"؟

وأنت تموت الآن "بطيئاً بطيئاً"، و تلتقي الموت "مجاناً"، أو تلتقي "جنازة برتقالٍ" كنتها، أو قلتها، قبل قهوةٍ، تعال إلى ما تبقى من كلامٍ، إلى ما تبقى من حروفٍ، وأبجديةٍ، واسرد لنا الكثير الكثير، الذي تبقى منك، ومن القصيدة.
وأنت تموت الآن كبيراً، تعال إلى ما تبقى من حياةٍ، وإلى ما تبقى من شعرٍ، وإلى ما حواليه مما تبقّى من مساءٍ ونبيذٍ، واحكي لنا الكثير الكثير الباقي من اسمك العالي.
وأنت الآن تموت شاهقاً، تعال وهجّي لنا ما تبقى من فلسطين، ما أصبحت عليها، وأخواتها الدائرات في فلك الريح: سياسات من الريح، ومفاوضات من الريح، و"أسلوهات"(جمع أوسلو) من الريح، وعواصم من الريح، واتفاقيات من الريح، وممالك وطوائف من الريح، وزعامات وعمامات من الريح، وإيديولوجيات، وانتصارات إلهيات، و خلافات من الريح إلى الريح.
وأنت الآن تعيش في الموت، كثيراً، تعال وحدّثنا عما تبقىٍ من أرضٍ فاتتك كثيراً، "ما أُعدت لك كي تستريح".
تعال وانشد لنا، ما تبقى من "نشيد إنشادك"، ومن "بابل ومصر والشام"، ومن "انتباه يديها وانتباه الكلام"، ومن "فستق صدرها"، ومن هديلٍ وحمامٍ، ما عاد كعادته، "يحط ويطير"، وانشد ما تبقى من "صباحٍ ما عاد فاكهةً للأغاني".
تعال، و"كن حبيبها" و"زبيبها"، " كي يشفى الرخام".
وأنت الآن منفيٌّ إلى موتك البعيد البعيد، الذي هو كمنفاك، "لا أمام أمامك ولا وراء وراءك"، تعال واسكب في يدينا ما تبقّى من أمامٍ ووراءٍ، يرحمان...تعال واكتب ما تبقّى من الله ووصاياه "فوق الماء".
وأنت الآن تغيب عنا، وعن الوقت، وعمّا تبقى من مكانٍ، ودخلت في البعيد البعيد، "كزهر اللوز أو أبعد"، تعال وخذ ب"يدي المستحيل" ، إلى يديها "المستحيلتين"، اللتين اشتاقتا إلى عبورك المفاجئ، كقهوةٍ على غير ميعادها.

جلستَ في الموت، باكراً، هل ل"يجلس على يديها الكلام"؟
اشتهيت الموت، باكراً، هل لتشتهيها أكثر، ويشتهيها الكلام؟
لذتَ بالعبور إلى الموت، باكراً، هل لتختصر كل اللذيذ من الكلام إلى يديها اللذيذتين، اللتين من لذيذ اليمام.
دخلت الموت وأشياءه، باكراً، هل لتقول لنا الآن، والموت يدوّنك، من البرزخ إلى البرزخ، أن "أربعة" أشياء لا تنتهي: "أنت، هي، والحب، والموت"؟

أربعة أشياء، إذن، تساوي نفسها، لا تعرفها النهاية، وإن انتهت فلا تنتهي إلا إلى نفسها: "أنت.. الذي وقعت في الموت، كي تحبها"،
و"هي.. التي وقعت في الحب، كي تموت في حبها"،
و"الحب..الذي هو هي، موتَ كنتها"، و"الموت.. الذي أنت هو، حبّ كانتك".

والآن..يا كتاباً لا ينتهي، هو اسمك إلى ما لا نهاية؛
يا موتاً لا ينتهي، هو ميلادك، إلى ما لا نهاية؛
يا حباً لا ينتهي، هو هي، التي بينك وبينك، إلى ما لا نهاية؛
ويا حبيباً لا ينتهي، دخلتَها ودخلَتك، إلى ما لا نهاية:
قف..لنبكِ.
قف، لبعض وطنٍ ما أصبحت عليه، لنبكِ.
قف لبعض تاريخٍ، سقط عن ذاكرة حروفنا، لنبكِ.
قف لبعض إلهٍ، غاب عن ذاكرة صلاتنا، لنبكِ.
قف لبعض موتٍ هو الآن أنت، أو شبيهك، لنبكِ.
قف، لبعض حبٍّ هو هي الآن فيك، لنبكِ.
قف، لبعض قصيدةٍ، ستبقى هي أنت، لنبكِ.
قف لنبك يا محمود..
كيلا يكون غيابك، موتاً، أو "موتين"، أو أكثر.
قف لنبكِ..
كيلا يفوت علينا ما تبقى من زهر لوزٍ، وبحرٍ، وزيتونٍ، وقدسٍ، وحمامٍ، وبيروت وشام، وصباحٍ، وقهوةٍ، وكلام..
قف لنبكِ..
كيلا يفوتنا ما تبقى من بكاء..

هوشنك بروكا


hoshengbroka@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف