أمراض البرطَمة وفيروسات التهريج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1-
من أهم مرتكزات الشفافية ممارسة "نقد الذات" وحينما تقوم الدول بممارسة النقد الذاتي بعد كل مرحلة، أو بعد كل كارثة تحسّن حينها من أمراضها، وتقوم بحالة هي أشبه بحالة "التطبب" من الأمراض، أما الشعوب والمجتمعات والدول والنظم التي لا تقوم بممارسة أي نقد ذاتي فهي تعيش على حافة الهاوية. ومنذ القدم عرف نقد الذات على أنه أهم بند يمكن أن يُعمل به بعد أي حرب. لكننا في العالم العربي نمتلك خصوصية "كارثية" حيث نقوم بعد كل حرب بنظم القصائد والكتابات والخطب والتهريج والثرثرة والبرطمة المتنوعة، ولا نعرف طريقنا نحو النقد الذاتي على الإطلاق، لأننا -وفق القصائد والبرطمات-لم نُهزم أبداً، كل معاركنا كانت انتصارات متتالية. لم تقم أي دراسة جادة وعلمية وحقيقية لدراسة أي كارثة من الكوارث الاقتصادية أو البيئية التي تحدث دائماً في العالم العربي. بمعنى أن حس "النقد الذاتي" مفقود جراء اقتناع داخلي أننا أحس الناس، وأننا الجنس الذي لم يخلق مثله في البلاد.
2-
في كتابه المعنْون بـ"نيتشه مكافحاً ضد عصره" كتب رودولف شتاينر الآتي: (عندما وضعت الحرب البروسية أوزارها لم يشارك نيتشه مواطنيه الألمان فرحتهم بالنصر. حتى أنه كتب في عام 1873 في عمله "دافيد شتراوس" عن النتائج "السيئة والخطيرة" لهذه الحرب التي انتهت بالنصر. لقد رأى أنه من الجنون القول بأن "الثقافة الألمانية" قد انتصرت في هذه المعركة وأضاف أن هذا الجنون يمثل خطراً ماحقاً إذ أن هذا الجنون راح يتحكم في أوساط الشعب الألماني كي يحول الانتصار إلى هزيمة كاملة، إنها الهزيمة التي تحط من قدر الفكر الألماني لصالح الرايش الألماني).
3-
إن العبرة في أي حرب ليس مجرد الانتصار العسكري المحض، وإنما "انتصار الثقافة" أيضاً! فما قيمة الانتصارات التي حققتْها الفاشية أو النازية أو الدينية الشمولية إن كانت في أبعادها الداخلية تحمل مضامين فكرية دموية إرهابية، إن الانتصار الثقافي هو المعيار الرئيسي للانتصارات العسكرية وغير العسكرية. لكن اكتشاف الخلل الثقافي لا يتم بالصواريخ والانقلابات والغارات على ما يمارس في فلسطين من قبل منظمة حماس، أو في لبنان من قبل منظمة حزب الله، أو كما تمارسه الانقلابات السقيمة التي تظن أن الانقلاب يحل كل المشكلات العالقة، وهو فيروس ثقافي موجود في أدبيات النضال وفي مذكرات بعض المناضلين المزعومين، الذين خاطروا بتاريخ أجيال على حساب أيديولوجيات فارغة. واقتصرتْ مشاريعهم على التغيير العسكري الحكومي من دون أن تحرك أي ساكن في سبيل تغيير الثقافة وزرع الديمقراطية، وهذه هي نهاية الأحزاب القومية التي لم تُخضع برامجها لمشغلات النقد الذاتي، ما ذا أضافت أحزب البعث للعلمانية؟ وماذا أضافت برامجها المخادعة للشعوب؟ كما أن "الممارسات" الليبرالية التي تنشط الآن في مصر تقوم على أساس تأويلٍ اجتماعي ثقافي "وصولي" من أجل الوصول إلى "الحكم" وليس إلى "قناعات الشعب"!! إذن تشترك الأحزاب بالمخادعة عبر سك العبارات الجاذبة، لكن كل تلك الأحزاب تنتظر الوصول بفارغ الصبر، وهي تردد في جوفها "لكل حادثٍ حديث" كما فعلت الأحزاب الدينية في الجزائر، وفي فلسطين، حيث يقوم الحزب بالانقلاب على الدستور، ليصبح الحزب هو "الدستور" بوصفه الحزب "الديني" أو "الإلهي" الذي يطبّق الشرع.
4-
إن "النقد الذاتي" المفقود تماماً من أدبياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية يجب أن يكون هو "المطهّر" الحضاري لكل الكوارث والآلام والأوجاع التي تحاصرنا، سواء كانت تلك الكوارث سياسية، أو اقتصادية. المهم أن يكون هذا المبدأ هو المحرك الرئيسي لكافة تحركاتنا ولكل مخططاتنا، فأي كارثة تمر من دون نقد ذاتي تعني اختفاء مرض لم يعالج داخل الجسد المريض. وهذا ما جعلني في مقالة فائتة أكتب بوضوح عن "شفافية" تمتلكها أنظمة نحن على خلاف معها، كإسرائيل، أو غيرها من دول العالم.
نحن لم نعلم بعد أن الخروج من كارثتنا الحالية، وهي الكارثة العربية المتشابكة لن يكون بغمضة عين، ستمر مجموعة من الأجيال المتعاقبة قبل أن يطهّر الجيل السابق الجيل اللاحق، ونحن إن لم نغير ثقافتنا فإننا سنورثها كالجينات للجيل اللاحق، لتكرس في ذهنه ومخه، حينها تصبح مهمة الخروج صعبة للغاية، أما حينما تنتهي الموارد التي تمنعنا من السقوط في الهاوية، فإن آسيا ستصبح نسخة من أفريقيا فشح الماء والحبوب والجفاف وقرب استنفاد الطاقات الأرضية يجعل المراجعة ليست خياراً تغدو حينها "شرط الشروط" من أجل استمرار الوجود.
فهد الشقيران
كاتب سعودي
shoqiran@gmail.com