أصداء

أمير الدراجي و الرحيل الصامت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بصمت و تحت جنح العواصف الثلجية الباردة و غربة الروح و الجسد القاتلة و معاناة العمر و التشرد الطويلة رحل بصمت قاتل الأخ الكاتب و المفكر العراقي المرحوم ( أمير الدراجي ) الذي تكالب عليه المرض اللعين و نهش من روحه الشفافة وهجم عليه هجمة لا ترحم و يالسخرية الأقدار بعد أن إرتاح قليلا من تشنجات الزمن و بعد أن توفرت له لأول مرة في حياته المتعبة المرهقة قواعد بسيطة للأمان و الإستقرار، رحل أمير الدراجي و سيدفن في حديقة نرويجية تظللها ضيفا الإشجار الباسقة الخضراء و تغطيها شتاءا ثلوج النقاء و الصمت البيضاء لتنتهي بذلك رحلة عمر صاخبة و حافلة بالتحولات و المواقف التراجيدية التي عاناها و لا زال يعانيها أجيال طويلة من الأدباء و المثقفين و الكتاب العراقيين من الذين ملأوا الدنيا عطاءا و تبشيرا بقيم الحرية و الإنسانية و الخير و السلام و لكنهم للأسف لم يستطيعوا أبدا أن يحققوا و لو جزءا يسيرا من تلك الأحلام و الطموحات في بلدهم المتخصص بإنتاج و تسويق و تعليب و حتى تصدير الدكتاتوريات بكل أشكالها من القومية المتعصبة للوطنية الساذجة ووصولا للدينية الزاعقة المتوحشة، رحل أمير الدراجي في الديار النرويجية و في قرية صغيرة محاذية للحدود السويدية وهو يمني النفس المنهكة و الجسد العليل بأن يشاهد وطنه العراق و بأن يعود لملاعب صباه في مدينة ( الناصرية ) الجنوبية تلك المدينة الوديعة التي أنجبت عمالقة الفكر و الفن و السياسة في العراق المعاصر و التي كانت خزينا دائما للعطاء و التألق في مختلف الميادين رغم وضعيتها الرثة و فقر أهلها شأنها شأن بقية مدن العراق و قراه المسحوقة، كان آخر إتصال لي بالمرحوم قبل شهور بعد أن سمعت صوته عبر الهاتف منهكا و شبه معدوم نتيجة لحالة الشلل التي أصابته فإدركت إنها النهاية الحتمية لصديق قديم إلتقيت به قبل أكثر من ربع قرن، و جمعني معه العمل الإعلامي المعارض لسلطة الدكتاتورية البعثية البائدة، و عملنا معا في صحيفة مشتركة رغم أن توجهاتنا الفكرية و السياسية كانت متباينة بالكامل و لكن الإحترام الشخصي فيما بيننا كانت مساحنه واسعة رغم حالات النفور و التوتر الطارئة، و الغريب و في خضم أجواء التآمر و الدس المخابراتي إننا قد وقعنا ضحية لمكيدة سياسية من أحد الأطراف و الجهات كتبت عنها سابقا و سأكتب لاحقا كانت نتيجتها إعتقالي في المخابرات السورية بتهمة ملفقة كانت ستقذفني خلف الشمس لولا إرادة الله سبحانه و تعالى و مواقف الطيبين، وكان نصيب أمير الدراجي منها أن هرب بجلده للبنان ليضيع هناك وسط جموع اللاجئين الفلسطينيين و يعيش معاناتهم و يتلمس مصائبهم و لتترك تلك الفترة الرهيبة آثارها المباشرة على أعصابة و صحته و أحواله العامة وهو الذي تجرع التعذيب الرهيب على يد أكثر من جهاز أمني سواءا في الشام أو غيرها و رحل عن دنيانا و جسده لا زال يحمل رصاصة صهيونية لم تستخرج من قدمه لدوره في مقاومة الإجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982!!، إنها الأقدار العجيبة التي تقرر مصارع الرجال و لحظات ترجل الفرسان، و منذ صيف 1984 لم نلتق أبدا إلا بعد ما يقارب الثمانية عشر عاما حينما تلقيت في أوسلو إتصال من صديق مشترك هو الكاتب العراقي و المترجم المعروف و شريك رحلة العناء و التشرد الشامية الأخ وليد الكبيسي يخبرني فيه بأن أمير الدراجي و الذي كان يكتب المقالات سابقا بإسم ( أمير أبو جودة ) يجلس بجانبه و يود محادثتي!! وقتها إستعدت تاريخ كامل من الدسائس و المؤامرات التي كنا ضحيتها و التي شتتنا في مشارق الأرض و مغاربها، فأخيرا كانت الأمم المتحدة قد إنتبهت لمأساته و أعادت توطينه في النرويج و تلمس لأول مرة في حياته الصاخبة طعم الحياة الحرة الكريمة و الرعاية الصحية و النفسية و فهم تمام حقيقة معنى أن يكون الإنسان إنسانا، و لكن لم يمهله القدر فإستراحة المحارب قد أدت في النهاية لهجوم الأمراض و العلل التي تراكمت على جسده المنهك العليل حتى شلته وهو في أوج عطائه الفكري، و تلك هي الأقدار.. فإلى الراحة الأبدية و إلى رحمة الله يا صديق الغربة وزميل التشرد و المعاناة.. و رحم الله الأديب و الكاتب أمير الدراجي و لا بقاء في النهاية إلا لوجه الخالق الكريم.

داود البصري

dawoodalbasri@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
موقف جيد
جمال سعيد -

موقف جيد من الكاتب ازاء المرحوم امير الدراجي خصوصا سبق للبصري وان هاجم المرحوم في عدة مقالات !! ويبقى السؤال لماذا لانعترف بالاخرين ألا بعد موتهم ؟!

رحل الأمير وبقت بعده
كركوك أوغلوا -

الكلمات يتامى !!..

شكرا داوود
سعد العنزي- الكويت -

شكرا داود البصري على مشارعرك النقية والرائعة بحق زميلك الذي احببناه من خلال هذه السطور- والذي سيدفن في حديقة نرويجية تظللها ضيفا الإشجار الباسقة الخضراء و تغطيها شتاءا ثلوج النقاء و الصمت البيضاء- أن طعم الموت في تلك الامكنة الصامتة قد يكون قاسيا لمن كانت حياته صاخبة-اخوك