تيد كنيدي.. البوصلة الحقيقية!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قبل سنة من وفاته تقريباً ابلغ السناتور تيد كنيدي جمهوراً حاشداً من الديموقراطيين في مؤتمرهم القومي بمدينة دنفر قوله: "جئت الليلة الى هنا لأقف معكم من اجل تغيير اميركا، ومن اجل استرداد مستقبلها، والمناداة بأرفع مثلنا، وانتخاب باراك اوباما رئيساً للولايات المتحدة. ان بلادنا سوف تلتزم بقضيته. ويبدأ العمل من جديد، فينتعش الامل ويحيا الحلم".
وبعد سنة من هذا الخطاب وقف الرئيس باراك اوباما يرثي السناتور تيد كنيدي بقوله: "لا نبكيه اليوم من اجل المقام الذي ارتبط باسمه او بمنصبه، اننا نبكيه لأننا نحب هذا البطل الدمث الخلوق الذي ثابر على النضال بالرغم مما عاناه من آلام ومآس، لا من اجل طموحه او غروره، ولا من اجل ثروته وقوته، لكن من اجل الشعب والوطن اللذين احب. اننا نودع اليوم ادوارد، الابن الاصغر للسيدة روز والسيد جوزف كنيدي، الذي سوف يتذكره العالم طويلاً باعتباره وريث قضية كبرى ونصيراً للمعدمين".
وفي مراسم جنازته عبر احفاده وابناء اشقائه عن جانب من افكاره السياسية والانسانية، ومؤداها ان البشر لا يقاسون بما لم ينجزوا بل بما في مقدورهم ان ينجزوا، كي تصبح العناية الصحية لعموم الناس حقاً اساسياً لهم وليس امتيازاً، ولكي تنتهي الى غير رجعة السياسات القديمة القائمة على العرق والجنس، ومن اجل قبول الوافدين الجدد بمعزل عن لونهم او محل ولادتهم، ومن اجل ان تقف دول العالم متحدة في مواجهة العنف والبغضاء والحرب.
لقد قال السناتور كنيدي قبل وفاته ان اكثر ما يعتز به في حياته السياسية التي امتدت ستاً واربعين سنة في مجلس الشيوخ هو تصويته في المجلس المذكور ضد الحرب في العراق عام 2003. وكانت معارضة باراك اوباما لتلك الحرب عاملا ً اساسياً في تبني كنيدي ترشيحه للرئاسة.
ويقول كنيدي حول تصويته ضد حرب العراق في كتاب مذكراته الصادر هذا الشهر بعنوان "البوصلة الحقيقية": قلت، وكررت مرارا،ً انه ليست هناك قضية عادلة في احتلال العراق. ذلك ان العراق لم يشكل اي خطر يبرر شن حرب وقائية فورية، ولم يكن هناك نمط مقنع من العلاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة، وقد وجهت الاتهام من منبر مجلس الشيوخ في شهر تموز/ يوليو من العام 2004، بأن تلك الحرب، قامت على تلفيق مزور طبخ في تكساس، من اجل تعزيز المنزلة السياسية للرئيس بوش. وقلت ايضاً ان ادارة الرئيس بوش اطلقت الكذبة تلو الكذبة تلو الكذبة، بغية اطلاق جورج دبليو وترويج ابشع السقطات في تاريخ السياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية.
وفي موقفه من الحرب، تأثر تيد كنيدي بافكار شقيقه الرئيس الراحل جون ف. كنيدي الذي القى في العام 1963 خطاباً مشهوداً في حفل تخرج لطلاب الجامعة الاميركية في واشنطن، في عز استعار الحرب الباردة طرح فيه اعز قضية على قلوب الناس، وهي قضية السلام، واصفاً اياها بأنها [الموضوع الاهم في العالم]. وفي ذلك الخطاب التاريخي قال الرئيس كنيدي: [كثيرون منا يعتقدون بأن التفكير بالسلام مسألة غير واقعية، لكن هذا اعتقاد انهزامي خطير، لأنه يؤدي الى نتيجة مفادها ان الحرب مسألة محتومة، وان الجنس البشري محكوم بالفناء، واننا مستلبون لقوى لا سيطرة لنا عليها. اننا لسنا مضطرين لقبول تلك الافكار. فالمشكلات التي نعاني منها هي من صنع الانسان، وبالتالي فان الانسان بوسعه ان يجد لها حلولاً].
وبعد مقتل شقيقه الثالث روبرت كنيدي الذي كان يمثل ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ على يد سرحان سرحان رثاه شقيقه الاصغر تيد بخطاب اعتبر اشارة لصعوده الى زعامة عائلة كنيدي والحركة الليبرالية. وقال في ذلك الرثاء: [لا لزوم لرسم هالة مثالية حول اخي، او تكبيره في مماته الى اكثر مما كان عليه في حياته، لأنه ببساطة كان انساناً طيباً ومحترماً يرى الخطأ ويحاول تصحيحه، ويرى المآسي ويحاول بلسمتها، ويرى الحروب ويحاول وقفها].
فلا احد من كبار الشخصيات السياسية الاميركية خلال نصف القرن الماضي تلبس عميقاً الرؤيا الليبرالية التي انطلقت على يد الرئيس فرانكلين روزفلت مثل السناتور تيد كنيدي، وهي رؤيا مؤداها انه يجب توجيه قوة الحكومة نحو تحسين احوال اكبر عدد ممكن من الاميركيين، مع تركيز خاص على المهمشين والمحرومين منهم.
وكان اكبر خطأ في التقدير وقع فيه كنيدي، محاولته الفاشلة لازاحة مرشح الحزب الديموقراطي الذي ينتمي اليه، الرئيس جيمي كارتر، للحلول محله في الانتخابات الحزبية التمهيدية لعام 1980، لأنه بذلك اسهم في اضعاف حملة كارتر في الانتخابات الرئاسية مما ساعد على فوز منافسه الجمهوري رونالد ريغان الذي باشر على الفور تطبيق افكار القوى المحافظة التي عبر عنها بالقول [ان الحكومة ليست هي السبيل الى حل مشكلاتنا، بل ان الحكومة هي المشكلة]. وظل كنيدي يقاوم افكار ريغان هذه طيلة ثلاثة عقود في معارك متلاحقة خسر فيها بمقدار ما ربح.
اما زلاّت كنيدي البشرية كالغش في امتحانات اللغة الاسبانية عندما كان طالباً في الكلية، او معاقرة الخمر وملاحقة النساء في شبابه، ثم حادثة تشاباكويديك التي اودت بحياة فتاة تعمل لديه بحادث سيارة كان يقودها بنفسه، فانها اسهمت في عرقلة طموحه السياسي. فقد عملت تلك الاخطاء السياسية والزلات الشخصية على انهاء طموحه الى الرئاسة. لكنه ما لبث ان ركز جهوده على اصلاح اوضاعه لرفع مكانته السياسية والتشريعية والشخصية. ومن ذلك انه بعد طلاقه من زوجته الاولى تزوج في العام 1992 من السيدة فيكتوريا عريجي، وهي اميركية من اصل لبناني، فأضفى هذا الزواج على حياته الاستقرار والسعادة. وفي النتيجة لام كنيدي نفسه، لا اي شخص آخر، على ما اصابه من اخفاقات، فواجه نقاط ضعفه بشجاعة وعزم، محولاً نفسه من جراء تلك المواجهة مع الذات الى عملاق سياسي والى صوت للمسحوقين والمهمشين في اميركا.
ظل الرئيس جون كنيدي يردد العبارة الانجيلية القائلة: [كل من اعطي كثيراً يطلب منه كثير] (لوقا 12:48) وقد طبق شقيقه الاصغر تيد كندي مضمون هذه الحكمة الواردة في انجيل لوقا مكرساً حياته لخدمة الضعفاء، فلم يكف عن النضال من اجل قيام رعاية صحية جيدة ورخيصة، ومن اجل رفع مستويات التعليم، وزيادة الحد الادنى للاجور، وتثبيت الحقوق المدنية. كان بليغاً متأجج العاطفة، لكن الاهم من ذلك كان رجل فعل ينفذ ما يقول.
وفي شهر تموز/ يوليو من العام 2005 حمل السناتور باراك اوباما رسالة من زميله تيد كنيدي الى البابا بناديكتوس السادس عشر اعترف فيها بهفواته البشرية قائلاً للحبر الاعظم: [اعلم انني انسان ناقص لكنني احاول تقويم مساري بفعل ايماني]. كما ابلغ البابا في تلك الرسالة انه ظل طوال حياته يقاوم عقوبة الاعدام ويقف ضد الحروب. كان كاثوليكياً نقياً صميماً وحقيقياً، يؤمن بأنه يمكنك ان تغفر للناس، وان هؤلاء بدورهم سوف يتوبون. وكتب رسالة الى المدعي العام في كاليفورنيا يطلب منه عدم اصدار حكم الاعدام بحق سرحان بشارة سرحان قاتل اخيه، وتمنى عليه ان يحفظ حياته.
ويقول جون ميكاشام رئيس تحرير مجلة [نيوزويك]: [ان السناتور كنيدي كان يعرف يقيناً ان العالم محفوف بالمآسي والنكبات، وانه لن يتماشى مع رغباتنا تماماً. فالقوانين تفشل، والسرطان يضرب ويتفشى، والقتلى يسفكون الدماء، لكن المهم هو ان نواصل السير والحركة، وان نتعلم من اخطائنا وخطايانا، وان نعمل على خلاص نفوسنا].
كذلك كتب ليونارد فاين يقول: [كان تيد كنيدي ابعد ما يكون عن القداسة، لكنه يتبين ان القداسة ليست شرطاً للعظمة]. بل الواقع انها لم تكن ابداً شرطاً لها. فالعظمة قد تنشأ احياناً من اخفاقاتنا واخطائنا. فهي تبني الخلق الرفيع وتنمي العاطفة والوجدان، وهي دائماً تتعزز وتترسخ بمعرفة حقيقة السقوط في التجربة.
وبصدق لخص الرئيس اوباما حياة تيد كنيدي في خطاب رثاه بالقول: [لقد انطوى فصل مهم، وفقدت بلادنا قائداً عظيماً التقط الشعلة من اخوته فكان اعظم من دخل مجلس الشيوخ في زماننا].
ان رسالة كنيدي الداعية الى التفاؤل، والى نصرة المحرومين، تنبعث من الاغنية الشعبية المحببة اليه: [اتبعوا الشخص الذي يتبع الحلم]!
* الدكتور عودة ابو ردينة اميركي من اصل عربي يقيم في واشنطن. المقال تنشره "ايلاف" بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي" الصادر في لندن ـ العدد ١٢٨ لشهر ايلول/سبتمبر 2009