أصداء

قصة الأمس

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لم أكن أريد الكتابة عن كل هذا، ولكننى كنت أستمع كما هى عادتى لأغنية من أغانى "الست". وحينما تقول الست فى مصر فأنت بالتأكيد تقصد أم كلثوم. وكانت الست تشدو بأغنيتها الخالدة "قصة الأمس":

"أنت الذى بدأ الملالمة والصدود وخان حبى

فإذا دعوت اليوم قلبى للتصافى لن يلبى"

أعادنى صوت أم كلثوم وكلمات الشاعر أحمد فتحى، للتأمل فى تلك الأحداث المعاصرة؛ هل كنا نسمع عن استفتاءات سويسرية بشأن مآذن للمساجد من قبل؟ وهل عارض السويسريون من قبل أن يبنى المسلمون المهاجرون مساجد لهم فى شتى أنحاء سويسرا؟ هل قام الرسامون من قبل فى الدانمارك أو غيرها بمثل ذلك الهجوم على رموز للدين الإسلامى؟ وهل سمعنا من قبل عن قوانين تحرم الحجاب ببلد الديموقراطية "فرنسا"؟ وهل شهدنا عضو مجلس نواب ينتج فيلماً تسجيلياً يهاجم خلاله وبمنتهى الوضوح الشريعة الإسلامية وممارسات المسلمين كما شهدنا بفيلم "فِتنة" لجيرت ويلدرز؟ بل وهل استخدم الغرب من قبل آليات الحرب هذه ضد بلدان يدين معظم شعبها بالإسلام منذ الحروب الصليبية قبل مئات الأعوام وبالتحديد منذ القرن الحادى عشر؟ فماذا حدث إذن؟ بل وقد يقول البعض أن حى الحروب الصليبية لم تكن إلا رد فعل لسقوط القدس واسبانيا فى يد العرب المسلمين.

ولكن قد يعود ويرد أحدهم بأن الغرب قد غزا الشرق مجدداً حين عاد واستعمره لمئات السنين. أرد وأقول أن الاستعمار الغربى، جاء بعد الاستعمار التركى العثمانى للمنطقة بأسرها كردة فعل لانهيار الامبراطورية العثمانية ثم لهزيمة تركيا فى الحرب العالمية الأولى. ولم يهاجم الغرب الشرق عسكرياً إلا فى عام 1956 نتيجة لاستيلاء عبد الناصر على شركة قناة السويس للملاحة كرد فعل لرفض البنك الدولى وأمريكا تمويل السد العالى بمصر. وحتى قيام دولة اسرائيل، لم يجئ خلال صراع عسكرى بين الغرب والشرق وإنما بقرار من مجلس الأمن، رفضه وقتها العرب وأعلنوا الحرب على اسرائيل عام 1948.

تخيل الغرب الذى تعايش مع الإسلام كل تلك السنوات، ومنذ فشلت الأنظمة العربية جمعاء فى إتاحة الحياة الكريمة لشعوبها، فبدأت طوفان الهجرة الشرعية وغير الشرعية من تلك البلدان لأوروبا أولاً ثم لأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا. تخيل الشعوب الغربية هذه وهى تتلقى تلك العشرات ثم المئات والألوف حتى وصلت لدرجة الملايين من هؤلاء الأجانب الذين زحفوا من بلدانهم الفاشية المستبدة الغارقة فى الفشل الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، واحتضنتهم الشعوب الغربية الديموقراطية الغنية بمواردها وبآلياتها المنفتحة، فاحتضنت هؤلاء المهاجرين. فقط طالبتهم بالاندماج فى ثقافة المجتمعات الجديدة والالتزام بقوانينها الوضعية. لكن الذى حدث بعدها أن الغالبية من هؤلاء المهاجرين إلتزموا بفعلاً بتلك المعاهدة غير المكتوبة، بينما راحت أقلية تقاوم تلك المنظومة.

وللأسف جاءت تلك المناهضة على أساس دينى أصولى، لم يكن ممارَساً أو حتى معروفاً أصلاً لغالبية المسلمين ولعدة قرون، حتى فى تلك البلدان التى جاء منها هؤلاء المهاجرون. وجاء تعضيض وتمويل ذلك التيار مع الأسف من ناحية بلادنا العربية الإسلامية، ولكن لم يواجَه هذا التيار فى حينه بالرغم من منطقية خطورته، تمسكاً من الشعوب الغربية بنظمهم الليبرالية المنفتحة. بل وقامت هذه الجماعات تدريجيا باجتذاب أنصار لها من بين هؤلاء المهاجرين تارة، ثم أبنائهم تارة أخرى، تحت أعين الشعوب الغربية، المكبلة بقيود الديموقراطية والليبرالية، التى منعتهم من التدخل، إعلاء لمبدأ الحرية وعدم التفرقة أو التمييز. وفى الوقت ذاته تنامت قوة الجماعات الدينية، وانتشر مؤيدوها فى جميع أنحاء المسكونة، وبالذات فى أحضان نظام فاشل آخر، رفع راية الفاشية الدينية فى أفغانستان، حيث أرسوا معسكرات لتدريب المجاهدين الجدد على فنون القتال. وفى نفس الوقت قام القادة الإسلاميون باضفاء الطابع السياسى على تلك الحملة، مقحمين الصراع العربى الإسرائيلى للمعركة تارة، ثم حرب العراق الأولى مستهجنين التدخل الأمريكى لتحرير الكويت وتدنيسهم للأراضى السعودية، تارة أخرى، بل ودعوا صراحة لخلق مجتمع جديد فى الغرب، شديد الشبه بالبلدان الفاشلة التى أتو منها. وفى لحظة حدثت المواجهة؛ فى يوم 11 سبتمبر 2001.

أنت الذى بدأ الملالمة والصدود وخان حبى

فإذا دعوت اليوم قلبى للتصافى لن يلبى

انطلقت شرارة الحرب بين الغرب المطعون، وبين الحركة العالمية الإسلامية الجديدة، وعاصمتها فى ذلك الوقت "أفغانستان"، وقوامها العددى الأكبر خارج البلدان العربية والإسلامية داخل أوروبا. توالت الهجمات العنيفة فى شكل تفجيرات، أقل حدة من الهجمات الأمريكية، ولكن تتابعها بمختلف البلدان الأوروبية كان بمثابة إعلان عن ذراع المعسكر الإسلامى الطويل. وعلى الجانب الآخر، دخل الغرب فى غمار المعركة بإعلان الحرب على أفغانستان وحركة "طالبان"، ثم حرب "العراق" الذى انقسم فيه الغرب نفسه على جدواها.

ولكن فى رأيى أن الحرب الأكثر أهمية، كانت تلك الحرب الباردة التى شنها الغرب على الممارسات الدينية والسياسية التى اعتنقها بعض المسلمين فى شتى أنحاء الأرض وبالذات فى المنطقة العربية وأوروبا، والتى بدأت من بعد أحداث سبتمبر واستمرت إلى الآن. ومع ذلك فقواعد اللعبة من ناحية الغرب مازالت تحاول التمسك بإطار الديموقراطية والليبرالية كشرط أساسى، بالرغم من كونها حرباً يخوضها الغرب، لأول مرة، ضد بعض من مواطنيه فى داخل حدود بلاده، وليس كما خاض الغرب الحرب الباردة التى شنها ضد الاتحاد السوفييتى والكتلة الشرقية خارج حدوده من قبل. وتأتى هذه الأهمية لشقين. الأول بسبب محاولة الإلتزام بالقواعد الديموقراطية خلال الخوض فى تلك الحرب، فنجد لأول مرة أن أدوات الحرب وأسلحتها قد امتدت لتشمل البرلمان والمحكمة ورجال القانون ورجال المال والبنوك من ناحية الغرب، وووسائل الإعلام بأنواعها والشبكة العنكبوتية ومنابر المساجد من ناحية حركات الإسلام السياسى وعلى رأسها تنظيم القاعدة.

لذلك، فمع كل معركة من المعارك ما بين الجانبين، وآخرها معركة المآذن بسويسرا، نجد الجانبين وقد تمسك كل بأسلحته، فنسمع عن ثرى عربى يطلب تصريحاً من البلدية لبناء مئذنة لجامع تبرع بأمواله لبنائه، ابتغى لها أن تقوم أعلى من أى مبنى بالمدينة السويسرية الصغيرة، ونسمع عن حزب صغير يقوم محتجاً بجمع مائة ألف إمضاء للسعى إلى طرح مشروع قانون لمنع بناء المآذن بسويسرا، ونسمع عن استفتاء شعبى يشمل كل مواطنى سويسرا يظهر خلاله موافقة أغلبية صغيرة من السويسريين على منع إقامة مآذن بالمساجد الجديدة التى تبنى بسويسرا. وعلى الجانب الآخر يتبنى الإسلاميون حملة إعلامية لمقاطعة سويسرا، وتجميد المدخرات الإسلامية بالبنوك السويسرية، بل وأسمع من أحدهم وهو مهاجر لبريطانيا ذو مركز مرموق، وهو ينعت عضو برلمانى سويسرى بالنازية، والهتلرية، علناً على منبر قناة فضائية شهيرة، بدون اعتبار أن ذلك يعد من أشد أنواع القذف خاصة بين شعوب تتحدث الألمانية، ثم يعود ويوجه لكماته للشعب السويسرى والغربى برمته، واصفاً هذه الشعوب التى استضافته فى بلادها وآوته بالشعوب الجاهلة المساقة إلى أعمالها لمجرد أن تدفع الضرائب، ثم تعود لبيوتها لتسكر أثناء متابعتها للبرامج التليفزيونية التافهة حتى تنام وتستيقظ لتعيد الكرة من جديد. ثم اختتم منظومته تلك بتصريحه بأن "الإسلام سينقذهم" لو كانوا يريدون، تماماً كما ينادى الإخوان فى بلادنا بأن "الإسلام هو الحل".

أنت الذى بدأ الملالمة والصدود وخان حبى

فإذا دعوت اليوم قلبى للتصافى لن يلبى

لذلك فأنا أرى أن تلك الحرب باردة أخطر وأشد فتكاً من الحرب التقليدية كالحرب على العراق التى انتهت تقريباً أو على وشك الإنتهاء على كل حال، والحرب ضد أفغانستان التى أعلن الرئيس أوباما أن يوليو 2011 سيكون قد بدأ انسحاب القوات الأمريكية وتحويل المسؤوليات الأمنية للقوات الأفغانية تدريجياً. أى إن المواجهات العسكرية لابد لها أن تنتهى خلال فترة محدودة بغض النظر عن نتيجتها. أما الحرب الباردة فتمتاز برخص تكاليفها السياسية والمادية والمعنوية، فلا جنود قتلى أو مصابون، ولا كلفة موجعة للعتاد والسلاح، ولا مجال لخسارة كاسرة تستدعى سنوات من إعادة البناء. إذن فالحرب الباردة تلك قد تطول وتطول حتى ينتصر أحد أطرافها. وبالمقارنة بين الشيوعية والكتلة الشرقية، فى حربها مع الغرب منذ خمسينيات القرن الماضى وحتى سقوط حائط برلين عام 1989 وانتهاء الحرب الباردة بعد سقوط وتفكيك الإتحاد السوفييتى، وبين تنظيم القاعدة وحلفائه وأنصاره مهما كثر عددهم وتنامت قوتهم الاقتصادية وقدرتهم على المقاومة والصمود، فأنا أعتقد أن هذه الحرب ستمتد لسنوات بعد، لأن العامل الإيمانى والدينى المستجد، الذى دفع بالمئات بل والآلاف لأن يضحوا بكل شيء وحتى حياتهم نفسها، قد يؤثر على طول المقاومة ومدة الصراع. وأرى حتمية الانتصار فى النهاية لقوى الديموقراطية والليبرالية من جديد. لذلك فمعركة اليوم لابد لها أن تستمر ولابد لمعارك جديدة أن تعقبها، ولكنى لا أعتقد أن مصالحة ما قد تنهى تلك الحرب الباردة لسبب بسيط وهو أن:

أنت الذى بدأ الملالمة والصدود وخان حبى

فإذا دعوت اليوم قلبى للتصافى لن يلبى

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف